سعدي العنيزي - مفهوم الآخر عند إيمانويل ليفيناس

لم يحظ الآخر بالاهتمام والدراسة والبحث من جوانب متعددة إلا في عصر ما أصطلح عليه بما بعد الحداثة ، حيث أخذ الآخر معاني ودلالات مختلفة ، فهو الغير والمقصي والمهمّش والمختلف ، وأخذ فلاسفة التفكيك أمثال نيتشه وهايدغر وفوكو ودريدا ودولوز وغيرهم بإيلاء الآخرالاهتمام والدراسة من خلال نقد وتفكيك مركزية الأنا ( الذات ) وخاصة مركزية الذات الغربية ، ولكن الفيلسوف الفرنسي الّلتواني الأصل ( 1906- 1995 م)أعطى للآخر من الاهتمام والبحث من منظور مغاير ، وأعطى للآخر من القيمة والمكانة أكثر من الفلاسفة الآخرين ، بل أنه جعل له مكانة وقيمة أعلى من الذات ( الأنا ) ، وذلك لأنه نظر إلى الآخر من ناحية الأخلاق ( الأتيقا ) فجاء بمفهوم جديد في علاقة الذات بالآخر ، مفهوم لم يسبقه إليه أحد ، ففي نظر ليفيناس إن بنية الفلسفة في الأساس هي الأخلاق وأن الأخلاق لا تتحقق على أرض الواقع إلا من خلال علاقة الذات بالآخر، فهو أستبدل علم الوجود ( الأنطولوجيا ) وخاصة أنطولوجية هايدغر بالأخلاق ( الأتيقا ) ، فالأخرهو الذي يحدد الأنا وليس ألانا هي التي تحدد الآخر كما هو معروف في تاريخ الفلسفة الغربية ، فهو هنا أي ليفيناس أستبدل المركزية الغربية للأنا بالآخر، فأنا أعي ذاتي من خلال علاقتي مع الاخر ، فالآخر هو الواسطة لإدراك هويتي ، وفي نظر ليفيناس يجب أن تكون علاقتي بالآخر قائمة على مسؤوليتي عنه ، وان تكون هذه العلاقة مبنية على الطيبة والتعاطف والمحبة والإيثار بيني وبينه ، بل ان ليفيناس أعتبر الآخر أهم من الأنا ، فالآخر ليس أداة وموضوع للمعرفة كما لدى فلاسفة الحداثة منذ ديكارت ،وليس الآخر ذئب الإنسان لأخيه الانسان كما لدى توماس هوبز ، وليس الآخر هو الجحيم والذي يفقدني حريتي كما لدى سارتر ، إنما الآخر هو شبيه لي ، وله من القيمة والمكانة مثل ما لي بهذا الوجود ، بل أن له مكانة أفضل من مكانتي لأني أعي ذاتي من خلاله ، وتتكون هويتي من خلال التواصل والحوار معه . إن" الغير قبل الذات قبل الأنا ، قبل التجربة ، وقبل العالم ، هو المشروع الأصلي ، وكما يقال هو المسلّمة المولدة في فلسفة ليفيناس . الغير هو الموجود الذي يتظاهر ، وعظمة الغير تظهر على الوجه " . يقول ليفيناس " أن تتحدث مع الآخر هو في نفس الوقت أن تعرف الآخر ونجعله يتعرف علينا ، فالآخر ليس فقط معروفاَ بل مرحّباَ به ، أنه مدعو من طرفنا ، أنا أفكر في كل ما هو بالنسبة لي فقط ، بل وأيضاَ وفي الآن نفسه أفكر في كل ما هو بالنسبة إليه " .
ولكن في علاقتي بالآخر يجب أن أضع مسافة بيني وبينه لأنني مختلف عنه وهو مختلف عني ، ويجب أن لا أجعله يؤثّر في ذاتي أو أنا أؤثّر في ذاته لدرجة الذوبان كلاَ منا بالآخر ، لأن التواصل في هذه الحالة سيكون تواصل غير إيجابي لأن كلاَ منا سيلغي الآخر .
ووفقاَ لليفيناس أن علاقتي بالأخر علاقة أخلاقية قائمة على مسؤوليتي عنه فأنا مسؤول عنه كما هو يجب أن يكون مسؤول عني " فلا أستطيع الامتناع عن تلبية وسماع ندائه، أو أن أنساه أو أتجاهله ، أو أتخلى عن مسؤوليتي أمام بؤسه " إنني " أذهب نحو الآخر دون أي اعتبار لتوجهه نحوي "
سعدي العنيزي
المراجع :
1- ( إسهامات فلسفة الأخلاق عند إيمانويل ليفيناس ) وردة بوعائشة
2- الإتيقا والغيرية : ( تجليات الموجود في فلسفة الاخلاق عند إيمانويل ليفيناس ) محمد بكاي . 3- ( الزمان والآخر ) إيمانويل ليفيناس ترجمة جلال بدلة
  • Like
التفاعلات: فاطمة الفلاحي

تعليقات

تكثيف راقٍ ..
اسمح لي أن أشاركك جميل ماكتبه إيمانويل ليفيناس
إنَّ اكتشاف وجه الإنسان الآخر في عطوبيته وتعاليه يجعلني أعي، وفي آنٍ معًا، إمكانية ولا إمكانية القتل. وهذا الوعي هو تأكيد لضميري الأدبي. يؤكِّد إيمانويل ليفيناس أنَّ "العلاقة بالوجه هي على الفور أخلاقية". الوجه هو ما لا نستطيع قتله، أو هو على الأقل، ما يقول معناه: "لا تقتل أبدًا". صحيح أنَّ القتل هو فعل مبتذَل حيث باستطاعتنا أن نقتل الآخر. وهنا لا تبدو الأخلاقية كضرورة أنطولوجية. فتحريم القتل لا يجعل القتل مستحيلاً حتى لو كانت سلطة التحريم موجودة في الضمير الصالح. في الوقت الذي فيه الآخر "يقدِّم نفسه لحدِّ السيف أو لرصاصة المسدس"، يواجه القوَّة التي تهدِّد بضربه "لا بقوَّة أكبر [...] بل بتعالي كيانه [...] واللامتناهي الذي هو أقوى من القتل يقاومنا بوجهه". هذا اللامتناهي هو وجهه، هو التعبير الأصلي، هو الكلمة الأولى أَنْ "لا تقتل". نظرة الآخر، بمقاومتها القتل، تشلُّ قدرتي وتجرِّد إرادتي من سلاحها. وهكذا، فإنَّ "فكرة اللامتناهي لا تتعدَّى على العقل بل تتحكَّم باللاعنف نفسه، أي أنها تؤسس الأخلاقية". الفلسفة، في نظر إيمانويل ليفيناس، لا تبدأ بعلم الوجود، أو الأنطولوجيا، بل تبدأ بعلم الأخلاق. وعلم الأخلاق ليس شعبة من علم الفلسفة بل هو "الفلسفة الأولى".

إيمانويل ليفيناس
 
تكثيف راقٍ ..
اسمح لي أن أشاركك جميل ماكتبه إيمانويل ليفيناس
إنَّ اكتشاف وجه الإنسان الآخر في عطوبيته وتعاليه يجعلني أعي، وفي آنٍ معًا، إمكانية ولا إمكانية القتل. وهذا الوعي هو تأكيد لضميري الأدبي. يؤكِّد إيمانويل ليفيناس أنَّ "العلاقة بالوجه هي على الفور أخلاقية". الوجه هو ما لا نستطيع قتله، أو هو على الأقل، ما يقول معناه: "لا تقتل أبدًا". صحيح أنَّ القتل هو فعل مبتذَل حيث باستطاعتنا أن نقتل الآخر. وهنا لا تبدو الأخلاقية كضرورة أنطولوجية. فتحريم القتل لا يجعل القتل مستحيلاً حتى لو كانت سلطة التحريم موجودة في الضمير الصالح. في الوقت الذي فيه الآخر "يقدِّم نفسه لحدِّ السيف أو لرصاصة المسدس"، يواجه القوَّة التي تهدِّد بضربه "لا بقوَّة أكبر [...] بل بتعالي كيانه [...] واللامتناهي الذي هو أقوى من القتل يقاومنا بوجهه". هذا اللامتناهي هو وجهه، هو التعبير الأصلي، هو الكلمة الأولى أَنْ "لا تقتل". نظرة الآخر، بمقاومتها القتل، تشلُّ قدرتي وتجرِّد إرادتي من سلاحها. وهكذا، فإنَّ "فكرة اللامتناهي لا تتعدَّى على العقل بل تتحكَّم باللاعنف نفسه، أي أنها تؤسس الأخلاقية". الفلسفة، في نظر إيمانويل ليفيناس، لا تبدأ بعلم الوجود، أو الأنطولوجيا، بل تبدأ بعلم الأخلاق. وعلم الأخلاق ليس شعبة من علم الفلسفة بل هو "الفلسفة الأولى".

إيمانويل ليفيناس
شكراً لكِ عزيزتي على هذا التعليق المثري والمفيد
تحياتي
 
شكراً لكِ عزيزتي على هذا التعليق المثري والمفيد
تحياتي
يومك عاطر أستاذ سعدي
بل أنا من تشكر أولًا الأستاذ نقوس المهدي على السماح لي بالتعرف على كتابات شخصكم الكريم .. وشكرًا لما تنشره من ثقافة فلسفية.
 
أعلى