منصف بندحمان - محدودية قصيدة النثر في المغرب

تعتبر القصيدة المغربية بتنويعاتها، تجربة جمالية وشعرية لها خصوصيتها وعمقها ونظرتها للعالم. فالشعر ليس ترفا أو انزياحا أو صورا بلاغية وجمالية معزولة عن الواقع، وعن البعد الفكري والثقافي للمجموعات البشرية.
إن ما يعطي للشعر وهجه وانتشاره وبقاءه، هو العمق الثقافي والفلسفي وبعده الإنساني والروحي بالمفهوم العام. الشعراء الذين تمكنوا من أن يبصموا وجودهم، كانوا مدافعين عن قضايا رفيعة. لوركا شاعر إسبانيا، بابلو نيرودا، محمود درويش، المتنبي والمعري واللائحة طويلة. للشعر مساحته وحريته، له الحق أن يعبر بالشكل الذي يراه مناسبا، أن يثور على الحاكم وعلى الناس والطبيعة أيضا. ليس له الحق أن يلعب باللغة بشكل مجاني كما تدعي بعض المدارس.
عرفت القصيدة المغربية الحديثة تنويعات بلاغية ولغوية وإيقاعية متباينة، وكانت أغلبها تصب في الاختيارات الجمالية التي تنحو منحى بنيويا، تيمنا بالثقافة الفرنسية وبالحركة البنيوية الناهضة في الخمسينيات إلى حدود الثمانينيات، مع تنظيرات علم الجمال الخالص، والاهتمام بالعالم النصي، دون ربطه بالواقع الاجتماعي وبالمحيط العام. إن كانت الموجة الثقافية البنيوية الفرنسية لها أثر بليغ على الثقافة المغربية وأعطت نفسا معينا للقصيدة، أثرت بعض الأشكال والقوالب والاختيارات الجمالية. فقد أوقعت الشاعر في الافتعال عوض الانفعال، في الغموض عوض الرؤية الجمالية العميقة، في اللعب اللغوي المجاني الممض الذي يؤرق الشاعر والقارئ ويجرهما إلى متاهات بلا مخرج أو دليل.
انطلاقا من هذه الأجواء تخلقت قصيدة النثر، وبرزت على السطح كاختيار جمالي جديد، يوافق منطق العصر والمتغيرات الجديدة. كانت قصيدة النثر وستبقى تنويعا فنيا في الشعر العالمي لها مكانتها النسبية، ونبرتها المحدودة داخل سياق أدبي وثقافي عام. رغم أنها تبدو مشاعا مطلقا وتثير كل من وضع يده على جرح الكلمات. وتلك أحد عيوبها ومزالقها، التي أعاقت نموها وحدت من انتشارها وقدرتها على الصمود والمجابهة.
في خضم الانبهار الثقافي بالموجة الأدبية الجديدة، تهافت العديد من الشعراء باحثين عن الطريق الذي يبدو الأسهل بلا رقيب أو حسيب، فضيعت القصيدة الحديثة الفرصة على نفسها وسقطت في النثرية والابتذال والتكرار، وأصبح الشعراء يعيدون كتابة القصيدة الواحدة مئات المرات. بالمعجم اللغوي نفسه، والصور نفسها، والمرجع الثقافي والاختيارات الجمالية العامة نفسها. انزلقنا في التسطيح والإسفاف والتكرار والاجترار والتعقيد المفتعل.
تبقى قصيدة الإيقاع أكثر انضباطا والتزاما. قادرة على أن تلملم أطراف العالم وتعيد تكوينه جماليا بشكل أفضل من قصيدة النثر، التي تبعثر اللغة والإيقاع والفكرة وتسرح في التخييل بلا ضوابط ولا حدود. يجعلها في كثير من الأحيان تدخل في خانة الخاطرة والنص المفتوح ولا ترقى إلى المستوى الشعري المطلوب.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى