د. محمد سيف الإسلام بوفلاقة - قصيدة النثر في ميزان النقد

ترتبط قصيدة النثر بتسميات متعددة من بينها:الشعر المنثور، و النثر الشعري، و النثيرة، و القصيدة المضادة،وهي تسميات مختلفة لنمط من الكتابة سميت شعراً لدى بعض النقاد،وذهب البعض إلى اعتبارها نصاً إبداعياً،و نظماً لا يعتمد على وزن، أو قافية.
رؤى نقدية لقصيدة النثر
لقد اعتبر الكثير من الدارسين الذين أيدوا قصيدة النثر أنها نوع من أنواع الشعر لأنها تشترك معه في الصور والأخيلة والموسيقى والجمل المنسقة تنسيقا شعرياً أخاذًا(على حد تعبيرهم). ونادوا بتحرير الشعر من جميع القيود، بما في ذلك الوزن، وقالوا: إن تعريف الشّعر بأنّه «كلام موزون مُقفى» تعريف غير صحيح، وادعوا بأن الوزن يقتل الفكرة، والقافية تجعل الشاعر يضطر لها ليبحث ويحشو الألفاظ حشواً لا طائل تحته. وقد شاعت هذه الكتابة في لبنان في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وتبنتها مجلة «شعر» ومجلة «حوار» وجريدة «النهار» وصحيفة«لسان الحال» .
أما النقاد الذين عارضوا هذا النمط من الكتابة فقد رأوا أنه ليس في هذا النظم شيء من الشعر، وهو بدعة غريبة ولا يختلف في شيء عن سجع الكهان الذي عرف عند العرب منْذُ الجاهلية الأولى، كما أنه يتشابه مع مقامات بديع الزمان الهمذاني، والحريري، وتوقيعات الخلفاء العباسيين، وغيرها)1(.
لقد جاءت القصيدة النثرية نتيجة لدعوة بعض المحدثين من الشعراء إلى ضرورة خلق نوع من الشعر يتحرر فيه أصحابه من قيود الوزن والقافية،وأسموا إنتاجهم(القصيدة النثرية)،و هذا النوع من الكتابة «متداول مألوف في تراثنا العربي من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث،وكان حاضراً دائماً عند المبدعين والنقاد،ولكن أحداً لم يسمه شعراً ولا قصيدة،بل عد لوناً مستقلاً من الكتابة الجامعة بين خصائص النثر والشعر.وقد أطلق عليه مصطلح نقدي يميزه،وهو(القول الشعري).
وفي العصر الحديث مارسه كتاب كثيرون مثل:أمين الريحاني،وجبران،والرافعي،وحسين مردان،وغيرهم،وأطلقوا عليه تسميات مختلفة كالشعر المنثور،والنثر الفني،والخاطرة الشعرية،والنثر المركز،والكتابة الحرة...»)2(.
ويذهب الدكتور وليد قصاب إلى أن هذا المصطلح(قصيدة النثر) يعد مصطلحاً فاسداً«لقيامه على الجمع بين نقيضين(الشعر/القصيدة)و(النثر) وهما لا يجتمعان،لا في ثقافتنا العربية وحدها،بل عند نقاد غربيين كثيرين:فأما في تراثنا النقدي فالنصوص الدالة على هذا لا تكاد تحصى،وأما عند الغربيين،فيقول إليوث،وهو من أكبر شعراء الحداثة في الغرب(الشعر الحر تسمية خاطئة،وذلك لأنه ما من شعر يمكن أن يكون حراً لدى من يريد أن يحقق فيه الإتقان).
وأعلن إليوث أن الحرية لن تكون أبداً هروباً من الوزن في الشعر،وإنما هي السيطرة عليه وإتقانه.وتقول إليزابيث درو في الرد على ما تسميه بدعة،تقول بأن الشعر يمكن أن يتخلص من كل النغمات المنتظمة من أوزان وقواف،قائلة-بعد أن تورد نموذجاً من شعر(وليم كارلوس وليمز):هل مثل هذا الشعر يثير الإعجاب؟ذلك أمر سيظل مرده إلى الذوق الشخصي،ولكننا لا نستطيع أن نسميه شعراً.
ويقول تزفيتان طودوروف(يتميز الخطاب الشعري-في المقام الأول وبطريقة جلية-بطبيعته النظمية)» )3(.
