سيد الوكيل - شهوة أن يرانا الآخرون..

في عام 1995 كتبت روايتي ( فوق الحياة قليلا) التي تتناول حيوات الأدباء. وفي عام 2011 كتبت روايتي التي تتناول ميتات الأدباء. وقد ظل السؤال يؤرقني : ما معنى أن أكتب عن الآخرين بلا من الانتظار أن يكتب الآخرون عني؟.
الإجابة جاءت على لسان كوني بالمان كاتبة رواية ( أنت قلت) عن حياة الزوجين الشاعرين تيد هيوز و سيلفيا بلاث: " أحب أن أعيش تراجيديا الآخرين)
تفسيري لهذا أن (كوني بالمن) بعد أن رأت تراجيديا سليفيا بلاث، أدركت المأساة التي يعيشها الكاتب عندما تستبد به شهوة أن يراه الآخرون. ومن ثم كانت الكتابة عن الآخرين، هي الطريقة الوحيدة لتراهم دون أن يرونها. أن تتلصص على حياتهم من ثقب باربوس الضيق، وتتوحد معهم، تعيش معهم وتموت معهم.
ماتت سلفيا بلاث منتحرة. فاشتعلت حملات النسوية ضد تيد هيوز وحولته إلى نموذج لذكورية متسلطة. عندئذ جاءت الروائية (كوني بالمن) لتطلعنا على تراجيديا العلاقة بينهما.
كان تيد هيوز قد بلغت شهرته الآفاق حتى لقب بشاعر البلاط الملكي، لكن سلفيا لم تكتف بالوقوف بجانبه وكأنها ظل له، بل تاقت لأن تكون هي بطلة العرض الوحيدة، أن لا يرى الجمهور غيرها.
شهوة أن يرانا الآخرون تنتج آلية تعمل في نفوسنا كحفرة فارغة سوداء تبتلع كل من يقترب منا، وكلما حاولنا ملئها تزداد عمقًا وظلامًا ولا سبيل لإشباعها غير أن نذهب إلى النقيض. أن نلقي بأنفسنا في الآخرين. لكن سلفيا لم تتنازل عن كونها بطلة العرض الوحيدة.
درست المؤلفة كل شخصية من الزوجين في ضوء علم النفس، فانتهت إلى رواية فارقة في متعتها.. ولأنها جعلت السرد على لسان تيد هيوز، فقد أحدثت نقلة نوعية في رواية السيرة الذاتية، التي لم تعد مجرد وصف ما عشناه بل اكتشاف ذواتنا وكأنها لآخر لم نكن نعرفه. هذه مجرد حيلة لنرى أنفسنا بلا فزع مما سوف نراه عندما يدفعنا السرد لرؤية الطفل القابع في أعماقنا ويُسمعنا صراخه الذي لا مبرر له سوى أن يراه الآخرون.
بعد انتحارها، تحولت سيلفيا بلاث إلى ظاهرة رصدها عالم النفس الأمريكي جيمس كاوفمان تحت مسمى ( تأثير سيلفيا بلاث) يرى كاوفمان أن ظاهرة سيلفيا بلاث، تنسحب على كثير من الأديبات والفنانات اللاتي سبقنها بالانتحار. ولأن الشخصيات الدرامية ثرية ومدهشة بتحولاتها فقد تحولت حياة سلفيا إلى دراما سينمائية. وهو ما حدث مع فريجينيا وولف. كما تحولت حياة الفنانة (أسمهان) إلى دراما تلفزيونية. وهي شخصية ثرية في حياتها وتناقضاتها أيضًا. فكل منهم عانى فقد الأب في سن مبكر. فالفتيات اللاتي يفقدن أباءهن في هذه السن، تتشكل داخلهن هوة سحيقة من العدم المظلم كجب يوسف، يقبعن فيها، ولا يتوقفن عن الصراخ حتى يراهن الآخرون. هذا نوع من التثبيت الطفولي، لذلك فمهما امتدت أيادي الآخرين ومهما حدقت العيون في الهوة فلن يجدوا سوى ظلام.
وضعت سلفيا رأسها في فوهة فرن الغاز لتموت فضمنت أن يراها العالم كله. هتفت باسمها الحركات النسوية، وحظيت بعشرات من القصائد والكتابات والتظاهرات حتى أن الآلاف كانوا يحجون إلى قبرها، ليشعلوا النار في دمية على هيئة زوجها. لكن الأكثر إدهاشا في الأمر، أن العشيقة الثانية لتيد هيوز ماتت منتحرة أيضا وبنفس الطريقة، لكنها أخذت ابنتها معها. هكذا استقر في يقين الناس، أن تيد هويز، هو تمثيل واضح لأسطورة (ذو اللحية الزرقاء) قاتل زوجاته. فما معنى كل هذا؟
الإجابة ببساطة: إن الشخصيات الدرامية تحتاج إلى شخصيات مساعدة لتبرز مأساتها على خشبة المسرح.. لقد قامت زوجة تيد هيوز الثانية بهذا الدور المساعد لبطلة العرض.
في سياق آخر. انتهت أبحاث كاوفمان إلى تفسير يفضي بأن الأديبات أكثر عرضة للاضطراب النفسي من غيرهن. يحدث هذا كونهن أكثر التحاما بما يكتبن ويعايشن من شخصيات وأحداث ومعان، ومع الوقت، تصبح شخصيتهن أكثر درامية، فتحمل من ملامح الصراع الداخلي ما لا يقدرن على احتماله. فكل قيمة ومعنى في الشخصية الدرامية، تحمل نقيضها تمامًا، فحبها لزوجها وأولادها، يحمل في نفس الوقت رغبة في تدميرهم، هكذا رأت سيلفيا، أن موتها هو الضمان الوحيد لحياة أولادها، عندما أبلغها طبيبها النفسي أنها خطر على كل من حولها.
الشخصية الدرامية نهمة إلى الحياة. وهذا ما يدعوها دائمًا، إلى ملء حياتها بالإثارة والصخب كي تشعر بوجودها، فمثيرات الحياة العادية لا تكفيها.
كانت سيلفيا، تتقاذفها في الليل أشباح مرعبة، فتقوم ساخطة لتشعل النار في قصائد زوجها وكتبه بل وملابسه، فيما هو يهدئ من روعها، مقدرًا أن فقدها لأبيها هو سر كوابيسها. وكان يدفعها لأن تحول طاقتها الفوارة إلى إبداع بدلاً من قمعها أو تفريغها فيمن حولها، فيما هي تقابل حبه، إما بالبكاء والتعلق به كطفلة، أو بالصراخ وهي تقذفه بكل ما تطاله يداها، أحيانا تشعر بقبحها وتفاهة شعرها أمامه، وأحيانا تعامله كما لو كانت إلهة الشعر. مثل هذه الممارسات، حركت في زوجها ظلاله السوداء أيضًا.إذ كانت أحلامًها البشعة تتسرب إلى نومه يوما بعد يوم، فعاني نوبات اكتئابية وجف إبداعه. لقد أسقطت سيلفيا ظلها المرضي عليه وعندما أدرك أنه يسقط معها في هوتها المظلمة هجرها كي ينجو بنفسه.
ما يدعو إلى الدهشة، كيف أن نصيرات سيلفيا من النسويات، لم يألوا بالًا لتحذيرات الطبيب، وحمَّلوا زوجها المأساة برمتها؟ هل ألقت سيلفيا ظلها عليهم أيضًا؟
ربما هذا ما حدث بالفعل. فللشخصيات الدرامية مفعول السحر، إنهم كائنات حلمية والعلاقة بهم ترتبط إلى حد كبير بالأبعاد النفسية المتعلقة بآليتي الإسقاط المرضي والتماهي في الآخر. فالشخصية الدرامية تستطيع أن تنشط الأخيولات السحيقة والمجهولة داخل الآخرين. تستطيع أن توقظ ذواتهم غير المرئية. وتوقظ أساطيرهم المنسية. حتى أن سلفيا بلاث نجحت أن توقظ في عشيقة زوجها أسطورة (ميديا) فقتلت نفسها وطفلتها باستنشاق الغاز كما فعلت سلفيا نفسها.
يأتي الانجذاب الأعمى، من تحريك منطقة بدائية مجهولة وغامضة لدى البشر بتأثير آخرين يتمتعون بشخصيات كاريزمية. فالكاريزما في اليونانية القديمة، هي السحر الذي تهبه الآلهة للبشر وبه يمكنهم جذب انتباه الآخرين والسيطرة عليهم. والشخصيات الكاريزمية تؤمن بألوهيتها، وتستطيع إقناع الناس بها، ومن ثم يخضعون لتأثيرها السحري. وعبر التاريخ ثَم شعراء وفنانون وزعماء سياسيون، تركوا أثرا بالغا فيمن حولهم، وحتى بعد موتهم يظل الجدل دائرًا حولهم مشفوعًا بالتقدير الخفي والإعجاب المستتر. حتى لو تسببوا في كوارث لشعوبهم أو محبيهم، على نحو ما فعل القس (جيم جونز) الذي دعى المؤمنين به إلى قتل أطفالهم قبل أنفسهم في أبشع عملية انتحار جماعي عرفها التاريخ. كما ظل راسبوتين يذكر في التاريخ الروسي بالإعجاب على الرغم مما ارتكبه من فضائح وجرائم في البلاط القيصري.
إنها حيلة لتبادل الظلال السوداء في نفوس البشر، وتكرارها بحرفيتها تقريبًا. لعبة عميان تقر في جانب من الدماغ. هوة سديمية فارغة ومظلمة، تطارد أصحابها، وهم عندما يفرون منها، يفرون في نفس الوقت إليها. فلا تندهش لو قلت لك، أن الكتابة عن الآخرين، هي أفضل طريقة للانتحار الأدبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى