السيد أحمد صقر - من أدبنا المجهول: المنصف لابن وكيع المصري المتوفى سنة 393هـ

كان أبو الطيب المتنبي (354هـ) يرسل قصائده الفرائد فتسري في أرجاء العالم العربي مسرى الأضواء، حاملة بين اطوائها بذور نقدها، فتملأ الدنيا بدويها، وتشغل الناس بحديثها، فمنهم من يكبرها ويغلو في إعظامها والإعجاب بها، حتى يملك عليه الإعجاب أقطار نفسه، ويأخذ بمسارب حسه؛ ومنهم من يحقرها، ويغض من شأنها، ويسرف في ثلبها، حتى ليكاد يخرجها من حلبة الشعر، ويسل صاحبها من بين الشعراء؛ وبين أولئك وهؤلاء أقوام قد تفارتت حظوظهم من المودة والبغضاء، والإعجاب والإزراء، فيكثرون من الحديث عنها والجدل فيها كما قال المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهر الخلق جراها ويغتصم

ولعل أهم مسألة شغلت النقاد، واستأثرت بنشاط أفكارهم مسألة سرقات المتنبي، فقد كان الرجل واسع الثقافة، دائب الإطلاع على أشعار الشعراء، يجيل النظر فيها، ويعمل العقل، ويدير الفكر بنفس مشوقة وحس جميع، فكان إذا جاشت نفسه بالقريض ربما ألم بهذا المعنى أو ذاك، وطاف بهذه الفكرة أو تلك شاعراً بما صنع أو غير شاعر، وقد اهتبل النقاد مسألة السرقات هذه، وحاول بعضهم أن يصدم بها المتنبي في مجالس الإنشاد، وأتخذها الحساد غرضاً يصوبون إليه سهامهم المسمومة لعلهم ينالون من عظمته، ويديلون من ذكره، فيشفوا بذلك نفوسهم، ويذهبوا غيض قلوبهم. وكان أول من عرض لها وكتب فيها الصاحب ابن عباد وأبو علي الحاتمي (388). ولما ألف الجرجاني (366هـ) كتاب (الوساطة) أدار الحديث فيه عن هذه السرقات، وأفاض حتى أنفق فيها أكثر صحائف الكتاب. وجاء معاصره ابن وكيع المصري فألف كتاب (المنصف في الدلالات على سرقات المتنبي) وابن وكيع هذا (شاعر بارع، وعالم جامع، قد برع على أهل زمانه، فلم يتقدمه أحد في أوانه، وله كل بديعه تسحر الأوهام، وتستعبد الإفهام) وله ديوان شعر جيد ولد في مدينة تنيس بالقرب من دمياط، ومات بها في جمادي الأولى سنة 393، وقد ضاع ديوان شعره، ولم يبق من كتاب المنصف إلا نسخه واحدة فيما يقول برو كلمان، محفوظة في مكتبة برلي برقم 7577، وهي تقع في 167 لوحة، وفي كل لوحة صفحتان، يستغرق الجزء الأول منها 148 لوحة، واللوحات الباقية من الجزء الثاني. . . وهو كتاب نفيس حقاً أضعه في ثقة وأمن في طليعة كتب النقد الأدبي، واعد مؤلفه في مقدمة الطبقة الأولى من أعلام النقد، لا في القرن الرابع وحده بل في كل العصور. ولنفاسة هذا الكتاب وطرافته، لا أريد أن أحدثك عن فكرته وأسلوبه ومنهجه، بل أذر مؤلفه يحدثك عن ذلك كله لتتبين بنفسك أغراضه ومقاصده، وتتعرف بذوقك رأيه وتفكيره، ولئن كان الكتاب يعرف من عنوانه كما يقال فإنه أيضاً يفهم من مقدمته.

قال ابن وكيع: (أما بعد حمد الله والصلاة على رسوله الكريم، وعلى آله المصطفين الأخيار الطيبين الأبرار، فإنه وصل إلي كتابك الجليل الموضع، اللطيف الموقع، تذكر إفراط طائفة من متقدمي عصرنا في مدح أبي الطيب المتنبي وتقديمه، وتناهيهم في تعظيمه وتفخيمه، وأنهم قد أفنوا في ذلك الأوصاف وتجاوزوا الإسراف، حتى لقد فضلوه على من تقدم عصره عصرَه وأبر على قدرِه قدره. وذكرت أن القوم شغلهم التقليد فيه عن تأمل معانيه، فما ترى من يجوز عليه جهل الصواب، في معنى ولا إعراب. وذكرت أنهم لم يكتفوا بذلك حتى نفوا عنه ما لا يسلم فحول الشعراء من المحدثين والقدماء منه، فقالوا: ليس له معنى نادر، ولا مثل سائر، إلا وهو من نتائج فكره، وأبو عذره، وكان لجميع ذلك مبتدعاً، ولم يكن متبعاً، ولا كان لشيء من معانيه سارقاً، بل كان إلى جميعها سابقاً، فادعوا له من ذلك ما ادعاه لنفسه على طريق التناهي في مدحها، لا على وجه الصدق عليها فقال:

أنا السابق الهادي إلى ما أقوله ... إذا القول قبل القائلين مقول

وهذا تناه ومبالغة منه كاذبة، وقد يأتي الشاعر بضد الحقائق، ويتناهى في الوصف وهو غير صادق. وذكرت أنك عارضت دعواهم بأبيات، وجدتها في شعره مسروقات، فادعوا فيها اتفاق الخواطر، ومواردة شاعر لشاعر. واحتجوا عليك بامرئ القيس في قوله:

وقوفاً بها صحبي علىَّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمل

فوافق خاطره خاطر طرفة في قوله:

وقوفاً بها صحبي علىَّ مطيهم=يقولون لا تهلك أسى وتجلد

وأحببت إنهاء ما عندي إليك، غير متحيف لك ولا عليك، فأقول والله الموفق للصواب: إن القوم لم يصفوا من أبي الطيب إلا فاضلاً، ولم يشهروا بالتقريظ منه خاملاً، بل فضلوا شاعراً مجيداً، وبليغاً سديداً، ليس شعره بالصعب المتكلف، ولا اللين المستضعف، بل هو بين الرقة والجزالة، وفوق التقصير ودون الإطالة؛ كثير الفصول، قليل الفضول. لكنه بعد هذا لا يستحق التقديم على من هو أقدم منه عصراً، وأحسن شعراً، كأبي تمام والبحتري وأشباههما، فإني لا أزال أرى من منتحلي الآداب من يعارض شعريهما بشعره، ويزن قدريهما بقدره، من غير انتقاء للشعر استعمل فيه كد فكره، ولا استقصاء نظره، وإنما قلد الخطوة الرافعة، والشهرة الذائعة، والنفوس مولعة بالاستبدال والنقل، لهجة بالاستطراف والملل، ولكل جديد لذة، فلما كان شعره أجد فيهم عهداً، كانوا له أشد ودا. وهبنا أغضينا لهم عن تفضيلهم إياه على من لا يشق غباره، ولا يعشر مقداره، مع علمنا في ذلك أن مذهبهم أوضح فساداً من أن نطلب لهم المعارضة، أو نتكلف من أجلهم المناقضة، فكيف بالإغضاء عن نقيهم عنه ما لا يسلم منه بدوي أو حضري، جاهلي أو إسلامي، من استعارة الألفاظ النادرة، أو الأمثال السائرة. وإذا كانت مستعملة في أشعار جميع الناظمين من القدماء والمحدثين. وسلمنا لهم نفيهم عن أبي الطيب ذلك كنا قد سلمنا لهم أنه أفضل أهل الشعر في كل أوان وعصر. وهذه دعوى لا بد من كشف أسرارها وإظهارها، وهي بالعناية أولى من الأولى، لأن تلك دعوى خصت طائفة، وهذه تعم جميع القائلين من الأولين والآخرين. ولقد ادعى قائلها إفكاً واسعاً، وظل للحق فيها دافعاً؛ لأنه أدعى وقوع جميع الشعراء فيما سلم أبو الطيب منه، وفقرهم إلى ما غنى عنه، وهذه صفة تتجاوز الصفات، وتكاد تشبه المعجزات. ولو علم صدقها أبو الطيب من نفسه لجعلها آية له عند تنبيه، ودلالة على صحة ما ادعاه من تنويه، يتحدى بها أهل دعوته.

(البقية في العدد القادم)

السيد أحمد صقر

مجلة الرسالة - العدد 825
بتاريخ: 25 - 04 - 1949

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى