محمد كريم الساعدي - المتّلقي الرّقمي في زمن المتغيرات العالمية

بعد ظهور التّقنيات الرّقمية وإزدياد الحاجة إليها فيْ بناء الوعي المعرفي الجديد، فقد يتخذ من العلوم التّقنية المتقدمة وسائلاً للبحث والتقصي، عن معلومات جديدة قد تقلل من معاناة المتلقي، في ظل الظرف الصحي الراهن الذي جعل العالم يبحث عن طرائق فعالة في التعلم والتسوق والمبادلات التجارية وغيرها ، بالإضافة الى تبادل الخبرات والمعلومات الصحية وغيرها والبحث عن التواصل عن بعد الذي انتجت مصطلح التباعد الأجتماعي ، بعدما كان التقارب الأجتماعي والاستخدامات الخاصة بالتعامل المباشر الذي كان موجود . لذا فأن ما يقدمه التّلقي الرّقمي، بوصفه أداة معرفة توفر المعلومة بأقلِ جهدٍ على الرغم من خطورة هذهِ المعلومة، كونها قد لا تعود إلى مصدر موثوق به، من حيث الأمانة العلمية أو الأثر الرجعي لهذهِ المعلومة، لكنه فيْ الوقت نفسه يصبح مفتاحاً مهماً للعديد من المعارف والفنون والعلوم المراد الوصول إليها، ومما يتطلب في ذلك متلقي ذات سمات ومميزات جديدة، يختلف عن المتّلقي التّقليدي ذات النّظرة السّابقة، المستندة إلى وسائل أقل تقدماً من الوقت الحالي، كما فيْ الوسائل الورقية المعروفة من كتابٍ وصحيفةٍ ومجلةٍ، وكذلك الوسائل البصرية الأخرى، مثل السّينما والتلفاز، أو السمعية، مثل الراديو وغيرها، والتّي كانت فيْ أغلبها تعمل بشكلٍ منفصل عن بعضها البعض، أما فيْ الوسائل والتّقنيات الحديثة، فهي قد تشترك مع بعضها لبعضٍ فيْ إيصال وتوفيْر المعلومة، مما يتطلب من ( المتلقي / التّلقي الرّقمي ) أن يكون مستنفراً لحواسهِ كافة دفعةً واحدةً خلافاً لما كان فيْ السّابق، أي " بعدما كان الواقع الفعلي يُتلقّى حسياً يعمل الإنسان (مبدعاً أو مفكراً) على تمثيله، (اما ذهنياً / مخيالياً)(الإبداع الأدبي)، أو عقلياً منطقياً (الفكر)، ها هو نص الواقع الإفتراضي لا يعود الا فائقاً فيْ تلقيه، أي تشترك فيْه المعرفة المسموعة والمقروءة والمرئية دفعة واحدة، وهذا يعني أن معرفة العصر الحسية تستدرج سائر الحواس مجتمعة بوتيرةٍ واحدة "(1) .

وهنا تأتي عملية التّغيير فيْ التّلقي، الذّي أصبح أكثر استنفاراً من حواس التّلقي الرّقمي، أي إن هذا النّوع من التّلقي يجب ان يتصف بالآتي :

  • التّحفيز والمشاركة للحواس لدى المتلقي، كونه يواجه نصاً جديداً، يحمل فيْ تكوينهِ العديد من وسائل الجذب، التي تحتاج إلى تعزيز الحواس من أجل متلقي واعي بطريقةٍ مغايرة عن المتلقي العادي.
  • إن هذا التّلقي يدخل فيْ جمع معلومات مشتركة، فيْها كل بعد من الأبعاد البصرية والسّمعية والحركية، لأن النّص المتلقاه لا يقتصر على الكتابة فقط، أي حروف النّص؛ بل من الممكن أن تدخل الصّورة الثّابتة والمتحركة والصّوت معاً فيْ إجتماع كلي لباث مختلف عن الطّرق التّقليدية فيْ الإنتاج الإبداعي.
  • طريقة إنتاج النّص سواء كان (مكتوباً أو مرئياً أو مسموعاً)، يحمل معه كثافةً فيْ الطرح المعرفي، لأنه نصاً ابداعياً، يحمل فيْ مضامينه أفكاراً تأخذ مدى أوسع وأعمق من النّص التّقليدي الأحادي الجانب، مع العلم إن هذا النّص فيه أبعاداً متعددة، قياساً لكثرة الوسائل المشتركة فيه بوقتٍ واحد من خلال الجهاز الإلكتروني، الذّي يُعدّ من أهم الوسائل الإلكترونية القابلة لإنتاج المعنى لهذهِ الأشكال المعرفية.
  • من هنا نتكلم عن النّص، الذّي يُعدّ هو المعيار الأساسي فيْ وسائل الإتصال الحديثة، وليس على كل ما يكتب؛ لأن النّص الذّي يحتوي على هذهِ الإمكانيات المعرفية، هو من يؤثر وينتج متلقي ذات مواصفات معينة، يتواصل معرفياً معه، أي ينتج طريقةً تّلقي رقّمي، تجعل من هوية المتلقي تابعةً ومنقادةً لهذهِ الطّرق الحديثة فيْ البثِ التّقني، مما يجعل التأثر أكبر لهويتهِ المحلية بما يقدم.
  • لذا فأن من أهم مواصفات النّص الرّقمي الذّي يصنع متلقي رقمي مغاير للمتلقي التّقليدي غير الرّقمي (التّقليدي)(2):
  • هو نصٌ مترابط يحتوي على العديد من الوسائل المتداخلة، التّي تسهم فيْ إنتاج معرفي متداخل، بين هذهِ الوسائل البصرية السّمعية الحّركية، ذات الطّابع التّقني المتشكل على طريقةِ الإتصال الرّقمية الحديثة، وعلى الأفكار المتشعبة فيْ بنياته.
  • هو ذات مفهوم (سيبرنصي)، ذات دلالات تتصل بشكل بنائهِ، إذ يعطي بعداً اعقد من النّص ذات التّلقي غير الرّقمي.
  • يستخدم فيْ إنتاج هذا النّص إمكانيات وبرامج رقمية، من روابط وصور ثنائية وثلاثية الأبعاد، وعقد وازرار مختلفة الملامح، تجعل من هذا النّص جسداً متشعباً متمرداً على كل الأنماط الخطية التّقليدية.
  • ليس لهذا النّص بدايات ونهايات، كما فيْ النّصوص التّقليدية السابقة؛ بل هو نصُ ينتجُ من مفاصلٍ ومفاتيح متعددة، لولوج فضاءات مفتوحة، فهو يقرأ ويسمع ويشاهد، وتمتزج فيْه مختلف الاشكال التّعبيرية.
  • أما ما يوفره النّص، فهو بوصفهِ مادةً إبداعيةً، ذات بنية تحمل العديد من الدلالات والمعاني، إستناداً لكون هذا النّص يحتوي طريقةً لتلقيه، تحمل من سماتهِ صورتها ومعناها، فهذهِ الطّريقة تسمى بالتّلقي الرّقمي؛ كون النّص وعملية تلقيه، تعتمد بشكلٍ أساسي على طبيعة هذا المعطي الفني والأدبي والإعلامي، وغيرها من الجوانب الأخرى كالسّياسة والإقتصاد والإجْتِماع وغيرها؛ لذلك فأن هذا النّص الرّقمي يعطي دوراً تفاعلياً فيْ داخل عملية التّلقي الرّقمي للقارئ / المتلقي فيْ هذهِ العملية. اذ يتميز هذا الدور بالآتي:"
  • إنه حرية التّنقل التّرابطي بين أجزاء النّص.
  • الإنتقال إلى خيارٍ مفضل من مجموعةِ الخيارات.
  • الإجابة على السّؤال؛ بحيث تقرر الإجابة وجهة النّص الجديدة.
  • الطّلب من المتلقي أن يتخذ قراراً ما، عند نقطة معينة ونقله إلى جزءٍ من النّص، يتركب على ذلك القرار.
  • تمكين المتلقي من تغيير الألوان، وإختيار الخلفيْات الرسمية، وإستغلال خياراته لتوجيه النّص، وهناك إمكانيات كثيرة أخرى، يمكن للمنشئ إبتكارها لتوليد التّفاعل بينه وبين المتلقي " (3).
  • أما عملية إدراك المتلقي فيْ عملية التفاعل الرّقمي، فهي تنطوي على تفاعلات مختلفة الأبعاد ومنها:
  • ما يرتبط بالنّص ذاته، وآلية تشكيل المعنى المنطلق، حسب التّلقي الرّقمي لهذا النّص أو ذاك، حسب طبيعة المرسل والمستقبل، كون العملية تخضع فيْ اطارها الرّقمي للفضاء المعرفيْ بين النّص ومتلقيه.
  • لا يحكم النّص عملية التّلقي الرّقمي؛ بل ان المتلقي فيْ فضاءِ التّلقي الرّقمي، هو من تكون لديه عملية الوصول إلى المعنى المحدد، من خلال إختيار ما هو أفضل فيْ عملية الإختيار الرّقمية، التّي يتم تداولها فيْ داخل فضاء التّلقي الرّقمي مع النّص.
  • يفرض على مزاج المتلقي فيْ فضاء التّلقي الرّقمي، الإطار العام بآليات التّلقي ،أي أن يدلي برأيهِ فيْ شكل الخلفيْات وألوانها، وتوجيه النّصوص يوفرها من يعمل على بثِ نصهِ الرّقمي، ففيْ فضاء التّلقي الرّقمي كخيارات تسهم فيْ بلورة هذا المزاجُ وطبيعة التّلقي فيْ هذا الفضاء.
  • ان فضاء التّلقي الرّقمي يتميز عن فضاء التّلقي التّقليدي بعددٍ من الصفات، التّي تجعل من التّلقي الرّقمي يحظى بأكبر مساحة معرفيْة من التّلقي التّقليدي، من حيث إن الفضاء فيْ التّلقي الرّقمي، يوفر مساحة افتراضية، وخزين معرفيْ بالمعلومات أوسع وأكبر حجماً من فضاء التّلقي التقليدي؛ لذلك فأن الخبرات التّي يوفر الفضاء الخاص بالتّلقي الرّقمي هي: "
  • السّرعة: فعملية النّشر الّإلكتروني، تتم فيْ وقتٍ قصير، مقارنة بالوقتِ الذّي يتطلبهُ النشر الورقي، وبالتالي توفر الزّمن وإختصاره.
  • السّهولة: تتم عملية النّشر الرّقمي بسهولةٍ ويسرٍ.
  • اختصار المسافات، وتوفيْر الجهد.
  • إتاحة الفرص أمام أكبر عدد ممكن من القراء، مهما تباعدت إقاماتهم، وتباينت وجهاتهم، وإنتماءاتهم القومية والعقدية والثّقافية ... الخ.
  • دمج النّص بالنقود الموجهة له، الامر الذّي يعطي بعداٍ آخراٍ لعمليةِ الفهم والقراءة.
  • الّتفاعل المباشر بين الكاتب / المُستَخدِم والقارئ والنّص " (4).
إنّ هذهِ الميزات التّي يوافرها التّلقي الرّقمي، من الممكن أن تصبح من الأمور المهمة فيْ التأسيس لتشكيل إنتاج المعنى، تلحق بإطار تقني رقمي قابلة لإنتاج معاني جديدة إذا ما استخدمت عملية تركيز هذهِ المزايا وتعميقها فيْ فضاء التّلقي الرّقمي؛ على الرغم من ذلك فلا بد من الابتعاد أو الوقوع بالإستغلال؛ لأن هذهِ العملية تعرض فضاء التّلقي الرّقمي إلى اللإستغلال من قبل المُستَخدِمين، فيْ إنتاج وتلقي النصوص على مختلف مستوياتها؛ لأن هذهِ العلمية قد تخضع لضوابط ومعايير؛ لكن الصعوبة فيْ متابعتها، لأن العملية تقع فيْ فضاءات تّلقي رقّمي متعددة ومتنوعة، بموجب طبيعة المُستَخدِم واغراضه من وراءِ هذا العمل، الذّي يقدمه فيْ هذا الفضاء الرّقمي.

إن الفضاء الرّقمي للتلقي لابدّ أن يخضع للرقابة حتى يكون أساس فيْ عملية التّفاعل الرّقمي بين المرسل والمستقبل / المنتج للنص والصّانع للمعنى، وهذهِ الشروط ممكن أن تشكل ميثاق أولي ضمني من الممكن أن يكون من الركائز المهمة لضبط هذهِ العملية، وهذهِ الشّروط هي: (5)

  • الصّورة فيْ إطار غير نمطي: وهذا الفضاء الرّقمي سيحدد إطار الشكل المنتج لكونه خارج عن التّقليدية فيْ طبيعة النّص، من خلال تأليف يخضع للدلالات ذات الأبعاد الرّقمية فيْ داخل الفضاء الرّقمي.
  • التّلقي الرّقمي ودوره الفاعل: إن الفضاء الرّقمي يضمن لوجود متلقي ضمني مفترض، له دوراً محورياً فيْ إنتاج العملية النّصية ذات الأبعاد التّقنية الرّقمية، وله ميزات مهمة منها:
  • الحرية فيْ إختيار النّص.
  • الحرية فيْ إختيار الوقت.
  • الحرية فيْ إختيار الشكل.
  • الحرية فيْ التّحكم بالخلفيْات الخاصة، بطبيعة الشّكل الذّي يوجدها الباث للشكلِ، وأنواع الخطوط وألوان الخلفيْات وغيرها.
  • عدم التّقييد فيْ مديات الوصول إلى المتلقي: أي أن النّص المنتج، والوصول إليه يكون خارج أُطر التّقييد التّقليدي، أي أن النّص يكون مفتوحاً وبلا حدود ولا ضوابط تّقيد إنتشاره وجنسه، (إلا فيْ حدود الدّراسة) أو الّضوابط الأخرى، التّي تجعل من النّص يقع فيْ مجال الإبداع، ولا يصل إلى مستويات غير لائقة، بفضاء التّلقي الرّقمي الذّي يشتغل من خلاله.
إذاً، بالعودة إلى التّلقي الرّقمي، بين المفهوم والأشتغال، لا بد أن يحدد هذا المصطلح فيْ أنه فضاء إشتغال وتقديم النّص الرّقمي، وهذا النّص الذّي يحّفز حواس المتلقي، فيْ دائرة الفضاءات الرّقمية ووسائطها المتعددة، من الممكن أن يخلق طريقةً جديدةً يكون فيْها المتلقي قادراً على إنتاج المعنى، يأخذ مداه من المساحات المعرفيْة الإفتراضية الواسعة، التّي تقدمها المضامين المعرفيْة الكامنة وراء هذهِ الشّبكة العنكبوتية العملاقة، أي يتحول الفضاء الرّقمي فيْ ضوءِ عملية التّلقي الرّقمي، إلى فضاءٍ ممتد إلى حدود غير معلومة فيْ بداياتها، ولكنها تصل فيْ نهاياتها أو إمتداداتها، فيْ ضوء إتجاه معرفيْ يقصده المتلقي فيْ هذا الفضاءُ المعرفيْ، وهذا التّلقي الذّي يستفز كل حواس المتلقي، الذّي يقع فيْ دائرة المتابعة والتّركيز والإستمرار والإستدراج للوصول إلى ما يريد أن يصل إليه فيْ صورة ٍ، تحمل وسائل متعددة وآليات تحكم متنوعة، وطرق جاذبة لهذا المتلقي فيْ داخل الفضاء الرّقمي.

الهوامش

  • عمر زرخاوي بن عبد الحميد: العصر الرّقمي وثورة الوسيط الالكتروني، جامعة تبسة، مجلة المختبر – وحدة التكوين والبحث فيْ نظريات القراءة ومناهجها، ب .ت، ص 119.
  • ينظر، جمال قاسم: النّص الادبي من الورقية إلى الرّقمية (آليات التشكيل والتّلقي) ، الجزائر ، معهد اللغات والادب العربي، 2009، ص 52.
  • ثائر عبد المجيد العذاري: الادب الرّقمي والوعي الجمالي العربي ، بغداد : مجلة الفراهيدي ، العدد(2) ، السنة الأولى، ب .ت. ص 83 – 84.
  • .جمال قاسم : نفسه ، ص 37.
  • ينظر: حمزة قرية: المسرح التفاعلي – إشكالية البناء وأزمة التّلقي، مجلة العلامة، العدد الثاني، 2016 ، ص 188.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى