د. غسان لافي طعمة - البحور الخاصة..

أثارتني عبارة ذيّل بها نص أدبي نثري في مجلة أدبية تخصصية مرموقة:» لهذه القصيدة بحورها الخاصة..!!
وقفت أمام هذه العبارة قرأتها أكثر من مرة و كنت أقرؤها و أعود فأقرأ النص كاملاً لعلي أتلمس شيئاً من كلمات هذه العبارة في ذاك النص و لا أقول القصيدة لأن النص نص نثري بامتياز و من هذا النثر : «وقتي مستنقع ملوكه الضفادع النزقة لن أتقن كيف أصوغ المناسبات لكل وقت عصيب، أزجر تلك الأسئلة نفسها و هي تحوم حول رأسي كعويل الذباب الأرعن : أسراب الذباب تلتهم ضياء الشمس ...
إذا هذا نثر و ليس قصيدة ، و أرى في كتاب الفرنسية –سارة برنارد -قصيدة النثر أشياء تخص الأدب الفرنسي و ليس أدبنا فالقصيدة كيان و النثر كيان و لا يمكن إضافة هذه إلى ذاك و إلا وقعنا في حالة من الفوضى و الفوضى لا تنتج إبداعا إنسانيا خالدا , و لكل فن قواعده و قوانينه .
و بعد فرضه أنها قصيدة رأى أن لها بحورها الخاصة و الأمر المثير انه يفترض أن لكل قصيدة بحورها الخاصة أي نوطتها الموسيقية الخاصة – و هنا أذكر أن العالم اللغوي الخليل بن أحمد الفراهيدي وضع – النوطة الموسيقية للشعر العربي و هو لم يأت بشيء من عنده فالموسيقا الشعرية موجودة في قصائد الشعراء قبله و في زمنه و هو وضع – النوطة الموسيقية – لهذه القصائد فخرج بخمسة عشر بحراً ، أو مقاماً موسيقياً و جاء بعده – الأخفش –فوضع المقام السادس عشر و في العصر العباسي جدد بعض الشعراء كأبي نواس و أبي العتاهية من خلال هذه المقامات و في الأندلس حصل التجديد في الموسيقا الشعرية من خلال الموشحات التي لم تبتعد كثيراً عن المقامات الموسيقية الشعرية العربية و إن غيرت أو جددت التوزيع الموسيقي للقصيدة .
وفي أربعينيات القرن العشرين كان تجديد الموسيقا الشعرية العربية مع الرواد : بدر شاكر السياب ، نازك الملائكة ، عبد الوهاب البياتي ، نزار قباني ........ واعتمدت التفعيلة كوحدة أو جملة موسيقية تتكرر فالأسطر تطول وتقصر بما يتناسب مع الدفقات الشعورية والحالة النفسية للشاعر ، يقول السياب :
أصيح بالخليج ... يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع الصدى
كأنه النشيج
ياخليج
يا واهب المحار والردى...
فكان شعر التفعيلة إغناء لاحدود له للموسيقا الشعرية العربية ولكن النوطة الموسيقية ظلت حاضرة . أما أن يكون لكل قصيدة بحورها الخاصة أي إيقاعاتها الموسيقية الخاصة فهذا نوع من تعويم الفوضى والخروج عن قواعد الفن ، ولافن خارج قواعده وقوانينه وأما قول صاحب النص :
(لم أتعلم تنظيم الوقت ورصف مساكبه
يعزفني الزمان..دو ...ره...مي)
وزعمه أن له بحوره الخاصة، فإنه يتطلب قدرة على التنجيم والفتح بالفنجان وضرب المندل ويتطلب من الدارسين والنقاد العودة الى نصوص جبران خليل جبران النثرية والبحث والتنقيب عن بحورها الخاصة ، وقد ذكرت- جبران – كنموذج وهناك نماذج كثيرة تمتد الى ميخائيل نعيمة ومي زيادة ومصطفى صادق الرافعي وكثيرين .. ولذلك أعود الى التأكيد إن زعم بعضهم أن لكل نص نثري بحوره الخاصة نوع من التعمية وتعويم الفوضى تقضي على الفن ولاتخدمه البتة .

د. غسان لافي طعمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى