أ. د. بشرى البستاني - الهايكو العراقي والعربي بين البنية والرؤى 1- 2

تعد اللغة من أكثر الأدوات البنائية تداولا في الفنون كونها الأداة التواصلية التي تتصف بالتلازم مع الحياة وبتفاعل معها وديمومة ، مما يجعل الفنون التي تكتب بها أكثر طواعية للتطور والاستجابة لانطلاقات جديدة تؤهلها لصنع منعطفات أدبية كلما ضاق النوع السائد بالتعبير عن توتر الحياة الجديدة ومتطلباتها ، فالبحث عن أنواع فنية متطورة تعبر عن أزمة الإنسان وعن معاناته ومشاعره في صميم الأزمات التي يعيشها أمر مشروع ، بل ومطلوب أصلا . وهو في بحثه عما يخفف الأزمة يدرك أن فنَّ أيِّ شعب من الشعوب ليس ملكا له ، ولا يجب أن يكون قارا بحدود ذلك الشعب ، لأن عظمة الفنون أنها لا تعيش الا في فضاءات الحرية ، وأن الإبداع لا تحده حدود ولا قيود ، وأن سمته التواصل ، فهو ملك الإنسانية كلها ولا سيما حين يكونُ هذا الفن بعيدا عن التعصب والتعقيد .

لقد ظل الهايكو يترجم الى اللغة العربية عبر لغات وسيطة كالانكليزية ، حتى صدر (كتاب الهايكو) الذي ضم الف هايكو وهايكو عن دار التكوين بدمشق عام 2010 ، لمترجمه السوري الشاعر محمد عضيمة عن اللغة اليابانية مباشرة معتمدا مئة مرجع ومستوعبا ما يقرب من خمسة قرون بمقدمة كتبها عضيمة موضحا مسيرة هذا الفن ومراحل تطوره وابرز شعرائه ، وما زاد الكتاب قيمة ، إدراج النص الأصلي بلغته اليابانية مع المترجَم بوجود مؤلف آخر للكتاب هو الياباني كوتا – كاريا.

لقد كانت شعوب العالم وما تزال تتلقف الهايكو الياباني لأسباب عدة منها البنيوية المغايرة ومنها الرؤيوية ، ولما كان للفنون أهدافٌ ومقاصد انسانية تؤشّر توجهاتها ، فإن أهداف الهايكو كانت جمالية رؤيوية ، وليست أيديولوجية ضيقة ، وأمام الجمال تندحر الايديولوجيا وتنهار حدودها والقيود ، ولهذا كانت حركته حرة في اتجاهات عدة ولعل في اختلافه عن شروط الشعرية المتعارف عليها عربيا وغربيا ما يفسر بعض ذلك أولا ، وثانيا يكاد يجمع نقاد الهايكو - وأشك في ذلك - أنه يتسم بسهولة اشتراطاته البنيوية التي تتلخص في كون شروط كتابته لا تتسم بالعسر والتعقيد ، بل تتكون بنيته من جملة شعرية تتوزع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللغوي وتحرره من ملحقات التزيين ، لكنها ذات طاقة مكثفة قادرة على إطلاق دلالات عدة يتيحها تعدد القراءات وتباينها ، وقد تقوم لغته على المقابلة والتوازي والمفارقات لدى مقاربتها نقديا ، وعلى اكتنازها لحظة جمالية يشتبك فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعلية المادة وحيويتها من خلال ملامسة الوعي الانساني لها ، وقدرتها على البث الدلالي حال تشكيل العلامة ، فالعلامة تتكون من عنصرين ، مادي مقروء أو منطوق مسموع ، ومكون ذهني يعمل بتنبيه من الدال على تشكيل العلامة . فالهايكو مشهد يبدو ساكنا ، لكنه يختزن طاقة حركية تكمن شعريتها في هذا اللبس الكامن بين الصمت الظاهر والحركية المضمرة ، بين التعبير المقتصد لغويا والدلالة المطلقة ذهنيا ، يقول جمال مصطفى:

الهلال الذي:

يتلامع في غابة الخيزران
مجرد منجل

فالدال الاول اعتيادي ، منظر طبيعي ، إنه هلال يتلامع في غابة خيزران ، لكن الدال الثاني الذي يصدم حيادية اللقطة الهلالية الاولى (منجل) يخرق لقطة الهلال الاولى ويصدمها ، لكن الصدمة تعمل على تشكيل الدلالة التي قصدها الشاعر في الاشارة الى الزيف الكامن وراء مراوغة الاشياء اللامعة وخطورتها . ومن سماته التي يؤشرها دارسوه استعمال الكلمة بدلالتها الواضحة والتعبير عن الامور الاعتيادية بطرائق حيادية ، لكني لا اتفق مع هذا الرأي اذ لا حيادية في الادب والفنون أبدا ، ولا حيادية في الحياة عموما ، فللإنسان رأي وموقف لكنَّ أسباباً كثيرة قد تقف حاجزا دون الافصاح عنه ، وليس الحياد الا ذريعةً للصمت خوفا وخشية أو تحسبا ، كما أن الكلمة الواضحة في الهايكو لا تستعمل لوضوحها ، بل لأدائها دلالة أبعد من الوضوح ، وهذه سمة أخرى من سماته . إن كلّ زهرة وفراشة في الهايكو ، وكل حبة رمل ، وكل شجرة تمثل صورة مصغرة للحياة التي نعيشها ، وللعالم المعاصر الذي يمور بالوقائع . ولاهتمامه بالطبيعة وإشراقاتها ، بحقولها ورياضها ، أُطلق عليه شعر الربيع أو الشعر الأخضر ، ولذلك رأى بعضهم أنه يقوم على الوصف ، وخالفهم آخرون بأنه يمكن أن يتناول مختلف الموضوعات الشعرية لو توفرت فيها سمات هذا الفن بنيويا ، فضلا عن اشتراط الهايكو الياباني أن يشتمل على سبعة عشر مقطعا صوتيا حسب الألسنية اليابانية ، تتوزع على الأسطر الثلاثة بـ خمسة ، سبعة ، خمسة مقاطع ، وهذا الشرط تجاوزه الهايكو العراقي والعربي عموما مراعاة لخصوصية اللغة العربية واختلاف تشكيل مقاطعها العروضية عن مقاطع اللغة اليابانية . لكنه التزم ببنية الاسطر الثلاثة لترسيخ الشكل الهايكوي ، لما للأشكال من أهمية في الفنون حدّ تأكيد بعضهم أن الفنون أشكال.

أما من حيث الرؤيا ، فإن الهايكو الياباني كما يرى الكثير من نقاده ، يقوم على مرجعية معينة ترتكز على فلسفة الزن البوذية والتي تحثُّ على التأمل والتفكر ، والوقوف عند الأشياء ومفردات الطبيعة والظواهر المادية لجعلها إشارة لدلائل أكبر ، إنها فلسفة الروح والحكمة والسلام التي استقت الكثير من معطياتها من فلسفات الشرق القديمة كالبوذية والكونفوشيوسية والطاوية، ويقرُّ أصحابها أنها ثقافة أرضية ناتجة عن حاجات واجتهادات إنسانية تدعو للمحبة والتسامح واحترام مظاهر الحياة والاشياء واستنطاق قدرتها على تشكيل الانسجام وسط التناقض فالزهر ينمو في صميم الشوك والماء يحتضن اليابسة والبحر يجاور الصحارى ، والرياح الهائمة في الأعالي تحمل البذور التي ستضمها الأرض ، إلى غير ذلك مما تحمل من تعاليم وقيم إنسانية تحثّ على الألفة وتشكيل الانسجام ، وما تدعو إليه من تسامح ومحبة ووعي للذات واحترام الطبيعة التي تحتاج هي الاخرى فن الهايكو ليعيد لها اعتبارها من استغلال ثرواتها وخيرها الوفير في الشر ، ومن تدميرها وإحراق كنوزها وزهورها وشجرها بالصواريخ والمتفجرات والصراع الذي يجري عليها بجنون وعنجهية ، كما تؤكد على ضرورة وعي الذات من خلال تفعيل حركية ذلك الوعي ليكون قادراً على استقبال تلك المبادئ ، وعلى تفكيك النص الهايكوي الذي يتسم بالرغم من بساطته المضللة باللبس والتمنع ، لتعيد تشكيل دلالاته المفتوحة على آفاق عدة بعدد قرائها وأفق توقعاتهم .

(2)

من السمات المهمة للهايكو وللغة اليابانية أصلا أنه يقوم على القطع التركيبي والوصل الدلالي ، وهذا القطع هو ماعرفته السينما اصطلاحياً بفن المونتاج ، ولعل من اعتقد من الباحثين أن الشعر الحديث استعار فن المونتاج من السينما كان واهما ، ، فالقضية معكوسة ؛ لأن الأدب أقدم وجودا في الفن من السينما ، وأكثر رسوخا في التاريخ الانساني وهو الحاضن الاول للشعرية ولفن التصوير ولقطاته والحوار ورسم الشخصيات وغيرها ؛ ولذلك فإن السينما قد استعارت الكثير من الأدب بأنواعه ، قصة ورواية ولغة شعرية ومونتاجا ، لأن المونتاج مرافق للتصوير ، ولا بد للتصوير من قطع ووصل ، وخلال هذا القطع والوصل يتم حذفٌ كثيرٌ واختصار أكثر ، ويحدثُ إيجاز يضمر الايحاء لتكون الجملة الناتجة عن القطع والوصل قادرة على الانفتاح بين يدي المتلقي لمنحه الدلالة المحذوفة واكثر ، يقول سالم الياس:

فراشة بيضاء
تئن
لهب شمعة

فاللقطة الاولى هنا تركز على فراشة بيضاء في حالة أنين ، بينما تلتقط كاميرا الشاعر بعدها لهب شمعة ، ويأتي دور المتلقي لربط فجوة القطع بين اللقطتين كي يشكل الدلالة ذهنيا على مستويين الاول - بعد اجتياز المسافة الجمالية أو مسافة التوتر- أن أنين الفراشة ناتج احتراقها بلهب الشمعة ، والثاني ما تفتحه دلالة فعل الفراشة على التلقي من كون البراءة كثيرا ما تنخدع بمظهر جمال يضمر حتفها ، مع الانتباه الى دقة التشكيل في توظيف النكرة والنعت والفعل المضارع المستمر . فمفهوم اللقطة في التصوير يقوم على التقريب بين لغة الفن ولغة العقل ، وإن وجهة نظر ايزنشتاين المخرج الروسي الذي يؤكد دارسو فنه المبدع افادته من قطع الهايكو في مفهوم اللقطة والصورة الذهنية إذ يؤكد أن ما تعنيه اللقطة الواحدة لن يستمر عندما ترتبط بلقطة اخرى مختلفة المضمون ، وأن الحصيلة الذهنية عند المشاهد ستكون حصيلة التصادم الصوري للقطتين ، وبطبيعة الحال فإن اللقطة الثالثة سيخلقها عقل المشاهد ويصنع حدودها في الزمان والمكان على وفق ما هو مطروح في اللقطتين المعروضتين وبهذا يكون قد خلق معنى لا تحويه الصورة بصفة موضوعية بل ينتج من ارتباطها وعلاقتها مع الصورة الاخرى ..( قراءة أولية في نظرية المخرج السينمائي ايزنشتاين وفلسفته في المونتاج الذهني ، أحمد علي سليمان ،137 ، نت) ولذلك فإن مبدع فن الهايكو وناقده معا يحتاجان إلى وعي مدرك لفن المونتاج ؛ لتتضح طرائق وصل ما انقطع في الهايكو القائم على القطع في بنائه ولغته ، بينما يُعدّ الوصل سمة من سمات اللغة العربية ، ولذلك فإن كتّاب الهايكو في اللغة العربية لم يلتزموا كليا بهذا الشرط ؛ لأن طبع اللغة يحكمهم وهم يكتبون هايكو عربيا إلا فيما يراه الشاعر العربي جماليا من القطع ويضفي على اللغة العربية بُعداً جديدا ، أو يُطوّر فيها ما كان موجودا من سمات لم تلفت اليها النظر لقلتها أو صعوبة الإمساك بها ، فالقطع موجود في العربية لكنْ ليس من السهولة تأشيره ، لأنه لا يحدث من خلال علامات أو صيغ أو أدوات ، بل يحتاج الى إدراك دلالي للسياق جملة وتفصيلا ، بينما الوصل بالغ الوضوح ، وله أدوات عطف وصيغ وإحالات كثيرة تعمل على تماسك النص واتساقه . ومعاودة التواصل مع امما يعني أن لقطع في كتابة الهايكو العربي قد يعيد التواصل مع سمة لها أهميتها في تحريك الاسلوب وتنشيطه وفي تشكيل الدلالة ، وهي سمة لها حضورها في الأسلوب القرآني.

(3)

إن الهايكو لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفز المخيلة على البحث عن دلالاتها ، وتعبر عن المألوف بشكل غير مألوف عبر التقاط مشهد حسي طبيعي او إنساني ينطلق عن حدس ورؤيا مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كل مكان ، من خلال ومضة تأملية صوفية هاربة من عالم مادي ثقيل محدود ضاق بأهله حتى تركهم باقتتال ومعاناة ، بسبب هيمنة حضارة مادية استغلت الإنسان وداست على كرامة روحه وحرمته الأمن والسلام ، مما جذب انتباه الشباب الواعي ولفت المبدعين الى أهمية البحث عن السلام الداخلي المفقود ، من خلال الاقتراب من الروح وجوس عوالمها بحثاً عن صفاء فضاءاتها وسمو هدوئها وتجلياتها بعيدا عن توحش العصر وتغوّل احتكاراته وجشعه اللامتناهي في التعامل مع رغبات النفس وشهوات الجسد ، وذلك باعتناق المحبة والإيثار وملامسة الرقي في التجليات الإنسانية البعيدة عن زيف الحياة ، ومغادرة التمركز على الذات والنرجسية المفارقة لروح التواصل ، تلك هي مرجعيات الهايكو الياباني التي يحيلها الكثير من المفكرين والنقاد على منطلقات فلسفة الزن كما يصفها المعجم العالمي ، وكما شرحها مؤلف كتاب ( فلسفة الزن ، رحلة في عالم الحكمة) لمؤلفه جان لوك تولا-بريس ، لكن الشاعر العراقي والعربي لا يحتاج لمرجعيات الهايكو الياباني ولا فلسفاته لانه يمتلك من التعاليم الروحية في أدياننا وفي تراثنا ، ولدى الكثير من فرسان العرب ونبلائهم ما يفوقها ، لكنا بحاجة لمن يقترب منها ويمارسها اليوم عمليا ، فانقلاب الزمن ومفارقة القيم وويلات الهجمات الشرسة التي مرت على أوطاننا ، والتقدم التقني والمعلوماتي الغربي الهائل الذي شهده العصر الراهن وما جلب معه من بشاعة القطيعة الإنسانية والانصراف للآلة ، كل ذلك أبعد الإنسان العربي عن روح الأديان وصفاء القيم وهدوء السلام وأصالة الروح ، وأبعده عن الحدس الذي يحتاج شفافية ولحظة نقاء . وصار الرجوع للأصل اليوم ضرورة لا بد منها لتعديل مسار الإنسانية وإنارة طرق التواصل الحميم مع حياة تغادر الحقد والكراهية واسترخاص دم الإنسان والعمل على إقصائه وهدم حياته وإلغاء قيمه وسمات نبله.

إن الذين ينتقدون الشباب العربي على اهتمامهم اليوم بفن الهايكو عربيا، وليس يابانيا ، ينظرون للقضية على أنها مجرد لعب ، على أهمية اللعب الفني الذي يمتلك قوانين اللعبة ويحافظ عليها من الانفراط ، لكن المتدبر للأمر يجدها أبعد من ذلك وأهم ، إنها ليست عملية ممهدة ولا يسيرة ، بل هي طريق محاط بالمكابدة والمعاناة من أجل خلاص الروح والعقل والجسد ، لأتها ليست مسألة تغيير بنية أو تجديد شكل كما يتصور بعضهم ، بل هي تغيير رؤيا أولا ، وبدون هذا التغيير لن يكون لتغيير البنية كثيرُ أهمية . إن تطور الأشكال عبر تاريخ الفنون لم ولن يكون حقيقيا إلا إذا كان نتيجةً لتطور الرؤيا ، والمطلوب من هذا التغيير أن يطال أمورا كثيرة بالغة الخطورة ، كون الإنسان بأمس الحاجة إليها ، لأنها من المحتمل أن تكون تحفيزاً على فعلٍ جذري فشلت الميادين الأخرى في ريادته ، فعلٍ يغير بنية فكرية تقليدية أودت بالحياة العربية وحوَّلت شوارعها إلى ساحات دموية ، تحجرٌ في الفكر وطرائقُ سلوكيات ضيقة وردود فعل مغلقة ، وأدلجة لا تبصر غير مصالحها ومواطئ أقدامها ، وثقافة ذات بعد واحد عاجزة عن الانفتاح وعن الوثوب في النور والتجول في حدائق الآخرين ..نحن نجرب كما يفعل أخوتنا وزملاؤنا في أقطار عربية أخرى من المغرب والجزائر حتى العراق عبر سوريا وفلسطين ..نجرب ألا نكتب بطرائق جديدة حسب ، بل برؤى جديدة ، وبلغة جديدة تغادر الأحادية وتتخفف من تراكم المجازات والظواهر البلاغية والخطب الاعلامية التي أرهقنا بها إعلاميو السلطات ، مستعيضة عن ذلك بالاقتراب من الأصل بطرائق أكثر شفافية وبشعرية جديدة ، حتى لو كانت التجربة في البدايات مربكة ، وحتى لو نجحت مقاطع ولم تنجح أخرى ، فقصيدة الكوليرا لم تكن تلك القصيدة الباذخة ، لكنها كانت البداية لانعطافة غذت وأغنت نصف قرن كامل بتجارب مهمة وشعراء ذوي تجارب خلاقة مستوعبةً إشارات الوقائع والأحداث التي كانت ذات خطر بالغ الأثر على حياة الأمة ، قبل أن تهيمن قصيدة النثر التي أدى الإهمال النقدي في متابعتها والإشارة إلى الإخفاقات التي اكتنفتها ، إلى ترهلها وخفوت ضوئها سريعا.

لقد وصلنا في الحياة العربية عموماً إلى مرحلة يتفق فيها المخلصون على أن العملية التعليمية لم تعد ذات جدوى ، لأنها تحولت إلى مؤسسات تلقينية لا تعلِّم طرائق التفكير ولا تحث عليه ، إنها مؤسسات لا غاية لها سوى منح شهادات ورقية ، وصارت الجامعات تعمل بالطريقة ذاتها ، دون مناهج ولا تخطيط بدليل أنها تُخرِّج الآلاف وربما الملايين في الوطن العربي لكنهم لا يذهبون للعمل في ميادين تخصصاتهم ، بل يذهبون للشوارع وإلى مشاكل البطالة ، فصارت الجامعة لدينا مؤسسةً لتصدير المشاكل ، وكانت وظيفتها الستراتيجية التي اندثرت هي حل الإشكاليات وتوظيف الطاقات الشابة والتخطيط لبناء مستقبل ذي ركائز قوية قادرة على تأمين غد أفضل لشعبها وأمتها. ينتج عن كل ذلك غيابُ فلسفة تنهض استجابة لظروفنا كي تلبي حاجاتنا الملحة ،ولتعمل على تأسيس نظرية عربية تحمل سمات خصوصياتنا ، وتحثّ بمثابرة على رسم مناهج تطبيقية ، تخطط لمعالجة متطلبات إشكالياتنا المعضلة ، وترسم لنا طرائق تفكير جديدة ، تتأنى وتتأمل بعمق وتنظر إلى البعيد. وكان لا بد للإعلام العربي أن يكون ناتج ذلك التعليم العقيم والواقع المجدب ، فلا نجد في المؤسسات المذكورة أعلاه إشاعة ثقافة السؤال ولا بثّ أهمية ثقافة الاختلاف والتقبل والحوار ، ولا الدعوة المتكررة للتفكر والتأمل الذي حث عليه القرآن الكريم ولا القبول بالرأي الآخر ، ولا نحن ندرُسُ ولا ندرِّسُ علم الجمال من الصغر ، ولا نُدرجُ درس الفلسفة والحكمة في مناهجنا التعليمية عبر المراحل التعليمية كلها ، كل ذلك صاحبه عدوانات هائلة على بلداننا من قوى استعمارية ذات أهداف وأطماع في خيرات أوطاننا عطلت المسيرة وأودت بالمنجز منها ، مما أدى الى رتابة شاملة في التفكير وإلى توترات مرضية في السلوكيات وصراعات دموية عنيفة ومرعبة في الداخل ، أنتجت أدبا مربكا من جهة ، وإبداعاً طافحا بالعذاب والاغترابات من جهة ثانية ونقدا شديد الاضطراب من جهة أخرى .

لقد بذل شعر التفعيلة الجيد جهداً لا ينكر في العمل على تحويل النص الإبداعي العربي ونقده من مرحلة التفسير الى مرحلة التأويل ، تلك المرحلة التي استغرقت طويلا في تراثنا الشعري والنقدي ولا سيما فيما أُنتج من مضامين تقليدية انتزعت من طاقة الشعر العربي الكثير كالمديح الذي ظل ساعيا وراء الحكام لأسباب عدة طُرِحت في مواضعها ، لكنّ الاستثناءات التي سجلها شعراء ذوو مواهب راقية ونقاد اهتموا بتلك المواهب تبقى حاضرة في الذهن ، وكذلك فعلت النماذج الجيدة من قصيدة النثر ، لكن ذلك لم يمنع التراكم الذي التبس بخلط كبير بين الجيد النادر والكثير من التراكم اللفظي ، وتغطيته كميا على النوعي ، أما أن تكون جوهر التشكيلة الرؤيوية للهايكو قائمة على جهد تفاعلي جديد ، فذلك هو الأمر المهم ، إذ لم يعد الخلط هنا متاحا في نظر النقد الجاد ، فإما هايكو عربي ذو حركية جمالية قيمية جديدة ، وإما المغادرة خارج النموذج ، هايكو قائم على ومضة سريعة أو على مشهد قادر على احتواء متناقضات تمثل الحياة برمتها هما السكون الذي تموج في داخله حركية تعمل على إطلاق الرؤيا والانفتاح الدلالي الذي يثير دهشة ما ، ويحفز الفكر لتشكيل الدلالات المتاحة بمؤازرة التأويل ، مع أهمية الالتزام بعلوم اللغة من نحو وصرف وتلاؤم صوتي وضبط أسلوبي وإيقاعات منسجمة بعيدا عن التراكمات البلاغية ، ويكون الشاعر مدعواً إلى ملاحظة ضرورة التوازن في التشكيل بين المتطلبات والخصائص ، بما يجعل الهايكو عربيا حقا في تشكيله ورؤيته معا ، محافظا على ترسيمته الأصلية في أول نشوئه وهي قيامه على الأسطر الثلاثة وعلى اقتناص اللحظة الجمالية ، وملاحظة التوازن بين تقنيتي الفن وجمالية التلقي ، عارفا أن النص الإبداعي الحقيقي يقاوم تقاليد نوعه مثلما يقاوم النمطية وتسلط النموذج القار ، على أن الدعوة لهذا الفن لا تعني كونه بديلا لأشكال الشعر العربي أو إنكاراً لأهميتها ، بل هو إثراء للشعرية العربية وتنويع على أشكالها ومنظوماتها التعبيرية .

إن انسحاب جماليات الهايكو من الخاص الى العام ومن المحدود إلى الكوني هو تخليص للإنسان من الذات وانغلاقها بالعمل على جرّه – بفن- إلى رحابة الجماعي وجماليات الكوني انطلاقا من حقيقة ملخصها أن الحياة بأصالتها لا يمكن أن تتجلى إلا خارج الذات حيث يتألق الفعل الجماعي بحركية الانساني وفاعليته أولا ، وأن الجمال الحقيقي لا يتبدى رائعا إلا خارج السياق ثانيا ، ولذلك فنحن نبحث عن الغائب في الحاضر ، وعن المفقود في الموجود خارج النص لكن بإشارة لماحة منه . ولعل هذه الأسطر الأخيرة تلخص محنتنا في الثقافة والفنون ، فغياب دور الثقافي والفني والجمالي في الحياة ، وانفراد السياسي بها هو الذي أدى بضيق النظر الأناني الشرير وغياب صفاء الروح إلى تنمية الكوارث والانقسامات والتمزق النسيجي لشعبنا الواحد ولمجتمعنا الذي يدفع من دمه وحياة أبنائه ثمنا لمصالح الجهلة وأنانيتهم ....... يتبع.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى