أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة 23 : المستشرقون واللغة العربية

في مسيرتي الجامعية ، منذ العام ١٩٩١ حتى الآن ، دوشني كثيرون بأسئلة معينة هي :
- كيف درست الأدب العربي في ألمانيا؟
- هل أتقنت الألمانية ؟
- هل ما زلت تجيدها كتابة وقراءة ومحادثة ؟
- بأية لغة كتبت رسالة الدكتوراه ؟
في الجامعة التي درست فيها ، وهي جامعة ( اوتو فريدريك / بامبرغ ) قانون يجيز للطالب أن يكتب أطروحته بلغة يتقنها المشرف والممتحن ، على أن يقدم لها ملخصا في حدود ٤٠ صفحة باللغة الألمانية ، وإن كتبها باللغة الانجليزية فليس مطالبا بالملخص ، ولم أنتبه لهذا القانون إلا بعد أن سلمت الأطروحة بالألمانية ، ولو كنت انتبهت لسلمتها بالعربية مع ملخص بالألمانية .
أنفقت في ألمانيا ثلاث سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام بالتمام والكمال ، أنفقت ستة أشهر منها في تعلم الألمانية بمعهد ( غوتة )
في مدينة ( فرايبورغ ) وظللت أتعلم اللغة يوميا في السنوات الباقية ، وعندما عدت إلى فلسطين واصلت تعلم اللغة من خلال الإصغاء إلى الفضائيات الألمانية وترجمة الدراسات المكتوبة بالألمانية وقراءة مجلة ( Deutchland ) التي كانت تصلني من ألمانيا شهريا ، ولكني منذ آب ١٩٩١ انقطعت عن التكلم بالألمانية لعدم وجود ألمان أتواصل معهم ، وأعتقد أنني في جانب اللغة أنجزت أكثر مما ينجزه ألماني في المدة نفسها في تعلم العربية .
غالبا ما أتذكر ما كتبه إميل حبيبي في روايته " المتشائل " عن تعلم بطله سعيد العبرية وعن تعلم صباني نابلس العبرية في أقل من سنتين .
في " المتشائل " في الرسالة ١٥ من الكتاب الأول يأتي سعيد على الدرس الأول في اللغة العبرية ويصف كيف تعلمها كالآتي :
" وتكلمتها بأسرع مما قرأتها . وأخذني الأمر عشر سنين حتى ألقيت أول خطاب تحية باللغة العبرية . وكان أمام رئيس بلدية حيفا ، فسجلها في صحيفته سابقة " .
ثم يأتي على تعلم صباني نابلس العبرية في أقل من سنتين ، فيكتب ساخرا :
" فليست الحاجة أم الاختراع ، بل مصلحة القوم التي أرخصت أمهاتهم ، فقالوا : الذي يتزوج أمي هو عمي ! " .
وفي الكتاب الثالث في الرسالة ٢ التي عنوانها " كيف أصبح علم الاستسلام ، فوق عصا مكنسة ، علم الثورة على الدولة ؟ " يسخر من الضابط اليهودي الذي يشتمه ، لأنه رفع علم الدولة في حيفا على عصا مكنسة ملبيا نداء المذيع .
يكون الكلام ، في العام ١٩٦٧ ، موجها لأهل الضفة وغزة ، لا لأهل حيفا . ويكون سعيد في حيفا ومع ذلك يرفع العلم - يفعل ذلك متغابيا ساخرا ، وحين يسأل الصابط سعيدا عن سبب رفعه العلم والكلام ليس موجها لأهل حيفا ، يجيب سعيد بأنه سمع النداء من الإذاعة الإسرائيلية .
يرى الضابط أن مذيعي القسم العربي في الإذاعة الإسرائيلية أساؤوا صياغة النداء ، وكأنه يتهم العرب بأنهم لا يعرفون لغتهم . وهنا ينبري له سعيد مفندا داحضا :
" فدافعت عن بني قومي ، الذين يعملون في محطة الإذاعة ، قائلا : ما على الرسول إلا البلاغ . يهتفون بما يلقنون " .
والكلام السابق ، بخاصة كلام الضابط ، يحتوي على قدر من الإهانة .
والسؤال هو :
هل يتقن المستشرقون الذين يدرسون العربية العربية ؟
في العام ١٩٨٦ التقيت في القدس ، كما ذكرت ، بالمستشرقة الألمانية ( انجليكا نويفرت ) وتكلمنا معا بالعربية ، ووجب أن أتحدث ببطء وبعربية فصيحة حتى تفهم ما أقول . وكانت ( نويفرت ) بدأت تتعلم العربية منذ عقود وعاشت في العالم العربي عقدين تقريبا تدرس في الجامعات .
تتقن ( نويفرت ) والمستشرقون الألمان الإنجليزية ويتقنون لغات أخرى وهم في هذا الجانب أفضل منا ، ولكني أشك في انهم يتقنون العربية كتابة ، ولدي أكثر من دليل . إنهم يتقنونها قراءة وبدرجة أقل محادثة وأما كتابة فلا يفلحون في ذلك ، وربما لذلك أسباب عدا صعوبة العربية كتابة حتى لأبنائها .
يكتب المستشرقون بلغتهم الأم أو بالإنجليزية وأما بالعربية فنادرا ما يكتبون وإن كتبوا تكون كتابتهم ركيكة وركيكة جدا .
في ربيع ١٩٨٨ عندما سجلت في الفصل الجامعي الأول في الجامعة ، بعد إنهاء فصل اللغة ، عرضت علي الأستاذة ( نويفرت ) مقالا مترجما من الألمانية إلى العربية لأصححه لها ، فلم أفهم المكتوب . وبعد ذلك بسنتين طلب من أستاذتي ( فيلاندت ) أن تلقي محاضرات في العالم العربي تركز على أربع موضوعات . كتبت أستاذتي محاضراتها باللغة العربية وعرضتها على مساعدها ( فونك ) على أمل أن ينظر فيها ، فاقترح عليها أن أنظر أنا فيها ، وهو ما كان .
الأستاذة ( فيلاندت ) تتقن العربية قراءة وتحسن التكلم بها ولكنها لم تكتب فيها من قبل . ولسوف أنفق أسبوعا وأكثر في إعادة صياغة ما كتبت وأحيانا لم أكن أفهم ما تعني ، فاضطر للجلوس معها لسؤالها عما قصدت ، ولو كانت كتبت محاضراتها بالألمانية لترجمتها لها في المدة نفسها ، وكانت هي على وعي بصعوبة الكتابة بلغة يتعلمها المرء على كبر ولذلك طلبت مني أن تقرأ لي الفصل الأول من أطروحتي بالعربية .
وحتى قراءة المكتوب بالعربية كان أحيانا يستعصي فهمه على المستشرقين . الأستاذة ( فيبكة فالتر ) قدمت من ألمانيا الشرقية واستقرت في ( بامبرغ ) وطلب منها أن تتقدم للأستاذية من جديد ( Rehabilitation ) وعندما كانت تقرأ نصوصا عربية فيها مفردات استعصت عليها ، كانت تستعين بي ، وغالبا ما كانت هذه المفردات أجنبية مكتوبة بحروف عربية مثل ( مونولوج ، ايتيقا ، رتم ، انطولوجي .. الخ ) وسرعان ما تبتسم حين أنطق الكلمة بالإنجليزية أو حين أقول لها إن هذه المفردة غير عربية ولكنها مكتوبة بحروف عربية . كانت تبحث ساعة أو أكثر عن الكلمة في القاموس دون أن تجدها وسرعان ما تتصل بي .
مرة طلبت كتابا من بروفيسور ألماني فلم يعثر عليه في مكتبته ، فأعاد إلي الجزازة التي دونت عليها عنوان الكتاب المطلوب وقد كتب عليها : " لا عندي " - أي ليس الكتاب عندي .
أنهيت عملي في الجامعة وما زال الآخرون محتارين في لغتي العربية والألمانية والإنجليزية والعبرية .
أنا الأصم الأبكم الأعمى ، كما كتب الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي رثاه محمود درويش في قصيدته " مديح الظل العالي " :
الشاعر افتضحت قصيدته تماما
وثلاثة خانوه ؛ تموز وإيقاع وامرأة
وناما "
وكم من تموز وإيقاع وامرأة خانك يا أنت ؟

الخميس
ه آذار ٢٠٢٠ .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى