كنا في رحلة الى الروسيا. وقد قطعنا الحدود الى موسكو، قبل أن ينشأ الكرملين وقبل أن تولد موسكو. في موقع الكرملين كان يقوم قصر مؤلف من طبقتين، وعدد من البنايات المتجاورة، يسند أحدها الآخر، وكلها واقعة فوق جبل منيف. لا أعي كيف وصلنا الى هناك، فطريق الذهاب لم تكن واضحة كل الوضوح. ومعنى ذلك اننا صحونا قبالة المكان فقط. وقبلها ربما غافلين. هبطت علينا غيمة من النسيان. وكان يجب ان نكون حذرين، لأننا وما أن رأينا النور، حتى وجدنا أنفسنا نقف عند حافة واد سحيق.
في الخارج تمتعنا بالمناظر الخلابة للجبال، وبقبة الصخرة التي يقوم عليها المكان. وكنا مندهشين كأننا في رحلة مدرسية، أو كأسرى رفعت عن أعينهم المعصوبة المناديل. رأينا طبقات من الصخر ذي الأصل النبيل لو صح القول, من ذلك النوع الرصاصي القاسي والخشن, حيث أن الخشونة حتى في الفواكه، انما تدل على جودة الصنف. والسؤال الذي تبادر الى أذهانا، هو كيف لم يستخدموا هذه الصخور كرخام في تزيين القصور، في نواحي اخرى من روسيا البيضاء، أو حتى في اوروبا كلها؟
وعلى امتداد النظر، في الأماكن الجد قريبة، كنا نعرف الجواب. فقد كانت امامنا حقول من الصخور المتشققة التي وضع أحدها على الآخر في ترتيب عجيب. كأنما هي حقل من لون واحد. وكان هناك حقلان على الأقل. حيث أننا شاهدنا لونين هما الاخضر والاحمر. ولربما كنتم تذكرون تلك البقع المائية من الوحل المتشقق في البرك التي جفت مياهها، وكيف تكوّن قطعا كقطع الشيكولاتة. هي ذات الصورة المكبرة.
دخلنا وجلسنا على الأسرّة في أحدى غرف القصر. . والغريب أننا لم نجد أحدا من سكان المكان. قال "غازي" بعد ذلك مفسرا، السبب هو أننا لم ندق على الباب. وكنت أصدق هذا القول، رغم سذاجة الفكرة. لأن غازي لا يزال متأثرا بوقائع العالم الذي جاء منه. ولكم ان تتخيلوا مكانا يكون عدم الدق على الباب فيه هو خطيئة مميتة، يغيب من جرائها أصحاب البيوت، أو يذوبون كالشمع، ويختفون وراء الأبواب او في الدهاليز. ثم انني من صنف الناس الذين يدقون على الأبواب دائما. وأتذكر نفسي في حياتي السابقة، استاذا في مدرسة، يدق الباب قبل ان يدخل على التلاميذ.
على "سكامبلا" كبيرة وبنية اللون، في الزاوية القريبة، كانت ثمة رزمة من الأوراق، مكتوبة بالتركية القديمة. عرفت ذلك من الاحرف العربية. كان ثمة شخص ما في القصر يتعلم اللغة التركية. وكان هذا هو الهدف من الاوراق. لقد كانت الامبراطورية التركية تحتل أجزاء من بلاد الروسية، وقسم آخر كان تحت وصايتها. ولذلك كان على الدبلوماسيين الروس، أو حتى المحاربين تعلم اللغة التركية.
كان غازي يدخن. رأيته يمتشق آخر سيجارة من علبة فارغة. قال أنه نسي دخانه الجديد في السيارة. ومعنى ذلك أنه انتقل الى مكان وزمان آخر في هذه اللحظة بالذات. وهو في تنقله أشبه بشاشة التلفزيون تنقلك من عالم الى عالم مختلف. ثم سمعته يقول أن السيجارة المحلية لهذه البلاد، هي من السوء، بحيث لا يستطيع تدخينها. في حين ان دخانه الذي جاء به من البلد كان أجود كثيرا. وعلى المدخن ان يستمتع بسيجارته الواحدة, والا اضطر أن يدخن عددا أكبر منها، للحصول على نفس التأثير أو نفس النشوة. ولكني لم أكن أطيق رائحة الدخان. ولذلك وجدت طريقي الى الخارج، الى أطراف الوادي عند قاعدة القصر، ووقفت في المرجة الصغيرة التي يلتقي عندها الجبلان. وبعد ذلك جاء غازي كمحب للطبيعة.
ولأصدقكم القول: عندما رأينا الحدة التي ينحدر فيها الوادي الى الاعماق, عرفنا أننا كنا قد اجتزنا هذه الحياة الى حياة أخرى، في زمن آخر، وعلى كوكب آخر. ولم نكن نعرف اسم هذا الكوكب، لان التغيير كان فجائيا. وثمة أمر كان ينبغي أن نلاحظه، وهو ما عرفناه من تجارب سابقة: ثمة أماكن تذكرك بأماكن اخرى، وتنقلك اليها عبر قنوات زمانية ومكانية جد غريبة. والصحيح أنه لا ينبغي للمرء أن يعرف كل ما يمر به من احداث، فهو لا يستطيع أن يختزن كثيرا من المعلومات واطراف المعلومات. وهذه منّة منّ الله بها علينا، مثل منّة النسيان. فحتى ونحن لا نعرف السبب، نستطيع أن نفرح وأن نسعد وأن نمر بتجارب من الغبطة والسرور، كتلك التي يخبرها المسافرون.
ومع ذلك فان الراغب في المعرفة يستطيع ان يستزيد. وهناك من الناس من تكون الالعاب العقلية جزءا من كياناتهم الذهنية على هذه الأرض. لهؤلاء أقول ان حقول الصخور الملوّنة والمقطعة بهذا الشكل، الذي وصفتها به، هي الأصل في تلك القبب المزركشة، التي صنع منها الكرملين في موسكو بعد قرون.
أما زميلي فلا يزال راقدا هناك. باسم لينين. أحب المكان فلم يعد يطيق أن يغادره. وكانت ارادته وثوريته وغرائزه، هي دائما مثار اعجابي الشديد به. حتى انه قرر أنه يموت ويدفن ويحنّط في نفس المكان. ثم اني ارتحلت تاركا أهلي ورائي وأصدقائي، فأنا دائم الترحال. وقد نسيت امر صديقي وأمر الكرملين والصخور الغرانيتية الملونة، حتى رأيتها اليوم على شاشة التلفزيون، وكم تغيرت عما كانت، فعادت الى ذاكرتي أطياف أفكار عابثة جمعتها بكلتا يدي. وقبضت عليها بكفي، شاعرا كما لو ان جزءا مني قد عاد اليّ.
في الخارج تمتعنا بالمناظر الخلابة للجبال، وبقبة الصخرة التي يقوم عليها المكان. وكنا مندهشين كأننا في رحلة مدرسية، أو كأسرى رفعت عن أعينهم المعصوبة المناديل. رأينا طبقات من الصخر ذي الأصل النبيل لو صح القول, من ذلك النوع الرصاصي القاسي والخشن, حيث أن الخشونة حتى في الفواكه، انما تدل على جودة الصنف. والسؤال الذي تبادر الى أذهانا، هو كيف لم يستخدموا هذه الصخور كرخام في تزيين القصور، في نواحي اخرى من روسيا البيضاء، أو حتى في اوروبا كلها؟
وعلى امتداد النظر، في الأماكن الجد قريبة، كنا نعرف الجواب. فقد كانت امامنا حقول من الصخور المتشققة التي وضع أحدها على الآخر في ترتيب عجيب. كأنما هي حقل من لون واحد. وكان هناك حقلان على الأقل. حيث أننا شاهدنا لونين هما الاخضر والاحمر. ولربما كنتم تذكرون تلك البقع المائية من الوحل المتشقق في البرك التي جفت مياهها، وكيف تكوّن قطعا كقطع الشيكولاتة. هي ذات الصورة المكبرة.
دخلنا وجلسنا على الأسرّة في أحدى غرف القصر. . والغريب أننا لم نجد أحدا من سكان المكان. قال "غازي" بعد ذلك مفسرا، السبب هو أننا لم ندق على الباب. وكنت أصدق هذا القول، رغم سذاجة الفكرة. لأن غازي لا يزال متأثرا بوقائع العالم الذي جاء منه. ولكم ان تتخيلوا مكانا يكون عدم الدق على الباب فيه هو خطيئة مميتة، يغيب من جرائها أصحاب البيوت، أو يذوبون كالشمع، ويختفون وراء الأبواب او في الدهاليز. ثم انني من صنف الناس الذين يدقون على الأبواب دائما. وأتذكر نفسي في حياتي السابقة، استاذا في مدرسة، يدق الباب قبل ان يدخل على التلاميذ.
على "سكامبلا" كبيرة وبنية اللون، في الزاوية القريبة، كانت ثمة رزمة من الأوراق، مكتوبة بالتركية القديمة. عرفت ذلك من الاحرف العربية. كان ثمة شخص ما في القصر يتعلم اللغة التركية. وكان هذا هو الهدف من الاوراق. لقد كانت الامبراطورية التركية تحتل أجزاء من بلاد الروسية، وقسم آخر كان تحت وصايتها. ولذلك كان على الدبلوماسيين الروس، أو حتى المحاربين تعلم اللغة التركية.
كان غازي يدخن. رأيته يمتشق آخر سيجارة من علبة فارغة. قال أنه نسي دخانه الجديد في السيارة. ومعنى ذلك أنه انتقل الى مكان وزمان آخر في هذه اللحظة بالذات. وهو في تنقله أشبه بشاشة التلفزيون تنقلك من عالم الى عالم مختلف. ثم سمعته يقول أن السيجارة المحلية لهذه البلاد، هي من السوء، بحيث لا يستطيع تدخينها. في حين ان دخانه الذي جاء به من البلد كان أجود كثيرا. وعلى المدخن ان يستمتع بسيجارته الواحدة, والا اضطر أن يدخن عددا أكبر منها، للحصول على نفس التأثير أو نفس النشوة. ولكني لم أكن أطيق رائحة الدخان. ولذلك وجدت طريقي الى الخارج، الى أطراف الوادي عند قاعدة القصر، ووقفت في المرجة الصغيرة التي يلتقي عندها الجبلان. وبعد ذلك جاء غازي كمحب للطبيعة.
ولأصدقكم القول: عندما رأينا الحدة التي ينحدر فيها الوادي الى الاعماق, عرفنا أننا كنا قد اجتزنا هذه الحياة الى حياة أخرى، في زمن آخر، وعلى كوكب آخر. ولم نكن نعرف اسم هذا الكوكب، لان التغيير كان فجائيا. وثمة أمر كان ينبغي أن نلاحظه، وهو ما عرفناه من تجارب سابقة: ثمة أماكن تذكرك بأماكن اخرى، وتنقلك اليها عبر قنوات زمانية ومكانية جد غريبة. والصحيح أنه لا ينبغي للمرء أن يعرف كل ما يمر به من احداث، فهو لا يستطيع أن يختزن كثيرا من المعلومات واطراف المعلومات. وهذه منّة منّ الله بها علينا، مثل منّة النسيان. فحتى ونحن لا نعرف السبب، نستطيع أن نفرح وأن نسعد وأن نمر بتجارب من الغبطة والسرور، كتلك التي يخبرها المسافرون.
ومع ذلك فان الراغب في المعرفة يستطيع ان يستزيد. وهناك من الناس من تكون الالعاب العقلية جزءا من كياناتهم الذهنية على هذه الأرض. لهؤلاء أقول ان حقول الصخور الملوّنة والمقطعة بهذا الشكل، الذي وصفتها به، هي الأصل في تلك القبب المزركشة، التي صنع منها الكرملين في موسكو بعد قرون.
أما زميلي فلا يزال راقدا هناك. باسم لينين. أحب المكان فلم يعد يطيق أن يغادره. وكانت ارادته وثوريته وغرائزه، هي دائما مثار اعجابي الشديد به. حتى انه قرر أنه يموت ويدفن ويحنّط في نفس المكان. ثم اني ارتحلت تاركا أهلي ورائي وأصدقائي، فأنا دائم الترحال. وقد نسيت امر صديقي وأمر الكرملين والصخور الغرانيتية الملونة، حتى رأيتها اليوم على شاشة التلفزيون، وكم تغيرت عما كانت، فعادت الى ذاكرتي أطياف أفكار عابثة جمعتها بكلتا يدي. وقبضت عليها بكفي، شاعرا كما لو ان جزءا مني قد عاد اليّ.