ويرى أدونيس أن قصيدة نثرية يمكن أن لا تكون«شعراً ولكن مهما تخلص الشعر من القيود الشكلية والأوزان،ومهما حفل النثر بخصائص شعرية،تبقى هناك فروق أساسية بين الشعر والنثر.أول هذه الفروق،هو أن النثر اطراد وتتابع لأفكار ما،في حين أن هذا الاطراد ليس ضرورياً في الشعر.وثانيها،هو أن النثر ينقل فكرة محدودة،ولذلك يطمح أن يكون واضحاً.أما الشعر فينقل حالة شعورية،أو تجربة،ولذلك فإن أسلوبه غامض بطبيعته.والشعور هنا موقف،إلا أنه لا يكون منفصلاً عن الأسلوب كما في النثر،بل متحد به.ثالث الفروق هو أن النثر وصفي تقريري،ذو غاية خارجية معينة ومحدودة.بينما غاية الشعر هي في نفسه،فمعناه يتجدد دائماً بحسب السحر الذي فيه،وبحسب قارئه.
هذا يعني،بتعبير آخر،أن طريقة استخدام اللغة مقياس أساسي مباشر في التمييز بين الشعر والنثر»)4(.
وينطلق أدونيس من وصف التعبير الشعري الجديد بأنه تعبير بمعاني الكلمات وخصائصها الصوتية والموسيقية،والقافية هي جزء من هذه الخصائص لا كلها،وهذا ما يجعله يخلص إلى أنها ليست من خصائص الشعر بالضرورة،أي أن الشكل الشعري الجديد هو،بمعنى ما،عودة إلى الكلمة العربية،إلى سحرها الأصلي،وإيقاعها،وغناها الموسيقي والصوتي.
كما يشير كذلك إلى أن في قصيدة النثر موسيقى«لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة.بل هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة،وهو إيقاع يتجدد كل لحظة.
تتضمن القصيدة الجديدة،نثراً أو وزناً مبدأ مزدوجاً: الهدم، لأنها وليدة التمرد،والبناء لأن كل تمرد على القوانين القائمة،مجبر ببداهة،إذا أراد أن يبدع أثراً يبقى،أن يعوض عن تلك القوانين بقوانين أخرى،كي لا يصل إلى اللاعضوية واللاشكل.فمن خصائص الشعر أن يعرض ذاته في شكل ما،أن ينظم العالم،فيما يعبر عنه.
إن الشعر بطبيعته،يرفض القيود الخارجية،يرفض القوالب الجاهزة والإيقاعات المفروضة من الخارج،وهو يتيح طواعية شكلية إلى أقصى حدود التنوع،بحيث إن القصيدة تخلق شكلها الذي تريده،كالنهر الذي يخلق مجراه.
التغير لا الثبات،الاحتمال لا الحتمية ذلك ما يسود عصرنا،والشاعر الذي يعبر تعبيراً حقيقياً عن هذا العصر هو شاعر الانقطاع عما هو سائد ومقبول ومعمم،هو شاعر المفاجأة والرفض،الشاعر الذي يهدم كل حد،بل الذي يلغي معنى الحد،بحيث لا يبقى أمامه غير حركة الإبداع وتفجرها في جميع الاتجاهات.هكذا تتجه القصيدة العربية لكي تصبح ما أسميه(القصيدة الكلية)،القصيدة التي تبطل أن تكون لحظة انفعالية،لكي تصبح لحظة كونية تتداخل فيها مختلف الأنواع التعبيرية،نثراً ووزناً بثاً وحواراً غناء وملحمة وقصة»)5(.
نود أن نشير في هذا الصدد إلى رؤية الناقد سلمان كاصد لقصيدة النثر في التجربة الأدبية الإماراتية،وهي الرؤية التي اعتمدت على منهجين:المنهج البنوي والتفكيكي.
ولا شك أنه لا يمكن أن تقوم مقاربة التجربة الشعرية الإماراتية على الانطباعية فقط،وأن يذهب الدارس لهذه التجربة إلى ردود الفعل الشخصية للقارئ بعيداً عن قواعد القراءة العميقة،ومناهج تحليل الخطاب المنظمة.
إن قراءة النص الشعري الإماراتي الحديث لابد أن تستفيد من تطور المناهج،ومن تلاحم الثقافات واتحادها،ومن المزج بين التراث والمعاصرة.
وفي قراءة الناقد الدكتور سلمان كاصد سعي واضح إلى تطبيق المنهج البنوي مع الممازجة بينه وبين الرؤى التفكيكية،فوفق رؤيته لابد من رصد تصورات ورؤى شعراء جيل الشباب في الإمارات العربية،وذلك عبر«اكتناه المعاني العميقة التي حاولوا طمرها في نصوصهم الشعرية التي لا تقل أهمية عن الشعر العربي الحديث الذي نجده في الأقطار العربية المختلفة من حيث:
1-البنيات الحكائية.
2-الوظائف الانفعالية.
3-المكونات الأسلوبية.
4-حداثة الشكل البنائي»)6(.
ومن خلال محاولته النصية التي تتمثل في محاورة عوالم القصيدة الإماراتية الحديثة ارتأى الدكتور سلمان كاصد أن يجترح مفهوم المؤثر النصي الذي يرشح المنهج،والذي يكشف عن مكونات القصيدة،حيث يقول عن منهجه في الدراسة:« أي أن القصيدة هي التي تفرض منهجها النقدي الذي يعالجها،لذا كان تعدد المفاهيم بين التفكيكية والبنوية طريقاً نعتقده فاعلاً في سبر أغوار تلك القصيدة التي تحاول آليات هذين المنهجين أن تصل إليها لتكشف عن بناها العميقة وهي بحد ذاتها قراءة ليست بالضرورة نقول إنها وصلت إلى(كل المعنى)،بل هي تحاول أن تصل إلى تخومه في القصيدة التي يكتبها شعراء الإمارات في تحولهم الحداثي الذي بدأ يطرق كل أبواب التغيرات السوسيولوجية والأنظمة البنائية في المجتمع والثقافة والاتصال بالآخر ومضارعته»)7(.
و يصف الناقد الدكتور سلمان كاصد الجيل الشعري الجديد في الإمارات العربية المتحدة بالجيل الذي أخذ على عاتقه ممارسة طرح إشكالية هذا العالم في المنظور الشعري الذي يتمثلونه ،و شكل معطى جديداً بفعل انفتاح رؤاه على قوانين من الشعر الحديث اصطلح عليه بقصيدة النثر تارة،أو بقصيدة الشعر الحر تارة أخرى، كما يرى أن القصيدة الحديثة التي يكتبها شعراء الإمارات تمتلك أسلوباً حداثياً يعنى وبشكل فاعل بقارئ النص الذي نفترض فيه(منتجاً للمعنى)،أي باعتباره قارئاً إيجابياً لا يكتفي باستقبال النص الشعري بسلبية المعنى الشعري المكتمل بذاته.


الهوامش:
(1)للتوسع ينظر:د.سعد بوفلاقة:الشعريات العربية:المفاهيم والأنواع والأنماط،منشورات بونة للبحوث والدراسات،1428هـ/2007م،ص:162-163.
(2) د. وليد إبراهيم قصاب:النثيرة(قصيدة النثر):إشكالية المصطلح والنشأة،مقال منشور بمجلة الأدب الإسلامي،مجلة فصلية تصدر عن رابطة الأدب الإسلامي العالمة،العدد: 63، 1430هـ/2009م،ص:16-17.
(3) د. وليد إبراهيم قصاب:النثيرة(قصيدة النثر):إشكالية المصطلح والنشأة،المرجع نفسه،ص:17.
(4)أدونيس علي أحمد سعيد:مقدمة للشعر العربي،منشورات دار العودة،بيروت،لبنان،ط: 01 1971م،ص:112.
(5) أدونيس علي أحمد سعيد:مقدمة للشعر العربي،ص:116 وما بعدها.
(6)د.سلمان كاصد:قصيدة النثر-دراسة تفكيكية بنيوية في الشعر الإماراتي الحديث،إصدارات دائرة الثقافة والإعلام،حكومة الشارقة،2004م،ص:06.
(7) د.سلمان كاصد:قصيدة النثر-دراسة تفكيكية بنيوية في الشعر الإماراتي الحديث،ص:10.



الدكتور /محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة
قسم اللغة العربية - جامعة عنابة - الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى