كان جرَّاح واستشاري العيون الدكتور أحمد يعقوب، واقفاً يتأمِّل في سُور البيت القديم، حين أحسَّ بحركةٍ خلفه.
التفت فشاهد كهلا قصير القامة، يُطالعه بريبة. وعلى رغم السنوات العشر، تعرَّف على الرجل. كان جارهم الحاج عبدالجبار، رفيق أبيه، وأكثر الناس احتراما وتقديرا له من بين معارفه.
قال في صوت غليظ:
- أنا الدكتور أحمد بن الشيخ يعقوب.
رفع الرجل حاجبيه دهشة، وبعد تأمُّل قصير، قال:
- لم نجدك في فاتحةِ أبيك!.
- تعذَّر علي ذلك.
- كان يتمنَّى رؤيتك بشدَّة.
هزَّ منكبيه بحدّة وأجاب:
- لم يكن باليد حيلة. لو رجعت لما عدمت الموت أو الاختطاف.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه الرجل القصير:
- تمنَّيت لو أنك خاطرت، فهو أبوك على كل حال.
ازداد وجه الدكتور تجهُّما فسارع الرجل للقول:
- عموما هذا بيت أبيك، تركناه كما هو. لم يعبث أحد بأيٍّ من محتوياته، عدا عن قيام أم جابر بكنسه بين حين وآخر.
- جزاكم الله خيرا.
- هل المفاتيح بحوزتك؟
- لقد أضعتها للأسف.
ارتسمت الابتسامة الساخرة مرَّة أخرى على وجه الرجل القصير:
- انتظرني ريثما آتيك بها.
وغاب لدقائق، عاد بعدها وناوله المفاتيح وانصرف مسرعا، كأنَّما يفرُّ من شيطان رجيم.
لقد مرَّت عشرة أعوام منذ أن ترك أباه الشيخ، وآثر الهجرة والاستقرار في المملكة العريقة، طبيبا حاذقا وأستاذا جامعيا مرموقا.
تقدَّم من الباب، وفتحه، فسمع له صريرا مؤذيا، هزَّ على إثره رأسه، في حركة وشت بمزاجه السيء.
ولج للرواق فطالعه الباب الداخلي القديم، بنقوشه التراثية. كان أبوه شديد الاعتزاز بهذه الخردة.
كذلك بدت أصص الزهور، على جانبي الباب. لقد كانت مَحلَّ عناية أبيه، يسقيها الماء كل يوم، ويجهد في دفع النمل والحشرات عنها.
فتح الباب، فتلقَّف أنفه الرائحة القديمة. خالجه شعور بالضيق، لاختلاطها برائحة منزله في لندن.
مدّ يده بحركة آلية للزرِ على اليمين، فأضاء المصباح المكان. وكان باب المكتبة في الواجهة، أوَّل ما وقع عليه نظره، قبل أن يرتدَّ بطرفه يسارا، لباب المجلس، حيث كان يجلس أبوه، يحوطه العلماء والأدباء، وطلبة العلم، فلا يغادرونه إلاَّ في وقت متأخر من الليل.
مضى للداخل، وفتح الباب على يمين الدرج، فواجهته صورة أبيه، معلَّقة على الجدار أمامه.
بلى هي صورة أبيه شديد العناد، الذكي الذي أضاع عمره بين الكتب باحثا عن زهرة الخلود.
جلس على الكنبة القديمة، القابعة في مكانها في الرواق ما بين غرفته وغرفة أبيه، ثمَّ استسلم لرغبته في إراحة جسده، فتمدَّد عليها، بعد أن أزاح عنها الغبار.
هذا هو البيت الذي نشأ فيه مع والدَيه، قبل أن يختطف الموت أمُّه المسكينة. وهو الآن لوحده تماما، ولا يخال أحدا من أهله وأصحابه، يتذكُّره، كما أن زوجه وأبناءه هناك في الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، ولو شاء الله أن يأخذ روحه لمات وتعفَّن دون أن يلحظه أحد.
وإن أشباحا من حياته لتلوح له. طفولته الحزينة، صِباه الكئيب، أحلام الشباب المطمورة، تخرُّجه من الجامعة بمرتبة الشرف، عذاب البحث عن عمل، اليأس والتفكير في الهجرة.
لم يعترض أبوه على فكرة الهجرة، بل شجعه على السفر. كان من رأيه أن البلد انتهى تماما، ولن تتحسَّن أحوالُه إلا على يد نبي مرسل من السماء.
كان يتنبأ بجوعٍ سيأكل كل طبيعة سمحةٍ في النفوس، ويخرج شرورا لا قِبل للناس بها. جوع سيحوِّل الناس إلى وحوش همُّها أن تأكلَ ما يسدَّ رمقها. شلاَّل دم لن يتوقف عن الجريان، وجرائم تقشعر لهولِها الأبدان، حتى تستطيب الأم أن يموت ولدها ولا يقع في براثن الفقر والمرض.
لذلك عقد العزم على الهجرة، حيث يمكنه أن يعيش محترما، آمنا على نفسه، منصرفا للعمل والدراسة، وجمع ثروة تضمن له حياة رخيَّة مستقرَّة، وشيخوخة مطمئنة، وليس كأبيه الذي آثر عيشة الكفاف، مكتفيا براتب التدريس، صارفا نصفه على أبحاثه وتحقيقاته.
الأمرُّ من ذلك أنَّه ضَعُف أمام إلحاح أمُّه، فتزوَّجها ونقلها إلى طامورته هذه. الفتاة التي شغفت حبَّا بأستاذها، عارضت رغبة أبيها، وانتقلت للعيش مع زوج لا يملك شروى نقير.
لقد خسرت المسكينة كل شيء؛ فإذا كان أبوها.. جده، طيبا رقيق القلب، فإن إخوانها، أخواله، لم يغفروا لها ذلك، فما أن مات، حتى تقاسموا أمواله بينهم، وتركوها خاوية الوفاض. ولو كان أبوه فتوُّة، لتمكَّن من مناجزتهم، لكنه كان مُتعلِّما ليِّن الجانب، يخشى إراقة دم بعوضةٍ وليس دم إنسان يُسأل عنه عسيرا يوم القيامة.
ابنة الجاه والعز، خسرت حدب أبيها وماله الكثير، وانتقلت للعيش مع رجل فقير. حقيقة وعتها جيدا، فلم تترك دقيقة تمرُّ دون أن تنفِّس فيها عن ألمها، بكلمات تكوي ظهر أبيه.
لقد حوَّلت حياته إلى جحيم حقيقي، صراخ وزعيق طوال اليوم، يتجاوز سقف البيت ليصل إلى بيوت الجيران، فيما أبوه لا يشكو ولا يتذمَّر، منكَّب ليل نهار على كتبه ودفاتره.
وابتسم بمرارةٍ حين تذكَّر تعليق أبيه. لقد دخل عليه يوما ووجده يحمل بين يديه كتابا، يقرأ ويهزُّ رأسه أسفا على حاله، بينما صوت زوجهِ يصله، جائرا بالشكوى، لاعنا إيَّاه والساعة التي اقترنت فيها به.
قال محاولا التسرية عنه:
- لا بأس يا أبي، لقد عانى سقراط كثيرا من زوجه.
فرد أبوه بابتسامة باهته:
- كان محظوظا أن حكموا عليه بشرب السم.
لكن أباه كان شخصا مثيرا للحنق بحقَّ. فالرجل صاحب العقل الكبير، والموسوعي الذي قلَّ أن يجد له نظيرا، كانت غشاوة على عينيه، تمنعه من تأمُّل السعادة التي يعيش في كنفها زملاؤه من الأساتذة الموظفين في الجامعات خارج وطنه. كانت عزَّة نفسه، تمنعه من أن يداجي فلانا من المسؤولين، أو يكذب في سبيل منفعة ما.
لا نفاق ولا مجاملة، فأيُّ حال سيء يمكن أن يتردَّى إليه رجل لا يمتلك سوى راتب يأتيه شهرا، وينقطع عنه عدةّ أشهر.
فجأة، شاهد باب الغرفة يفتح، ويبرز منه أبوه، ببشته الرمادي.
هَبَّ من فوره، وراح يُحدِّق في الجسد النحيل:
- أبي!.
ردَّ أبوه غاضبا:
- بلى. أبوك الذي ظلَّ يحلم برؤيتك لعشرة أعوام كاملة.
خفض عينيه للأرض:
- أنا آسف.
- انتظرتك حتى آخر لحظة في عمري، لكنك بخلت بالمجيء. تركتني للغرباء يتولَّون دفني.
- الظروف يا أبي كانت..
- أيَّة ظروف هذه تمنع ولدا من زيارة أبيه المسن؟!
- لقد خشيت الموت أو الاختطاف.
- لقد انتهت الحرب منذ سنوات! فلا تتعلل بمثل هذه الأمور.
- أنا..
- أعرف ماذا ستقول. لقد طابت لك الحياة. عمل وزوجة وأبناء. كيف تترك كل ذلك من أجل شيخ فقير، محطَّم القلب.
- صدٌّقني..
- اسمعني. لقد جئتك فقط لأطلب منك معروفا أخيرا. لقد عشت عيشة الكفاف، بينما حضرتك لم تفكِّر في إرسال دينارٍ واحد لي.
- أنا..
- أنا لا ألومك الآن. لقد انتهى كل شيء وأنا في مقعدي الآن مرتاح مطمئن. فقط ما زال في نفسي شيء من مخطوطاتي.
- أتودُّ أن..
- نعم. إن كل ما أتمناه أن تسارع إلى طباعتها.
- أفعل إن شاء الله.
- أتعدني بذلك؟!
- بلى. أعدك بذلك.
- حسن، سأثق بكلمتك.
ثمَّ اختفى وراء باب غرفته.
أمَّا هو، فانتبه جالسا على الكنبة. دعك عينيه، وأسرع فأمسك بمقبض باب غرفة أبيه، لكن الباب كان مقفلا.
عاد للكنبة، وألقى برأسه للخلف:
- كان حلما إذن؟!
توجَّه متثاقِلا لغرفة المكتبة. فتح بابها، فشاهد الكتب في كل مكان، ترتفع حتى تصل السقف!. هزَّ رأسه متذمَّرا؛ لطالما حرمه شغف أبيه هذا، من أشياء كثيرة كانت في متناول الجميع.
وجد أكثر من مُؤلَّف بخطِّ يد أبيه. أمسك بإحداها، وقرأ.. تحقيق لديوان الشاعر الفيلسوف. أمسك بآخر.. دراسة حول حقبة أدبية مسكوتٍ عنها، أمسك بثالث ورابع وخامس...
- ثمَّ ماذا؟
صاح بحنقٍ، وهو يرمي المخطوطة بعنف على المنضدة:
- أجبني يا أبي.. ثمَّ ماذا؟ ألا يكفيك أنك حرمتني من أبسط الأشياء، لتأتي الآن وتأمرني أن أطبع مخطوطاتك المغبرَّة، المسببة للسُّعال؟!
وألقى بنفسه على الكرسي، قرب المنضدة، وغطَّى وجهه براحتيه، وغرق في شعور كريه تسبح فيه أطياف ذكريات مليئة بالشجن والكآبة. ثمَّ دفع المنضدة بقوَّة بقدميه، فتناثرت الأوراق على أرض المكتبه العارية حتى من قطعة سجَّاد مستعملة.
ووقف دفعة واحدة، وصَرَّ على أسنانه، وقال في تصميم:
- لقد انتهى كل شيء بموتك يا أبي. انتهى كل شيء. من حقَّي أن أعيش حياتي بالصورة التي أريدها.
وأسرع فخرج من البيت، دون أن يُعنى بغلق الأبواب.
توجَّه مباشرة لبيت جاره الحاج عبدالجبار.
طرق الباب بقوَّة، فخرج هذا متسائلا.
ناوله المفاتيح، وسأله دون مقدَّمات:
- أيمكنك أن تبيع البيت؟
ردَّ الرجل في دهشةٍ بالغة:
- ماذا؟!
- كان أبي شديد الثقة بك، لذلك أودُّ منك أن تبيع البيت وترسل لي المبلغ، بعد أن تأخذ أتعابك.
وأخرج من جيبه بطاقة، ناوَله إيَّاها:
- ستجد فيها عنواني ورقم هاتفي.
- لماذا تفرِّط في بيت أبيك؟!.
- لا أريده. لا أريد شيئا يذكرني بهذه الحياة التعسة.
- وماذا عن مخطوطاتِ أبيك. مؤلفاته؟
- تصرّفَ فيها. إنها لك.
ومضى، وجاره يضرب كفَّا بكف، هازَّا رأسه أسفاً وحسرة.
التفت فشاهد كهلا قصير القامة، يُطالعه بريبة. وعلى رغم السنوات العشر، تعرَّف على الرجل. كان جارهم الحاج عبدالجبار، رفيق أبيه، وأكثر الناس احتراما وتقديرا له من بين معارفه.
قال في صوت غليظ:
- أنا الدكتور أحمد بن الشيخ يعقوب.
رفع الرجل حاجبيه دهشة، وبعد تأمُّل قصير، قال:
- لم نجدك في فاتحةِ أبيك!.
- تعذَّر علي ذلك.
- كان يتمنَّى رؤيتك بشدَّة.
هزَّ منكبيه بحدّة وأجاب:
- لم يكن باليد حيلة. لو رجعت لما عدمت الموت أو الاختطاف.
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه الرجل القصير:
- تمنَّيت لو أنك خاطرت، فهو أبوك على كل حال.
ازداد وجه الدكتور تجهُّما فسارع الرجل للقول:
- عموما هذا بيت أبيك، تركناه كما هو. لم يعبث أحد بأيٍّ من محتوياته، عدا عن قيام أم جابر بكنسه بين حين وآخر.
- جزاكم الله خيرا.
- هل المفاتيح بحوزتك؟
- لقد أضعتها للأسف.
ارتسمت الابتسامة الساخرة مرَّة أخرى على وجه الرجل القصير:
- انتظرني ريثما آتيك بها.
وغاب لدقائق، عاد بعدها وناوله المفاتيح وانصرف مسرعا، كأنَّما يفرُّ من شيطان رجيم.
لقد مرَّت عشرة أعوام منذ أن ترك أباه الشيخ، وآثر الهجرة والاستقرار في المملكة العريقة، طبيبا حاذقا وأستاذا جامعيا مرموقا.
تقدَّم من الباب، وفتحه، فسمع له صريرا مؤذيا، هزَّ على إثره رأسه، في حركة وشت بمزاجه السيء.
ولج للرواق فطالعه الباب الداخلي القديم، بنقوشه التراثية. كان أبوه شديد الاعتزاز بهذه الخردة.
كذلك بدت أصص الزهور، على جانبي الباب. لقد كانت مَحلَّ عناية أبيه، يسقيها الماء كل يوم، ويجهد في دفع النمل والحشرات عنها.
فتح الباب، فتلقَّف أنفه الرائحة القديمة. خالجه شعور بالضيق، لاختلاطها برائحة منزله في لندن.
مدّ يده بحركة آلية للزرِ على اليمين، فأضاء المصباح المكان. وكان باب المكتبة في الواجهة، أوَّل ما وقع عليه نظره، قبل أن يرتدَّ بطرفه يسارا، لباب المجلس، حيث كان يجلس أبوه، يحوطه العلماء والأدباء، وطلبة العلم، فلا يغادرونه إلاَّ في وقت متأخر من الليل.
مضى للداخل، وفتح الباب على يمين الدرج، فواجهته صورة أبيه، معلَّقة على الجدار أمامه.
بلى هي صورة أبيه شديد العناد، الذكي الذي أضاع عمره بين الكتب باحثا عن زهرة الخلود.
جلس على الكنبة القديمة، القابعة في مكانها في الرواق ما بين غرفته وغرفة أبيه، ثمَّ استسلم لرغبته في إراحة جسده، فتمدَّد عليها، بعد أن أزاح عنها الغبار.
هذا هو البيت الذي نشأ فيه مع والدَيه، قبل أن يختطف الموت أمُّه المسكينة. وهو الآن لوحده تماما، ولا يخال أحدا من أهله وأصحابه، يتذكُّره، كما أن زوجه وأبناءه هناك في الدولة التي لا تغيب عنها الشمس، ولو شاء الله أن يأخذ روحه لمات وتعفَّن دون أن يلحظه أحد.
وإن أشباحا من حياته لتلوح له. طفولته الحزينة، صِباه الكئيب، أحلام الشباب المطمورة، تخرُّجه من الجامعة بمرتبة الشرف، عذاب البحث عن عمل، اليأس والتفكير في الهجرة.
لم يعترض أبوه على فكرة الهجرة، بل شجعه على السفر. كان من رأيه أن البلد انتهى تماما، ولن تتحسَّن أحوالُه إلا على يد نبي مرسل من السماء.
كان يتنبأ بجوعٍ سيأكل كل طبيعة سمحةٍ في النفوس، ويخرج شرورا لا قِبل للناس بها. جوع سيحوِّل الناس إلى وحوش همُّها أن تأكلَ ما يسدَّ رمقها. شلاَّل دم لن يتوقف عن الجريان، وجرائم تقشعر لهولِها الأبدان، حتى تستطيب الأم أن يموت ولدها ولا يقع في براثن الفقر والمرض.
لذلك عقد العزم على الهجرة، حيث يمكنه أن يعيش محترما، آمنا على نفسه، منصرفا للعمل والدراسة، وجمع ثروة تضمن له حياة رخيَّة مستقرَّة، وشيخوخة مطمئنة، وليس كأبيه الذي آثر عيشة الكفاف، مكتفيا براتب التدريس، صارفا نصفه على أبحاثه وتحقيقاته.
الأمرُّ من ذلك أنَّه ضَعُف أمام إلحاح أمُّه، فتزوَّجها ونقلها إلى طامورته هذه. الفتاة التي شغفت حبَّا بأستاذها، عارضت رغبة أبيها، وانتقلت للعيش مع زوج لا يملك شروى نقير.
لقد خسرت المسكينة كل شيء؛ فإذا كان أبوها.. جده، طيبا رقيق القلب، فإن إخوانها، أخواله، لم يغفروا لها ذلك، فما أن مات، حتى تقاسموا أمواله بينهم، وتركوها خاوية الوفاض. ولو كان أبوه فتوُّة، لتمكَّن من مناجزتهم، لكنه كان مُتعلِّما ليِّن الجانب، يخشى إراقة دم بعوضةٍ وليس دم إنسان يُسأل عنه عسيرا يوم القيامة.
ابنة الجاه والعز، خسرت حدب أبيها وماله الكثير، وانتقلت للعيش مع رجل فقير. حقيقة وعتها جيدا، فلم تترك دقيقة تمرُّ دون أن تنفِّس فيها عن ألمها، بكلمات تكوي ظهر أبيه.
لقد حوَّلت حياته إلى جحيم حقيقي، صراخ وزعيق طوال اليوم، يتجاوز سقف البيت ليصل إلى بيوت الجيران، فيما أبوه لا يشكو ولا يتذمَّر، منكَّب ليل نهار على كتبه ودفاتره.
وابتسم بمرارةٍ حين تذكَّر تعليق أبيه. لقد دخل عليه يوما ووجده يحمل بين يديه كتابا، يقرأ ويهزُّ رأسه أسفا على حاله، بينما صوت زوجهِ يصله، جائرا بالشكوى، لاعنا إيَّاه والساعة التي اقترنت فيها به.
قال محاولا التسرية عنه:
- لا بأس يا أبي، لقد عانى سقراط كثيرا من زوجه.
فرد أبوه بابتسامة باهته:
- كان محظوظا أن حكموا عليه بشرب السم.
لكن أباه كان شخصا مثيرا للحنق بحقَّ. فالرجل صاحب العقل الكبير، والموسوعي الذي قلَّ أن يجد له نظيرا، كانت غشاوة على عينيه، تمنعه من تأمُّل السعادة التي يعيش في كنفها زملاؤه من الأساتذة الموظفين في الجامعات خارج وطنه. كانت عزَّة نفسه، تمنعه من أن يداجي فلانا من المسؤولين، أو يكذب في سبيل منفعة ما.
لا نفاق ولا مجاملة، فأيُّ حال سيء يمكن أن يتردَّى إليه رجل لا يمتلك سوى راتب يأتيه شهرا، وينقطع عنه عدةّ أشهر.
فجأة، شاهد باب الغرفة يفتح، ويبرز منه أبوه، ببشته الرمادي.
هَبَّ من فوره، وراح يُحدِّق في الجسد النحيل:
- أبي!.
ردَّ أبوه غاضبا:
- بلى. أبوك الذي ظلَّ يحلم برؤيتك لعشرة أعوام كاملة.
خفض عينيه للأرض:
- أنا آسف.
- انتظرتك حتى آخر لحظة في عمري، لكنك بخلت بالمجيء. تركتني للغرباء يتولَّون دفني.
- الظروف يا أبي كانت..
- أيَّة ظروف هذه تمنع ولدا من زيارة أبيه المسن؟!
- لقد خشيت الموت أو الاختطاف.
- لقد انتهت الحرب منذ سنوات! فلا تتعلل بمثل هذه الأمور.
- أنا..
- أعرف ماذا ستقول. لقد طابت لك الحياة. عمل وزوجة وأبناء. كيف تترك كل ذلك من أجل شيخ فقير، محطَّم القلب.
- صدٌّقني..
- اسمعني. لقد جئتك فقط لأطلب منك معروفا أخيرا. لقد عشت عيشة الكفاف، بينما حضرتك لم تفكِّر في إرسال دينارٍ واحد لي.
- أنا..
- أنا لا ألومك الآن. لقد انتهى كل شيء وأنا في مقعدي الآن مرتاح مطمئن. فقط ما زال في نفسي شيء من مخطوطاتي.
- أتودُّ أن..
- نعم. إن كل ما أتمناه أن تسارع إلى طباعتها.
- أفعل إن شاء الله.
- أتعدني بذلك؟!
- بلى. أعدك بذلك.
- حسن، سأثق بكلمتك.
ثمَّ اختفى وراء باب غرفته.
أمَّا هو، فانتبه جالسا على الكنبة. دعك عينيه، وأسرع فأمسك بمقبض باب غرفة أبيه، لكن الباب كان مقفلا.
عاد للكنبة، وألقى برأسه للخلف:
- كان حلما إذن؟!
توجَّه متثاقِلا لغرفة المكتبة. فتح بابها، فشاهد الكتب في كل مكان، ترتفع حتى تصل السقف!. هزَّ رأسه متذمَّرا؛ لطالما حرمه شغف أبيه هذا، من أشياء كثيرة كانت في متناول الجميع.
وجد أكثر من مُؤلَّف بخطِّ يد أبيه. أمسك بإحداها، وقرأ.. تحقيق لديوان الشاعر الفيلسوف. أمسك بآخر.. دراسة حول حقبة أدبية مسكوتٍ عنها، أمسك بثالث ورابع وخامس...
- ثمَّ ماذا؟
صاح بحنقٍ، وهو يرمي المخطوطة بعنف على المنضدة:
- أجبني يا أبي.. ثمَّ ماذا؟ ألا يكفيك أنك حرمتني من أبسط الأشياء، لتأتي الآن وتأمرني أن أطبع مخطوطاتك المغبرَّة، المسببة للسُّعال؟!
وألقى بنفسه على الكرسي، قرب المنضدة، وغطَّى وجهه براحتيه، وغرق في شعور كريه تسبح فيه أطياف ذكريات مليئة بالشجن والكآبة. ثمَّ دفع المنضدة بقوَّة بقدميه، فتناثرت الأوراق على أرض المكتبه العارية حتى من قطعة سجَّاد مستعملة.
ووقف دفعة واحدة، وصَرَّ على أسنانه، وقال في تصميم:
- لقد انتهى كل شيء بموتك يا أبي. انتهى كل شيء. من حقَّي أن أعيش حياتي بالصورة التي أريدها.
وأسرع فخرج من البيت، دون أن يُعنى بغلق الأبواب.
توجَّه مباشرة لبيت جاره الحاج عبدالجبار.
طرق الباب بقوَّة، فخرج هذا متسائلا.
ناوله المفاتيح، وسأله دون مقدَّمات:
- أيمكنك أن تبيع البيت؟
ردَّ الرجل في دهشةٍ بالغة:
- ماذا؟!
- كان أبي شديد الثقة بك، لذلك أودُّ منك أن تبيع البيت وترسل لي المبلغ، بعد أن تأخذ أتعابك.
وأخرج من جيبه بطاقة، ناوَله إيَّاها:
- ستجد فيها عنواني ورقم هاتفي.
- لماذا تفرِّط في بيت أبيك؟!.
- لا أريده. لا أريد شيئا يذكرني بهذه الحياة التعسة.
- وماذا عن مخطوطاتِ أبيك. مؤلفاته؟
- تصرّفَ فيها. إنها لك.
ومضى، وجاره يضرب كفَّا بكف، هازَّا رأسه أسفاً وحسرة.
تمت
السبت 11 / 1 / 2020الفقر يقبع بين أرفف المكتبة
كان جرَّاح واستشاري العيون الدكتور أحمد يعقوب، واقفا يتأمّل في سُور البيت القديم، حين أحسَّ بحركةٍ خلفه. التفت فشاهد كهلا قصير القامة، يُطالعه بريبة. وعلى رغم
www.alayam.com