لطفي الشّابي - حفريّات في ذاكرة الغُراب الأوّل.. شعر

فانوس:

“…فكان من أمرهما ما قد حكاه الله تعالى في كتابه العزيز من قتْل قاين هابيل. ويُقال إنّه اغتاله في بريّة قاع، ويُقال إنّ ذلك كان ببلاد دمشق من أرض الشّام. وكان قتَله شدخا بحجر…”

( مروج الذّهب / المسعودي )



1ـ مشهد فوْقيّ:

يَطير الغُرابُ… يحُطّ الغرابْ
ومعذرةً يا نافخَ الرّوح في المُفردات
ويا حاديَ النّور في جسدِ الأغنيات
ومعذرةً إن خلعتُ إهابَ البياضِ وإيقاعَه
عن حَمام الحُروف الذّبيحِ
وأوْغلتُ في التّيهِ أبْعدَ ممَّا يُتيحُ مَجازُ القصيدَه
ومعذرةً إن خذلتُ بهذا النّواحِ جناحَ المُطلّينَ من طِينهم
على وَطنِ الأمنيات السّرابْ
يحطّ الغُرابُ… يطيرُ الغُرابْ

2ـ لَوْحٌ أوّل:

يحطّ الغرابُ على ريشِ صورتِه السّاقطه
ويزرعُ مِخْلبَه في نَدِيّ التّرابْ
ويُومِي إلى ” قَايِنَ ” وهو يحثُو الغُبارَ على دمِه البِكر في الجبينِ القتيلِ:
كذا فلْتُهيّءْ لِوجْهكَ كَهْفَه
وتَخْلَع عنْ راحَتيْكَ دمَكْ !
كذا فلْتُعلّمْ فُؤادَك طقْسَ الحُلولِ على لعْنة النّازلينَ إلى نِحْلةِ الحجَرِ السّاخرَه
كذا فلْتـُودّعْ هديلَ الضّياء وأنوارَ غفْوَتكَ الطّاهرَه
فَحُطَّ القتيلَ ومِرآةَ نـَزْفِكَ عنْ كاهِلكْ
وغطِّ ابتسامَة وَجْه المَلاكِ الأخيرِ
خُطَّ الوَصيّةَ بالأحرُف النّازفات على جَبْهَةِ الشّاهِدَه
سيقرَأ مَن دسَّ بَذرَ الخطيئةِ في نُسْغكَ البِـكْرِ
ما لمْ تقُلْهُ الهَواتفُ حين تهاوى الجناحُ الشّفيفُ إلى مَدْرجِ الوَقتِ في الأعصر الهامده:
” أنا قَاينُ يا أبي !
وهذا ضَريحُ القتيل المُسجّى
وهذي يَدي في سَوادِ الحَجـرْ
أنا قاينُ يا أبي، وأنتَ بَذرْتَ الخطيئةَ في طينتي
أنت من دلّ قلبي على قاتلِه
لماذا إذن كنتَ تبكي القتيلَ
وكيْف تُشيحُ بِوجْهكَ عنّي
تنادي الأعالي وتهتف من لَهف غائر:
“تغيّرَتِ الأرْضُ يا ربُّ فاشهَدْ !”
أنا قاينُ يا أبي
أنا قاتِلٌ وقتيلٌ معًا
وإنّي لَأعلمُ ما خُطّ في جَبْهتي
وما شيء لي مُذ كتبتني نُطفَه
قرأتُ حياتي
تهجّيت خطوي فأبصرتني
ظَلاما يداي ووَجْهيَ مُطْفَأْ
وإنّي رأيتُ يدي تقتُلُهْ في مرايا غدي
كان يعلُو ويقتُلُني بالصّفاءِ الأصيلِ
ويمْضي وحيدًا إلى الغيْمَةِ الحاضِنَه
وإنّي أحبٌّ ” أبيلَ ” أخي
ولكنّ صوْتا خفيّا طغى في مَنامي
ووَجْها غريبا يُغلّفُ وَجْهي
يُحرّفُ ما كُنتَ علّمتَني مِنْ وَصايَا
وإنّي نزفتُ دمي
مُذ وعيتُ ظلامَ السّقوط على حجر شدّني من يدي
وإنّيَ أسْلمتُ روحي لِمنْ كان يمحُو تصاوير مَوْلِدنا في ظِلال الدّوالي
ويغذُو صَدى رغبة شرّدتنا
تُهجّي عِثَارَ الطّريقِ وتبكي علينا
وإنّي أحبّ القتيلَ / أخي
وما كنتُ قاتِلَهُ
إنّما كانَ لا بُدّ مِن قَلقٍ خالِقٍ
وما كان لي أن أخُونَ كِتابي
سأمضي إلى ظُلمَتي في جَحيمي إذنْ
وأهوِي وحيدًا إلى مُدْلهِمّ جُنوني
سأمضي إلى صُورتي في المَرايا
سأطوي كتابي وأحضُنُ ما شِيدَ لي في غِيابي !

3ـ لوْحٌ ثـانٍ:

على هامِش الاعتراف، يَخُطّ الغرابُ بِحرْفٍ يُجرّحُ وَجْهَ الرّسائـلْ:
وحينَ قتلتُ، بأمْرِ الحكيمِ، شقيقي الغُرابْ
وعلّمتُ قاينَ كيْف يُواري نزيفَ يدِه
سمعتُ نَحيبَ المَلائكْ
وغرْغرَةً مِن وراء الغُيومْ
سمعتُ صدى قهقَهات الوهادِ
وهمْسا فَحيحًا يحومُ ويزهو على مرقدِه:
” أنا الآنَ أعْلى وأسمى وأسنَى !
أنا الآنَ أصْدُقُ وَعدِي وأكتُبُ للطّينِ رِحْلتَهُ الواقفَه
إلى الأرْضِ، مَهْواكِ، أيّتها الطّينَةُ الرّاعِفَه
إلى ظُلْمَة الأرضِ، فالطّينُ وَعدُ البداياتِ، والطّينُ قيْدُ البَصيرةِ في صَدْرِ قايِنْ !”
وحينَ تَهاوَى ( يُضيف الغرابُ ) أنينُ القتيلِ وغطّى النّجيعُ عُيونَ الفسائلْ
كأنّي سمعتُ نَشيجَ النّسور وهنَ يُمزّقنَ لحم القنابرْ
كأنّي رأيتُ تصاوير عصْرِ الحديدِ
وطاف بخلدي خبيء العُصورِ وقامتْ بعيني غُيوبُ المَجاهلْ
كأنّي سمعتُ حديثا أنينـًا يَرودُ ويَهمسُ في صَدْر قاتِـلْ:
ـ فماذا تُسمّي عواء الذّئاب يضجّ ويُعول في صدر ” آبِلْ “؟
ـ أسمّي صهيلَ البدايات آ…دَمْ !
ـ ودمْعَكَ وهوَ يحطّ على حَجرٍ ناتئ من يديك؟
ـ آ…دَمْ !
وآدَمُ كان يرتّق أشلاءه بالصّلاة
يدقّ على صَدْرهِ في الظّلالِ ويبْكي
وأنثاهُ تنشُجُ في ليلِها
تُريقُ حليب التذكّر والانتظار
على قبْر زهرتِها الغائبَه

4ـ لَوْحٌ ثالث:

ولمّا هَوَى قايِنُ في دِماءِ القتيلِ
وصدّعَ رَجْعُ النّشيجِ زُجاج السّماءْ
تعالت صروح وقامت مدائن
وشُدّتْ إلى كلّ شِعْبٍ وسهْلٍ ميادينُ قتْلٍ
تُدار وتربو برايات قاين
كأنّ البدايةَ مرآةُ كلّ النّهايات
كأنّ الدّمَ الغُرّ حول تراب القتيلِ سحابْ
يحطّ الغُرابُ… يطيرُ الغُرابْ

5ـ لَوْحٌ رابعٌ:

يَطيرُ الغُرابْ
وقاينُ ما زال يبكي دِماهُ وينقشُ صورَتَه في مرايا الفُصول
ويسمَع في آخر اللّيلِ صرْختَهُ النّازِفَـه
يحطّ الغرابُ… وفي كلّ فصْل جديدٍ يحطّ الغرابْ
سيعلُو الظّلامُ ويُزهِرُ في كلّ فصْل جديد يَراعُ الدّماء
سيعلُو جِدارُ الظّلامْ
وقاينُ يختطّ في اللّوحِ آلاءَه وهو أعمى
ستُرفعُ راياته في الذّرى الشّامخاتِ
فلا نُورُ ” شيثَ ” سيُنجي البرايا
ولا قمرٌ طالع في الكلامْ
ستعلُو وصايا الظّلامِ ويطلَعُ بارِقُها مِن كهوف دِمشْقَ
فكلّ أيادي الخليقَةِ قاينْ
وكلّ بِلاد البسيطةِ شَـامْ !
سيعلُو الظّلامُ… سيعلُو الظّلامْ
ستملأ أغْرِبَةُ النّار فَجْرَ القبائلْ
ستنعقُ من كلّ فَجّ عميقٍ وتكتُب صوْتَ البلادِ وتغسِلُ صُورتَها من هُبوبِ الضّرامْ:
وهذي دمشْقُ!…
دَمٌ شقَّ وَجْهَ الضّياءِ ولطّخَ جبْهتَه النّاصِعَه
ودمْدَمَةٌ شاهِقَه قادَها قايِنُ المَوْت في كلّ عَصْرٍ
شَـآمْ!…
شُؤمُ البدايات يكتُبُ هَوْلَ النّهايات
وَشْمُ الشّهيدِ على كفِّ قاتِله
مَشيمَةُ كلّ الخَطايا وشَرْخُ الشّهادة والشّاهِدَه
وشَمْلُ المُحبّينَ وَالعاشقين
هشيم اشتياق وذِكْرى كَـلامْ
سيعلُو الظّلامُ… سيعلُو الظّلامْ
6ـ لَوْحٌ خامِسٌ:
اللّوْحُ الخامسُ مَجدورٌ
والرّسم الغائم من تحت غبار الأزمنة يهذي ويخور:
……… نحنُ أبناؤكَ يا …. ……….. ……. أبنائي أحفادُكَ
هلْ تعرفُ أسْماءَ الغُرباءْ؟
هل تعرفُ طَعْمَ النّدَ.. النّاب… في الأفواهِ كما الحصْباءْ؟
هل تعرفُ يا أبت معنى الحَيْ… تَسكُن …
وَضَلال البصر و………..الأرج… ترفُل في شَرك الرّمضا…؟
هل تعرفُ يا أبَـ……….معنى الهوْ.. الطّال… في الأح… آء؟

7ـ لَوْحٌ سادسٌ:

لا شيْءَ في هذا اللّوحِ الأكْبَرِ غير الأسماءْ
لا شيْءَ إلاّ أنْخاب المّدّ الدّمَويّ وظلام العَصْرِ الرّعَويّ
ومَرايا الحِقْدِ النّافِر مِ الأحداقِ كما الأدْواءْ
لا شيْءَ في هذا اللَوْح الأعلى
غير صهيلِ طُيور اللّيل وصَريرِ عربات النّار وأزيزِ رصاص الخُلفاء
لا شيْءَ غير الوَجْهيْن المَحْجوبيْن بدُخانِ الوَعْدِ المنسيِّ في طَمْي الرّغْبَة والأهْواءْ
في اللّوْح السّادس تحْتارْ:
أيُّ الوَجْهيْنِ جَرى دَمُهُ؟
مِنْ أيّ وِهادٍ كانَ ظلامُ الكَوْنِ يَجيءُ؟
حتّامَ يمدُّ غُرابُ اللّيل نَعيقَه في ظُلَم الأحياءْ؟
في اللّوْح السّادس تشتَعِلُ الحَيْرَةُ في الأرْجاءْ:
منْ أيّ طريقٍ يَطْلعُ هذا اللّيْل؟
من أيّ سماءٍ يَهْبطُ هذا القَلَقُ الصّخرِيُّ
مِنْ أيّ سمــاءْ؟

أكتوبر 2011





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى