هو لا يدري هل ما يراه حقيقة، أم أنه مازال يحلم؟
يتذكر جيدا أنه رأى في حلم مضجر، قبل لحظات، قرص الشمس يسقط فوق جثته التي اجتمعت حولها النسور والغربان، لكن الغريب في الأمر أن جسمه لم يحترق، وأن الجوارح والطيور القمامة لم تفر إلى وجهة بعيدة .......!
إنه مستيقظ تماما، يشعر بألم حاد في ساقه، ويشم رائحة احتراق قوية توشك أن تخنق أنفاسه... يا للهول، تذكر الآن، قبل أن تمر الطائرة فوق مدرعتهم كانوا خمسة...، وكان من الممكن أن يكونوا سبعة، لو لم يتخلف الأمير ونائبه في آخر لحظة، بعد تبادلهما لهمس خفيف، لم يعرف باقي أعضاء السرية مضمونه.
حاول عبثا أن يرسل بصره بعيدا، للبحث عن الرفاق، لكن يبدو أنه من شدة التورم المحيط بعينيه، لم يعد يستطيع أن يرى شيئا عدا العتمة، سمع قفزات خفيفة، ومناوشات بين آكلي الجيف، تتخللها أصوات حادة، خمن أنها أصوات طيور جائعة تتصارع حول وليمتها، فشعر بفزع شديد، وبدأ يحدث نفسه، أنكون ميتين حقا؟
قبل أن تغادر الشمس جحرها معلنة ميلاد صباح ذلك اليوم، الذي لا يختلف عن غيره من صباحات بلاد جن جنونها للدم، خرجوا لاستطلاع خطوط العدو الذي لا يعرفون من يكون، ولا تحت أية راية يقاتل!
هو عدو.. لأن القذائف التي تمزق صمت معسكرهم تأتي من جهته، على حد زعم القائد أبي حمارة الدهشقي، أو الجنرال المفخخ، كما يحلو له أن يسمي نفسه. وهو خصم في الميدان.. لأنه بهذه الصفة القدحية يمنحهم الحق في الوجود.. حسب خليفته المفترس الذي يطلي لحيته الشوكية بالأحمر القاني، ليبدو للجميع متناسقا مع اسم انتزعه بجدارة منذ أول مهمة كلف بها داخل المجموعة حينما اصطحبه معه في دوريته الخاصة: أسروا امرأة كردية جميلة، وبعد تصفية مرافقها أمام عينيها بأعصاب باردة، طلبوا منها أن تكون الدرة الأولى في عقد حريم المجاهد الجديد، لكنها رفضت بدعوى أنها متزوجة، أخبروها أن زوجها مات، ردت أن المقتول أخوها، وأن زوجها حي يرزق، ولا يحل لأحد شرعا أن يتخذها حليلة إلا إذا طلقها زوجها، واستوفت العدة. لما تأكد المفترس من ثباتها على رأيها صرف الجميع، وغرز أنيابه في وريدها، وتركها جثة هامدة، وعندما وصلوا، واجهه بعمله الشنيع أمام أميرهم الدهشقي:
وقبل أن يقبض دماغه المغيب في قنينة الخمر على شظايا إجابات بدت متناثرة في فراغ لا متناه، شرع أحد المهاجمين في المحاكمة وتلا صك الاتهام شاملا الأحكام:
" بتهمة النوم في وقت للعبادة، وحيازة الخمر في البيت، ونوم النساء عاريات بوجود رجال راشدين، حكم على الذكور الكفرة بالموت، والنساء بخدمة الزعيم، وفي رمشة عين سقطت رؤوس عن أغصانها، إلا رأسه هو، فقد أمر أبو حمارة بألا يطير، لأنه طائر أصلا بفعل الشراب المقدس.
كم هي لعينة خمرة الشعير تلك، لقد جعلت قطع رؤوس إخوته وأبيه، وتطاير دمائهم على الجدران القديمة كقطف الفاكهة في الحقول الغافية على سفح الجبل من زمن الأنبياء والأولياء، وما تلاهم من الصعاليك والطواغيت، وقطاع الطرق، والساسة، وشداد الآفاق، واللصوص. والأدهى من ذلك أن نصف قنينة منحه الحق في الحياة، وجعله من أقرب المقربين لدى الزعيم الناري، قرابة خلصته من عار الأخوات اللواتي لم يقدمن لجحافل المقاتلين، وحظين بزيجات مريحة من كبار قواد التنظيم، وجعلت أمه أميرة تسعى الصبايا عند قدميها، وينحني لها المقاتلون، بدل أن تمتد أصابعهم القذرة لفاكهتها الطازجة التي لا تذوي رغم تعاقب الفصول. كان كلما رأى غرف المؤمنات المجاهدات يصطف أمامها عشرات الجنود المتسخين ذوي الروائح النتنة، يحمد الله على النعمة.. نعمة القنينة العجيبة التي، ورغم هول ما حدث، حولته من عدو لدود إلى قواد ونديم، وبعدها قائد سرية، وحفظت كرامة أهله.
سأله الوهراني:
شارك هذا السر الخطير مع الوهراني منذ البداية، لكنه منعه بشدة، محذرا من عواقب ذلك على النساء، ووعده بترتيب ثأر لائق، أثناء اشتباك حاد مع مقاتلي الطائفتين القويتين الذينَ ترميهم الفوضى القائمة في طريقهم كلما أرادوا القتال للحصول على غنائم أو سبايا. فبقي مستكينا لوجع دفين، يقطع أحشاءه كلما وقعت عيناه على عيني أمه الجائعتين للدم، وانتظر بفارغ الصبر مجيء اليوم الموعود، دون أن يخفت في أذنيه صدى كلمات الوهراني: " عليك أن تعلم جيدا أن الكل هنا يعرف أن نواعم قوات النظام لن يقتلوا نعجة؛ لذا لا تفكر في ثأرك إلا إذا اصطدمنا بالعدو القوي الذي يزهق الأرواح، حتى لا يشك بأمرنا أحد... عليك بذات الشوكة القوية يا رجل، كي تقتل الكلب المسعور، وتكون أول من يبشر الجماعة بدخول أميرهم الجنة من باب الشهداء "
مرت فترة غير يسيرة على صمت الوهراني، لم تند عنه حركة أو آهة أو سؤال سخيف. جال في خاطره أن الرجل قد يكون فارق الحياة؛ فاجتاحه رعب كبير، وشرع يصيح بصوت بالكاد يسمع:
وخزه شعور قوي بالوحدة، فتحامل على جراحه، وقام بدفعة قوية مكنته من قلب جسده الذي سطرت عليه شظايا القذيفة أسطرها الدموية، ومضى زاحفا حتى ارتطم بالجثة، حركها يمينا وشمالا ولم يتلق استجابة، فدس وجهه في الرمال وحاول بكل ما أوتي من حزن أن يبكي، لن ينسى أبدا أن الوهراني كان ولي نعمته، فهو من علمه الرماية، و أشركه في غاراته الأولى، واقترحه أميرا لدوريتهم التي تخصصت في الاستطلاع، و استقطاب النساء للمقاتلين بعدما اشتد عوده، ونال لقب أبا كلثوم. تذكر غنائمهم الأولى، صبايا وزوجات وأمهات، اقتلعن من حياتهن الهادئة، ليصرن بأمر الزعيم جوار يقدمن الخدمة والمتعة لمشردين يعتنقون عقيدة القتل والجماع، و يغيرون النساء أكثر مما يغيرون ملابسهم الرثة، غير آبهين برائحة الجيف التي تفوح منهم.
شعر بفداحة إصابته، وعجزه الكبير الذي ربما سيحول بينه وبين الثأر، ويبقيه أسير ذله وعبوديته سنين أخرى، غضب كثيرا لأن المفخخ لم يخرج برفقتهم كما اتفقوا البارحة، لعن المفترس من أعماقه للمرة الألف، لأنه هو من نصحه بعدم الخروج، وقرر أن يريح نفسه بالاستسلام للنوم. لكن صوت محرك خفيف قطع عليه غفوته.. ألقى السمع، جاءه صوت الخطوات المتسارعة أولا، ثم تبين حديثهم، كانوا أمريكيين يتحدثون عن ثلاث جثت فوق الرمال تنهشها الغربان، يبدو أنهم لم يروهما بعد، ابتسمت دواخله، نزع الراية السوداء ولف بها رشاش الكلاشنكوف، وحفر بجنون في الرمل المبتل بالدماء، ثم دفن الحمل الثقيل مرددا كلمات رفيق الدرب والسلاح، " إنها الحرب أقتل كي لا تموت ، لا تدن بولائك لغير أمارتك بالسوء، وحالما تعجز عن أن تكون منتصرا . اعتبر نفسك مدنيا أسيرا فينتهي بك المطاف في هوامش مدن الغرب الباردة، بين الهاربين من أتون هذا الشرق المحترق، تتنفس هواء جديدا خال من أوامر السادة التي لا تنتهي، وواجبات الثأر والعار، وحبات رمل الصحراء. "
ابتسمت دواخله مرة أخرى، أراد أن يصيح ليسمعوه، حاول ملء رئتيه بهواء كاف يمكنه من الصياح، لكنه أحس وخزا حادا في صدره وأعلى ظهره، فمد يده يتحسس مصدر الألم. أواه... لن يستطيع التخلص من الحزام الناسف الذي لفه الوهراني على صدره قبل خروجهم هذا الصباح كي يمحو عاره قبل أن يموت.
يتذكر جيدا أنه رأى في حلم مضجر، قبل لحظات، قرص الشمس يسقط فوق جثته التي اجتمعت حولها النسور والغربان، لكن الغريب في الأمر أن جسمه لم يحترق، وأن الجوارح والطيور القمامة لم تفر إلى وجهة بعيدة .......!
إنه مستيقظ تماما، يشعر بألم حاد في ساقه، ويشم رائحة احتراق قوية توشك أن تخنق أنفاسه... يا للهول، تذكر الآن، قبل أن تمر الطائرة فوق مدرعتهم كانوا خمسة...، وكان من الممكن أن يكونوا سبعة، لو لم يتخلف الأمير ونائبه في آخر لحظة، بعد تبادلهما لهمس خفيف، لم يعرف باقي أعضاء السرية مضمونه.
حاول عبثا أن يرسل بصره بعيدا، للبحث عن الرفاق، لكن يبدو أنه من شدة التورم المحيط بعينيه، لم يعد يستطيع أن يرى شيئا عدا العتمة، سمع قفزات خفيفة، ومناوشات بين آكلي الجيف، تتخللها أصوات حادة، خمن أنها أصوات طيور جائعة تتصارع حول وليمتها، فشعر بفزع شديد، وبدأ يحدث نفسه، أنكون ميتين حقا؟
قبل أن تغادر الشمس جحرها معلنة ميلاد صباح ذلك اليوم، الذي لا يختلف عن غيره من صباحات بلاد جن جنونها للدم، خرجوا لاستطلاع خطوط العدو الذي لا يعرفون من يكون، ولا تحت أية راية يقاتل!
هو عدو.. لأن القذائف التي تمزق صمت معسكرهم تأتي من جهته، على حد زعم القائد أبي حمارة الدهشقي، أو الجنرال المفخخ، كما يحلو له أن يسمي نفسه. وهو خصم في الميدان.. لأنه بهذه الصفة القدحية يمنحهم الحق في الوجود.. حسب خليفته المفترس الذي يطلي لحيته الشوكية بالأحمر القاني، ليبدو للجميع متناسقا مع اسم انتزعه بجدارة منذ أول مهمة كلف بها داخل المجموعة حينما اصطحبه معه في دوريته الخاصة: أسروا امرأة كردية جميلة، وبعد تصفية مرافقها أمام عينيها بأعصاب باردة، طلبوا منها أن تكون الدرة الأولى في عقد حريم المجاهد الجديد، لكنها رفضت بدعوى أنها متزوجة، أخبروها أن زوجها مات، ردت أن المقتول أخوها، وأن زوجها حي يرزق، ولا يحل لأحد شرعا أن يتخذها حليلة إلا إذا طلقها زوجها، واستوفت العدة. لما تأكد المفترس من ثباتها على رأيها صرف الجميع، وغرز أنيابه في وريدها، وتركها جثة هامدة، وعندما وصلوا، واجهه بعمله الشنيع أمام أميرهم الدهشقي:
- قتلت امرأة.
- كانت سبيتي وأنا حر فيها.
- لكنك قتلتها.
- خرجت عن طاعتي.
- كانت متزوجة، ورفضت أن تنضم لحريمك، لأنها على ذمة رجل آخر، وهي مؤمنة.
- زوجها قتلناه،
- ذاك لم يكن زوجها كما قالت،
- ومن تراه يكون؟
- ربما أخوها أو خليلها...، ما أدراني أنا؟
- أعوذ بالله، اتق الله يا رجل، نهانا ديننا عن رمي المحصنات الغافلات... يجب أن تجلد لأنك تتهم امرأة محصنة بالزنى.
- نهاك عن قذفهن، وأحل لك سفك دمائهن تبا لك أيها الأفاق اللعين.
- لما رأى الأمير أن الخلاف استفحل بين الرجلين صرف الوحش، ودعاه هو لجلسة خمر؛ فانطفأ النزاع.. من يومها، يحس أن المفترس يكرهه ويكيد له، وبالرغم من إصراره على تحديه علنا أمام الجميع، كان، في دخيلة نفسه، يحمد الله على أنه لم يكن بين من اقتحموا دارهم في تلك الليلة الليلاء التي لا تريد تفاصيلها الدموية أن تخبو في ذاكرته.
** 2 **
في تلك الليلة الشديدة البرودة التي بدا فيها الجبل المكابد وكأنه يئن من سياط مطر كانون الثاني المسننة الرؤوس، كان أكثر إخوته حظا، لأنه الذكر الوحيد الذي لم تزهق روحه.. كان الوحيد الذي لا يزال مستيقظا، خيل إليه في البداية أنه يسمع طرقا قويا على لوح الباب الخشبي المصنوع من بقايا زورق قديم، (لا يكف والده عن إخبار زوارهم أنه شكل القطعة الأبرز في أسطول قائد آشوري كبير، وأن نسب عائلته يمتد لهذا القائد المبجل. ) لكنه سرعان ما تأكد من وجود مقتحمين يخلعون باب البيت، وقبل أن يتمكن من إخفاء زجاجة الخمر، كان المهاجمون يحتلون فناء الدار الفسيح، ويخرجون أفراد الأسرة من غرف نومهم، ويعرضونهم شبه عراة، على مرأى من نافورة عجوز تطفئ لوعة مائها البارد في التراب، فيتفاعل معها فانوس زيت عتيق، علق فوق باب غرفة الجدة قبل عقدين من الزمن، بزخات ضوء تتمايل يمينا وشمالا كلما عبثت الريح الخفيفة بشعلته الخجولة. لأول مرة يرى مفاتن أمه، صدرها الممتلئ، ساقاها الصلبتان المزخرفتان بشعيرات خفيفة تزيد من فتنة البياض، وأردافها التي تفيض دافعة ثوب القميص الحريري الضيق إلى الخارج...، فيقرر في دخيلته أن يعذر أباه على شدة تعلقه بها، وطاعته العمياء لها. أما أخواته، فرغم حالة السكر المتقدم، لم يجرؤ على رفع بصره إليهن. تساءل كثيرا لماذا أوقفوا الآخرين في زاوية، وعزلوه هو في زاوية أخرى، ولماذا فصلوا بين النساء والرجال، ولماذا، لماذا، لمـ....؟وقبل أن يقبض دماغه المغيب في قنينة الخمر على شظايا إجابات بدت متناثرة في فراغ لا متناه، شرع أحد المهاجمين في المحاكمة وتلا صك الاتهام شاملا الأحكام:
" بتهمة النوم في وقت للعبادة، وحيازة الخمر في البيت، ونوم النساء عاريات بوجود رجال راشدين، حكم على الذكور الكفرة بالموت، والنساء بخدمة الزعيم، وفي رمشة عين سقطت رؤوس عن أغصانها، إلا رأسه هو، فقد أمر أبو حمارة بألا يطير، لأنه طائر أصلا بفعل الشراب المقدس.
كم هي لعينة خمرة الشعير تلك، لقد جعلت قطع رؤوس إخوته وأبيه، وتطاير دمائهم على الجدران القديمة كقطف الفاكهة في الحقول الغافية على سفح الجبل من زمن الأنبياء والأولياء، وما تلاهم من الصعاليك والطواغيت، وقطاع الطرق، والساسة، وشداد الآفاق، واللصوص. والأدهى من ذلك أن نصف قنينة منحه الحق في الحياة، وجعله من أقرب المقربين لدى الزعيم الناري، قرابة خلصته من عار الأخوات اللواتي لم يقدمن لجحافل المقاتلين، وحظين بزيجات مريحة من كبار قواد التنظيم، وجعلت أمه أميرة تسعى الصبايا عند قدميها، وينحني لها المقاتلون، بدل أن تمتد أصابعهم القذرة لفاكهتها الطازجة التي لا تذوي رغم تعاقب الفصول. كان كلما رأى غرف المؤمنات المجاهدات يصطف أمامها عشرات الجنود المتسخين ذوي الروائح النتنة، يحمد الله على النعمة.. نعمة القنينة العجيبة التي، ورغم هول ما حدث، حولته من عدو لدود إلى قواد ونديم، وبعدها قائد سرية، وحفظت كرامة أهله.
** 3 **
سمع أنينا متقطعا يأتي من مسافة قريبة، حاول أن يتبين صاحبه، كتم صوت أنفاسه مخافة أن يكون عدوا، لكنه ناداه باسمه:- أبا كلثوم، أبا كلثوم ...
- من ... الوهراني، كيفك يا رجل؟
- جسدي ناقص، ذراعي اليمنى وساقي الأيسر وأذناي. لكنني لا أشعر بالألم !
- هل تحسستهم؟
- لا لا ..، إني أراني، أرى جسدي يسبح في الجنة مثل طائر من نور، تماما كما قال الزعيم في خطبة الجمعة الماضية...، لقد بعثت كما مت...، نحن في الجنة يا رفيق.
- لكن أين بقية الجماعة؟
- ربما مازالوا أحياء ...
- أو ربما هم في النار،
- أنت بخير يا ولي الله، كلنا بخير، الذين نجوا، نجوا من الموت، والذين ماتوا، نجوا من حياة القرف وموت الضمير هاته...، لا تقم بأية حركة قد تمر المقاتلة من جديد؛ فتفقد أعضاء أخرى من جسدك، ويتعذر عليك التحليق في الفردوس ...
سأله الوهراني:
- هل نحن ميتون يا أبا كلثوم؟
- أقرأت في حديث أو أثر أنها تمطر في الجنة رملا يا ولي الله؟ إننا لا نزال في الدنيا الفانية، نقتل لنغضب الله، ونحصل على رضا ولي النعمة!
- رباه...
- هيئ نفسك لمزيد من جز الرقاب، والألم الفظيع، فأنت على قيد الجهاد المقدس!
** 4 **
ثاني لقاء جمعه بالجنرال المفخخ تم صبيحة يوم الاقتحام.. لما مثل أمامه، اعتقد أن الفاكهة ستطير عن غصنها لا محالة، فبادر جلاده قائلا والخمرة لا تزال دائرة في رأسه:- أيها الجنرال... لا سيافك الأصلع يرهبني، ولا قانونك الأعمى الذي يقطع الرؤوس.
- حاشا أن نقطع رأسا قطعه الشراب من قبل...، هل كان حليب سباع؟
- لا، خمرة شعير...
- خمرة شعير مباركة حلقت برأسك أبعد من مدى سيوفنا..
- أصبت يا أمير، ومثلك من يصيب الصواب في صوابه.
- لكننا نخشى أن تفكر في الثأر.
- ها أنت تقولها أيها الجنرال، الحكام أمروا بقطع الرؤوس لأنها تفكر؛ فتزعجهم بأفكارها، أما رأسي هذا فمعطل منذ زمن..، كل ما أطلبه منك أن تنقذني من عار البارحة.
- وأي عار لحقك؟
- عار ثقيل...،
- قل وسأخلصك من عارك، هذا وعد من الدهشقي قاهر الفجرة يا رجل.
- هي أول مرة لم أتمم فيها قنينة خمري اللعينة. لا أريد أن تهزمني زجاجة حقيرة معبأة بماء الحياة.
- لا عليك يا مولاي فأكبر ملوك الأرض صلى الظهر ثماني ركعات، وقد رفع عنكما القلم معا في موقفكما هذا.
- أنا وأعظم ملوك الأرض...؟
- نعم يا سيدي، حلت البركات على ذلك السلطان.. حتى أنه كان يبتسم للغيمة العابرة، ويرسل لها عبر بريد الريح عبارته الشهيرة " اذهبي حيث أردت، سيأتيني خراجك لا محالة.. " فتبتسم في إذعان.
- في أي البلاد كان هذا السلطان الكبير؟
- الله ورسوله أعلم.
- إذن أنت لم تر الغيمة تبصق في كفه الدنانير يا هذا؟
** 5 **
نصب الصمت خيمته الهوجاء حول أجسادهم المطمورة بالرمال، وارتفعت الرمضاء، صاح الوهراني:- أيها القائد إنني أحترق...
- كف عن الشكوى..، أنت على مشارف جهنم يا بطل.
- أنا شهيد...، والشهيد لا يدخل النار!
- هههههه...، لقد نلت الشهادة بالمقلوب، أتعتقد أنك تجاهد؛ وأنت تقتل أناسا يصيحون بالشهادة؟
- لك الحق في أن تطمئن... أخواتك بأمان في ظل رجال أقوياء، وأمك سيدة الجميع، ولا زوجة لك ..
- أوف... يا وهراني، أنت توأم روحي، لا تحدثني كأنك لا تعلم!
- هل رأيتها هذا الصباح؟
- نعم، وقذفتني بالعبارة ذاتها "دم أبيك وإخوتك، وعار أخواتك، طوقان في عنقك إلى يوم الوقوف العظيم ". آه يا شقيق الروح هن يعشن أميرات، والمسكين الذي اصطفته روحك يحرم عليه كل شيء ما لم يغسل عاره.
- المهم أنك لم تتزوج...
- في بلدنا لا تقبل امرأة الزواج بشخص لم يغسل عاره.
- ستغسله وأنا أخوك، سنغسله معا.
- وما يزعجك أنت..، ألست سعيدا بزواجك؟
- بعد موتي سينهشون جسد زوجتي الجميل.
- لا تكن متحاملا...
- تعرف مماد الطوارقي، الملقب بالأعور،
- زوج البلجيكية الشقراء؟
- هو ذاك.
- نعم، نعم، أعرفه، الرجل الشجاع الذي استشهد أثناء محاولته سرقة مدرعة خلال مواجهة بين الدواعش وجيش النظام في الموصل،
- تبا لمعلوماتك البائخة.. الرجل سجين في القبو، أشاعوا خبر موته؛ ليتقاسموا زوجته الجميلة... جنرالك المفخخ كان أول الذئاب، وقد اعتقدت لزمن أنك توجد على لائحة الناهبين.
- " المسدس يغفو على خصر نحيل،
- الأصابع تشحذ همة الزناد،
- القلب يقفز كسنجاب يقظ بين طلقة و طلقة،
- العين ملآى بأسرى من جنسية الفراغ،
- هكذا أنت أيها الجندي،
- أجرت جسدك لبندقية قديمة،
- ونمت في العراء. "
شارك هذا السر الخطير مع الوهراني منذ البداية، لكنه منعه بشدة، محذرا من عواقب ذلك على النساء، ووعده بترتيب ثأر لائق، أثناء اشتباك حاد مع مقاتلي الطائفتين القويتين الذينَ ترميهم الفوضى القائمة في طريقهم كلما أرادوا القتال للحصول على غنائم أو سبايا. فبقي مستكينا لوجع دفين، يقطع أحشاءه كلما وقعت عيناه على عيني أمه الجائعتين للدم، وانتظر بفارغ الصبر مجيء اليوم الموعود، دون أن يخفت في أذنيه صدى كلمات الوهراني: " عليك أن تعلم جيدا أن الكل هنا يعرف أن نواعم قوات النظام لن يقتلوا نعجة؛ لذا لا تفكر في ثأرك إلا إذا اصطدمنا بالعدو القوي الذي يزهق الأرواح، حتى لا يشك بأمرنا أحد... عليك بذات الشوكة القوية يا رجل، كي تقتل الكلب المسعور، وتكون أول من يبشر الجماعة بدخول أميرهم الجنة من باب الشهداء "
** 6 **
كم هي شعواء هذه الحرب، لا تكاد تؤمن بفريق حتى يظهر زيفه، تتشابه الفرق في الراية والغاية والتسمية، فيحار المرء لمن ينتمي، وضد من يقاتل، وفي أحيان كثيرة، يصبح الأمر كبطولة قومية للكرة: أنصار فلان وألوية فلان، وجبهة كذا وكذا، ولكل معركة خصم وميقات والمنتصر اليوم ينهزم غدا، فيحصل الجميع على مواجهة أبدية، وهنالك دائما من هو على استعداد لجلب التموين ودفع الحوافز والميداليات.مرت فترة غير يسيرة على صمت الوهراني، لم تند عنه حركة أو آهة أو سؤال سخيف. جال في خاطره أن الرجل قد يكون فارق الحياة؛ فاجتاحه رعب كبير، وشرع يصيح بصوت بالكاد يسمع:
- الوهراني، الوهراني،... يا ولي الله، يا قاهر الخونة، يا ......
وخزه شعور قوي بالوحدة، فتحامل على جراحه، وقام بدفعة قوية مكنته من قلب جسده الذي سطرت عليه شظايا القذيفة أسطرها الدموية، ومضى زاحفا حتى ارتطم بالجثة، حركها يمينا وشمالا ولم يتلق استجابة، فدس وجهه في الرمال وحاول بكل ما أوتي من حزن أن يبكي، لن ينسى أبدا أن الوهراني كان ولي نعمته، فهو من علمه الرماية، و أشركه في غاراته الأولى، واقترحه أميرا لدوريتهم التي تخصصت في الاستطلاع، و استقطاب النساء للمقاتلين بعدما اشتد عوده، ونال لقب أبا كلثوم. تذكر غنائمهم الأولى، صبايا وزوجات وأمهات، اقتلعن من حياتهن الهادئة، ليصرن بأمر الزعيم جوار يقدمن الخدمة والمتعة لمشردين يعتنقون عقيدة القتل والجماع، و يغيرون النساء أكثر مما يغيرون ملابسهم الرثة، غير آبهين برائحة الجيف التي تفوح منهم.
شعر بفداحة إصابته، وعجزه الكبير الذي ربما سيحول بينه وبين الثأر، ويبقيه أسير ذله وعبوديته سنين أخرى، غضب كثيرا لأن المفخخ لم يخرج برفقتهم كما اتفقوا البارحة، لعن المفترس من أعماقه للمرة الألف، لأنه هو من نصحه بعدم الخروج، وقرر أن يريح نفسه بالاستسلام للنوم. لكن صوت محرك خفيف قطع عليه غفوته.. ألقى السمع، جاءه صوت الخطوات المتسارعة أولا، ثم تبين حديثهم، كانوا أمريكيين يتحدثون عن ثلاث جثت فوق الرمال تنهشها الغربان، يبدو أنهم لم يروهما بعد، ابتسمت دواخله، نزع الراية السوداء ولف بها رشاش الكلاشنكوف، وحفر بجنون في الرمل المبتل بالدماء، ثم دفن الحمل الثقيل مرددا كلمات رفيق الدرب والسلاح، " إنها الحرب أقتل كي لا تموت ، لا تدن بولائك لغير أمارتك بالسوء، وحالما تعجز عن أن تكون منتصرا . اعتبر نفسك مدنيا أسيرا فينتهي بك المطاف في هوامش مدن الغرب الباردة، بين الهاربين من أتون هذا الشرق المحترق، تتنفس هواء جديدا خال من أوامر السادة التي لا تنتهي، وواجبات الثأر والعار، وحبات رمل الصحراء. "
ابتسمت دواخله مرة أخرى، أراد أن يصيح ليسمعوه، حاول ملء رئتيه بهواء كاف يمكنه من الصياح، لكنه أحس وخزا حادا في صدره وأعلى ظهره، فمد يده يتحسس مصدر الألم. أواه... لن يستطيع التخلص من الحزام الناسف الذي لفه الوهراني على صدره قبل خروجهم هذا الصباح كي يمحو عاره قبل أن يموت.