أ. د. عادل الأسطة - غسان كنفاني ... قراءات جديدة .......كتابات انجزت في الاعوام الخمسة الاخيرة.وتحتاج الى بعض تهديب

غسّان كنفاني: "فارس فارس

وأنا أُتابع نتاجات كتّابنا يُراودني دائماً السؤال التالي: هل نقرأ نحن، أبناء الجيل الرابع والخامس والسادس من الكتّاب الفلسطينيين، هل نقرأ نتاجات كتّابنا السابقين لنبني عليها ثم لنطوّر فيها؟ ولا أُخصّص كتاب جنس واحد، إذ أعني أبناء مهنتي قصّاصين وروائيّين وشعراء وكتّاب مقالة، أيضاً.
وإذا كان هذا السؤال خطر ببالي، من قبل، مراراً، فإنه راودني وأنا أعيد قراءة كتاب غسّان كنفاني "فارس فارس" الصادر عن دار الآداب في بيروت في العام 1998، وهو مجموعة مقالات قدّم لها الناقد اللبناني محمد دكروب.
.. وأنا أقرأ في المقالات وجدتني أكتب رسالة (خلوية) إلى السيد رئيس التحرير أقترح عليه فيها أن يعيد نشر مقالات غسّان كنفاني وإميل حبيبي، أو أن يشتري على حسابي أو على حسابه هو ـ ليس يهم ـ نسخاً من كتاب كنفاني "فارس فارس"، ولا أدري إن كانت مقالات حبيبي طبعت في كتب ـ ليوزعها على كتّاب الأعمدة في الجريدة، علّ قسماً منهم يكتب ساخراً أو متهكّماً أو علّه يتكئ على بعد معرفي وهو يكتب مقالته. أجزم أنني متابع لا بأس به لما يكتب في الجريدة، وأكاد أقول، وأنا شبه مقتنع، إن أكثر ما ينشر يغلب عليه الجدّ والصرامة، ويبتعد ابتعاداً كلياً عن السخرية أو التهكّم، وقد يخلو، بل إنه يخلو، من أبعاد معرفية تذكّر القارئ برواية أو كتاب أو بيت شعر أو مقولة فلسفية، هل يعني هذا أن الكتّاب لا يقرأون؟ لا أريد أن أتهمهم بهذا، ولكن أقول إنهم يحلّلون ـ وأغبطهم على ما أفتقده شخصياً ـ ولا يربطون ما بين التحليل وقصص مشابهة تاريخياً، أو ما بين التحليل وما يمكن أن يكون عَبّر عنه روائي أو قاص أو شاعر أو فيلسوف أو.. أو..
هل يوجد كاتب واحد ساخر من بين كتّاب الأعمدة في "الأيام"؟ هل توجد مراجعات لكتب إلاّ ما نعثر عليه بين الفترة والفترة في "أيام الثقافة" أو في بعض "دفاتر الأيام"، كما لدى حسن خضر وفاروق وادي؟ وحتى مقالات هذين تبدو مقالات جادّة متجهّمة تخلو من الدعابة أحياناً كثيرة. وقليلون هم الكتّاب الذين يعبّرون عن نبض الشارع أو عن تجارب إنسانية مرّوا بها. هل يوجد لدينا كاتب على غرار (إدوارد سعيد) أو (روبرت فيسك) أو (أوري أفنيري)؟ إنني لأّتساءل فقط.
حقاً أين هي المقالات التي تعكس نبض الشارع ولغته وتعابيره وأمثاله. حتى أخونا أبو سريّ (علي الخليلي) الذي أنجز غير كتاب في الأدب الشعبي، حتى أخونا أبو سريّ تكاد مقالاته تخلو من الأمثال الشعبية والقصص الشعبية والحكايات الشعبية. إنه نادراً ما يوظّفها في مقالاته.
وأنا أقرأ في كتاب غسّان كنفاني "فارس فارس" سأثير هذه الأسئلة التي آمل ألاّ تكون صحيحة. ولا أدري إن كان كتّاب الأعمدة في بقية صحفنا لا يختلفون عن كتّاب "الأيام"، فأنا أقرّ بكسلي لعدم متابعة ما يكتبون باستمرار. (هل أقول لعنة الله على العمل الأكاديمي الذي يجبرني على قراءة كتب ودراسات وروايات وأشعار، وبالتالي لا يسمح لي بمتابعة كل ما يُنشر في صحفنا؟). لعلّني أظلم كتّابناّ لعلّني!

غسّان كنفاني كاتب مقالة:

لا أدري إن كنت سأًضيف، وأنا أكتب تحت هذا العنوان، جديداً إلى ما كتبه محمد دكروب في مقدمة الكتاب تحت عنوان "غسّان (فارس فارس) كنفاني في كتابته الساخرة.. الجادّة" (ص7 ـ ص25). ولقد أنهى دكروب مقدمته الطويلة بالفقرة التالية:
"يا فارس فارس ـ أيها القلم الساخر الجارح الرّائي، النّادر في سخريته وفي صدقه، الغاضب بوجه مهازل زمانك ومهزلات بعض "رجالات" قولك.. الكاشف الفاضح للمزوّرين والمزيّفين والمتاجرين بالقضية والناس ـ أين، الآن، أنت" (ص25).
ولأنني قرأت لإميل حبيبي بعض مقالاته في 70 و80 ق20، وربما في 90 ق20، ولم أقرأ له ما كان كتبه منذ 1948 حتى 1976، ولأنني لاحظت سمة السخرية تغلب على كتاباته، ولاحظت، أيضاً، اتكاءه وهو يكتب عن التراث الشعبي والتراث الأدبي العربي، فقد وجدت تقاطعاً بين أسلوب فن المقالة لدى كنفاني وحبيبي، وسيثور لديّ السؤال التالي: هل تأثّر أحدهما بالآخر؟ وهل كانت كتابات الساخرين العرب مثل الشدياق ومارون عبّود وآخرين من قراءات الاثنين؟
يبدو كنفاني في مقالاته قارئاً جيداً ومتابعاً حثيثاً لما كانت المطابع العربية في لبنان تطبعه، وقد أقرّ هو بهذه الخصلة، خصلة القراءة والمتابعة. كان قارئاً نهماً، وهذا ما لاحظه محمد دكروب وتوقف أمامه كل من عاش في 60 ق20. تلك الأيام كانت القراءة هي الوسيلة الممكنة شبه الوحيدة لتزجية الوقت. لم يكن هناك تلفاز أو شبكة عنكبوتية أو.. أو.. مما يتوفّر في زماننا الذي لم يعد الكتاب فيه خير جليس.
يبدو غسّان في مقالاته قارئاً جيداً، ولديه حسّ نقدي، ويبدو إنساناً طالعاً من بين الناس، ذا موقف ملتزم، وفوق هذا يبدو كاتباً ساخراً متهكّماً.
في مقالته "الشعر.. حين يكون قيداً غليظاً، لا لزوم له" يكتب عن شخصه قارئاً:
"إنني قارئ ممتاز ـ أعترف، فهذا هم ـ ومع ذلك فإنني أعترف، أيضاً، أنني لم أفهم شيئاً من الـ 400 صفحة التي اسمها "محاجر في الكهوف"، وكنت أفضل لو أنني قرأت عشر صفحات لها معنى، وليكن اسمها ما كان، فليس يعنيني بعد أن تكون التسمية شعراً: إن ذلك يشبه رجلاً يحمل تذكرة نفوس مزوّرة". (ص45)
ماذا سيكتب كنفاني لو قرأ ما يكتبه الآن بعض شعرائنا؟ ويمكن أن نثير السؤال معكوساً: ماذا سيقول بعض معجبيه ممن يكتبون شعراً غير مفهوم على الإطلاق؟
ويبدو غسّان، حين نقارنه بكتابات كثير من كتّابنا، يبدو ابن الشعب حقاً، ولهذا ترد الأمثال الشعبية في مقالاته بلا افتعال، وحين يكتب عن كاتب مثل (شولوخوف) صاحب "الدون الهادئ"، ينهي مقالته بالفقرة التالية:
"إن روعة هذه المجموعات من القصص هي أنها تأتي في وقت يتدفق فيه إنتاج "الموهوبين" العرب حول قضايا مماثلة تقريباً، وهو أدب أقلّ ما يمكن أن يقال فيه إنه "أدب الهوهو"، أدب فهد بلاّن "وصح يا رجال" أدب "الأويها" والـ"ولي!"، وربما كان سبب ذلك هو فقدان الموهبة أولاً، وثانياً، أن معظم كتّابنا "لا يحيون حياة الشعب، لا يتألّمون لآلام الناس ولا يفرحون لأفراحهم، لا يدخلون إلى اهتماماتهم وحاجاتهم (ولذلك) فإنه لا يخرج من بين أيديهم كتاب حقيقي يثير الانفعال في قلوب القرّاء "صح يا شولوخوف".
وأنا أقرأ مقالات غسّان لطالما تذكّرت صديقنا وأخانا أبا سريّ. حقاً لماذا لا تبرز الأمثال الشعبية في مقالاته هو دارس التراث وأول كتاب له هو المثل الشعبي الفلسطيني؟
ولا أريد أن أستطرد فأكتب عن المقالات مقالاً مقالاً. لقد أعفاني محمد دكروب من هذا، عدا أنه لا غنى لمن يريد أن يعرف غسّان كنفاني كاتب مقالة، لا غنى عن العودة إلى كتاب "فارس فارس"

غسّان كنفاني والسخرية في الأدب الفلسطيني

وأنا أقرأ مقالات كنفاني سأتوصّل إلى الرأي التالي: على دارسي الأدب الفلسطيني أن يعيدوا النظر في مقالاتهم ودراساتهم حين يتوقفون أمام ظاهرة السخرية في الأدب الفلسطيني.
كتب عن السخرية في الأدب الفلسطيني كتّاب هم فاروق وادي وسلمى الخضراء الجيوسي وعلي الخليلي، وهناك دراسات أخرى لطلبة الدراسات العليا. ولم يأتِ أي من هؤلاء على كتابات كنفاني، ذلك أن دارسيه درسوه قاصّاً وروائيّاً ومسرحيّاً ودارساً، ولم يدرسوه كاتب مقالة، ولو فعلوا لأعادوا النظر في أحكامهم. (أنا أتساءَل: لماذا لم تبرز السخرية في نصوصه الإبداعية)؟
في التوقف أمام الكتّاب الساخرين في أدبنا يشار إلى إبراهيم طوقان وإميل حبيبي غالباً، وإلى توفيق زياد في مجموعته "حال الدنيا" وبعض قصائد محمود درويش "خطب الدكتاتور الموزونة" وبعض قصائد مريد البرغوثي. وأظنّ أن مقالات كنفاني ستفتح باب النقاش أمام هذه الظاهرة مجدّداً.
استقبال كنفاني أدبياً
في العام الحالي (2011) صدر كتاب لباحث مغربي هو الدكتور المصطفى عمراني (جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس) عنوانه "مناهج الدراسات السردية وإشكالية التلقّي: روايات غسّان كنفاني نموذجاً اقتصر، كما هو واضح من العنوان، على تلقّي روايات كنفاني. ولا أدري إن كان هناك دارسون كتبوا عن تلقّي كنفاني كاتب قصة قصيرة أو كاتب مسرحية. أنا شخصياً أنجزت دراسة عنوانها "استقبال الأدب الفلسطيني في الألمانية" وأخرى عنوانها "الأدب الفلسطيني مترجماً إلى الألمانية" ولاحظت أن ما ترجم له هو الروايات أولاً، والقصص القصيرة ثانياً، ولم تترجم دراساته أو نصوصه المسرحية. ولاحظت أن دراسات الألمان عن أدبه تركّزت على رواياته.
وأنا أقرأ "فارس فارس" قلت: على الرغم مما كتب عن كنفاني، وهو كثير جداً لا شك، فما زال قابلاً لأن يقرأ وأن يكتب عنه، وها هي مقالاته نموذجاً. هل سيغدو كتاب "فارس فارس" ذات نهار عنوان أطروحة جامعية؟ ربما. ولكن كاتبها يجب أن يكون واسع الثقافة مثل غسّان نفسه.
أغبطه، أحسده أو أسخر من نفسي:
أحاول أن أكون كاتباً ساخراً. أحاول. وكان يمكن لخالي ـ رحمه الله ـ أن يكون مثل كنفاني أو حبيبي، أما أنا.. أما أنا..
في كتابة دكروب عن كنفاني كاتب مقالات ساخر قال: إن سخرية كنفاني فيها من خفّة الدم ما يلاحظ بسهولة، وليس كلّ من يكتب ساخراً يكون خفيف الدم. ليت لي من خالي تلك الصفة، وأعتقد أنني لا أتمتع بها. إن غدوت أنا كاتباً ساخراً، فلا يعود هذا لخفة دمي، وإنما يعود لمفارقات الحياة. الحياة هي التي تجعلني أسخر، لا جيناتي الوراثية، باستثناء جينات خالي المتوفى.
حقّاً إنني أغبط كنفاني وحبيبي كاتبي مقالة، ولا أغبط نفسي.
لو امتدّ به العمر
ماذا كان غسّان كنفاني سيكتب لو امتدّ به العمر إلى زماننا هذا؟ أغلب الظنّ أنه كان ما سوف يكون. سيكون، على الأقلّ، أتمّ رواياته الثلاث: "العاشق"، "الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان". وأغلب الظنّ، أيضاً، أنه سيكون واصل كتابة المقال السّاخر: السياسي والأدبي وربما الاجتماعي، أيضاً.
لا أريد أن أُثير السؤال التالي: هل كان سيستمر في عضوية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ سأفترض أنه استمر، فماذا سيكون موقفه من رفاقه، أعضاء الجبهة الشعبية الآن؟ من المؤكد أنه سينحاز لفريق، وسيقف ضد فريق، والفريق الذي سيقف ضده سيكتب عنه وفيه مقالات أعتقد أنها ستكون ساخرة، بل وساخرة جداً.
مرّة كتبت دفتراً عنوانه "والله زمان يا سلاحي" أتيت فيه على ما آلت إليه الجبهة اجتماعياً، وقلت: يبدو أن الجبهة ذات موقف سياسي فقط، فما عادت اجتماعياً كما كانت. بعد كتابة الدفتر بأشهر سمعت أن هناك انشقاقاً حدث فيها، تحديداً في منطقة جنين، فقد تبنّى جناح منها التوجه الإسلامي، وغدا اسمه "الجبهة الشعبية الإسلامية لتحرير فلسطين". هل كان هذا دعابة؟ هل كان هذا تشويهاً أم سخرية؟
الجبهة الشعبية فصيل تنويري. أظنّ أنني في دفتري أتيت على رواية علوية صبح "مريم الحكايا" وما آل إليه الواقع اللبناني في 80 ق20. كاد الدكتور/ الحكيم يجنّ من الناس الذين يعالجهم. لم يعد الأمر كما كان في لبنان في 60 أو 70 ق20. ثمة تحوّل واضح شهدته لبنان لم يرق للدكتور اللبناني العلماني. ولأن لي أصدقاء في الجبهة الشعبية، ويحملون الفكر التنويري ويروّجون له، فقد سخرت مرة منهم، وقلت لهم: أنتم التنويريين بحاجة إلى تنوير. لماذا قلت لهم هذا؟ لأنهم لا يختلفون كثيراً عن بقية أفراد المجتمع في النظر إلى أمور شخصية. ومنهم قيادات في الجبهة الشعبية وفي غيرها. هل أنا على صواب؟ لست أدري، ولكني أظنّ أن العمر لو امتد بكنفاني لكتب كتابة ساخرة في بعض رفاقه، وفي قادة فصائل، من اليمين ومن اليسار، والله تعالى أعلم.
ماذا لو امتد به العمر؟
ماذا يقرأ رفاق غسّان كنفاني الآن؟ أغلب الظنّ أنهم لا يقرأون سوى كتابات غسّان كنفاني، هذا إذا قرأوها. ولو كان امتد به العمر وبقي على قيد الحياة فمن المؤكد أنهم لن يقرأوها، لأنهم، إذا التقوا به، فسيصغون إليه يتحدث عنها.
هل أُبالغ في اتهامي لهم؟ هل أنا حاقد عليهم؟ قد أقول بقدر من الاطمئنان: لا.أنا لا أُبالغ في اتهامي لهم، ولست بحاقدٍ عليهم، فلي من بينهم أصدقاء يحترمونني وأحترمهم، وفي تموز، من كل عام، حين يطلبون مني أن أشارك في ندوة عن غسّان، أو أن أكتب مقالة في ذكرى استشهاده، لا أتردّد، ولا أتباطأ. ولا أُبالغ إذا قلت إنهم يُدافعون عني، حين لا أطلب منهم أن يُدافعوا عني.
الآن، رفاق غسّان، لا يقرأون، إن قرأوا، إلاّ لغسّان. ولا يذهبون لندوة، إن ذهبوا، إلاّ إذا كان غسّان موضوعها، ولم أدخل بيوتهم لأرى إن كانت فيها مكتبة صغرى، فأنظر في كتبها. وأغلب الظنّ، إن وجدت المكتبة، فهي تضمّ كتب غسّان. (يا لي من حاقد. كيف ذهبت إلى أنني لست حاقداً؟ كيف وأكتب كلاماً مثل ما سيق).
كان رفاق الجبهة الشعبية في 70 و80 ق20 قرّاء ومثقفين. كانوا يقرأون الأدبيات التقدمية، روايات وقصصاً وأشعاراً وكتب فكر. كأنهم كانوا امتداداً لجيل غسّان، جيل 60 ق20، الجيل الذي شهد له محمد دكروب للبحث، التحليل والكتابة، لغزارة القراءة، ومقالات غسّان: "فارس فارس"، خير دليل على هذا. أين نجد الآن كاتب مقالات على شاكلة غسّان، على الأقل في أدبنا الفلسطيني. (مؤخراً كتب د. فيصل درّاج مقالة عنوانها: لماذا لم يعد الأدب الفلسطيني كما كان، وفيها يعزّز ما أذهب إليه، وكنت في أيار قلت ما كتبه في ندوة في بلدية البيرة مع د. سلمى الخضراء الجيوسي، أمام كتّاب ومثقفين. هل راقَ لهم كلامي، أم اتهموني بالغرور؟).
حقاً ماذا لو امتد بغسّان العمر، ورأى أحوال رفاقه ثقافياً؟ من المؤكد أنه سيكتب مقالاً ساخراً باسمه الشخصي، لا باسم "فارس فارس"
بين كنفاني وجو رج
للناقد (ميخائيل باختين) رأي نقدي مقنع، غالباً ما أستشهد به وهو: إن كل كلام غير كلام آدم، عليه السلام، لا يخلو من تناص، إذ إن كلام ابن آدم يعتمد على كلام ابيه. ولما كنت نشأت في بيئة اسلامية، وقرأت الآية (وعلم آدم الأسماء كلها) فإنني أغيّر، أمام الطلبة، كلام (باختين) وأقول: إن كل كلام غير كلام الله هو كلام لا يخلو من تناص، فالله هو الذي علم آدم، والاخير علّم، بدوره، أبناءه. وسأقول للطلبة: إن الكلام الذي أنطق به امامكم ليس كلامي أنا. إنه كلام الذين اصغيت اليهم، وتعلمت منهم، وقرأت لهم، ربما أضيف جملة هنا، وثانية هناك، ولو لم أقرأ وأثقف نفسي، لما استطعت أن أتكلم ساعة كاملة، وغالباً ما أقارن بين ما كنت عليه، وما غدوت عليه، وأطلب من الطلبة ألا يرتبكوا حين يراجعون كتاباً ما.
تذكرت كلام (باختين) وأنا أفكر في كتابة كلمة رثاء لمناسبة رحيل الحكيم جورج حبش، لم أعرف الرجل، ولم أقرأ له الكثير، سمعت عنه، وقرأت بعض مقالات كتبها، وبعض مقابلات اجريت معه، ومقالات قليلة كتبت عنه، في حياته، وبعد رحيله. ولما كنت اعرف أن هناك صلات وثيقة كانت بينه وبين الشهيد غسان كنفاني، في الكويت وفي بيروت، فقد استنجدت بنصوص الأخير القصصية والروائية، أبحث فيها عن صورة الحكيم أو صوته، فلا شك في أن كنفاني ثمن حبش عالياً، ولا شك أيضاً في أنه تأثر به أو أر فيه، من خلال الساعات الطويلات التي انفقاها معاً.
في أعمال كنفاني الكاملة التي بحوزتي ورقة منفصلة كتبها جورج حبش عن الشهيد كنفاني، وألقاها لمناسبة ذكرى استشهاده، أتى فيها على آراء غسان ودوره في فكر الجبهة ومشروعها، إذ كان يلح على ضرورة نقل المعركة الى داخل فلسطين، وذكر الحكيم أن كنفاني هو الذي صاغ تقرير الجبهة الذي أعد عن مؤتمرها في العام 1972، وأشار الى أن هناك اسلوبين في التقرير الاول له والثاني الذي يمتد من ص 60 الى ص 185، صاغه غسان. هكذا أقر الحكيم بتأثره بغسان وبدور الأخير في فكر الجبهة وبلورته وصياغته.
يبقى الجانب الثاني وهو أين هو الحد الفاصل بين كلام الاثنين في أعمال كنفاني الأدبية؟ أين هو كلام غسان وأين هو كلام الحكيم؟ إن ما كتبه غسان في رواياته يعكس، الى حد كبير، فكر الجبهة الذي نطق به أمينها العام في المؤتمرات والندوات والحوارات والمقابلات. لقد جسده غسان من خلال نماذج بشرية، وإلا فهل كان سؤال أبي الخيزران في رواية "رجال في الشمس" )1963( سوى سؤال غسان نفسه وضعه على لسان الشخصية؟ وهل كان كلام سعيد س. في "عائد الى حيفا" )1969( كلاماً آخر غير كلام غسان، ورؤية الجبهة الشعبية أيضاً؟ وهل كانت رواية أم سعد )1969( بعيدة عن طروحات الجبهة الشعبية أيضاً؟
في قصته القصيرة "درب الى خائن" )1957( يكتب كنفاني عن أبناء مدينة اللد، مدينة الحكيم، ويأتي على قصة مواطن لاجئ أقام في الكويت، وقرر أن يتسلل الى اللد ليقتل أخاه. ما منعه في البداية يتمثل في حبه لأمه التي كانت على قيد الحياة، وحين ماتت قرر أن ينجز المهمة: أن يقتل أخاه. لماذا؟ لأنه تعامل مع الاسرائيليين وخان أبناء عمه ووشى بهم. وعموماً فإن القصة تطرح فكر الجبهة الشعبية في تحرير فلسطين، قبل تشكل الجبهة. ليست رابطة الدم مقدسة، وإذا كان لا بد من تحرير فلسطين، فلا بد أولاً من تحرير البلدان العربية من أنظمتها التي تعيق حركة الثوار، وتضع الحواجز أمام فعلهم.
وأنا أقرأ كلمات الرثاء لجورج حبش، وأنا أقرأ أيضاً ما كتب عن حياته في الصحف وفي الكتب، ألتفت الى تجربة خروجه من اللد، والى ما شاهده على الطريق من جثث القتلى الفلسطينيين الذين أخرجوا من مدينتهم وقراهم، وقد أشار الى هذا ايضاً الكاتب الاسرائيلي (ايلان بابيه) في كتابه: "التطهير العرقي" (2006)، وذكر جورج حبش وتأثير الهجرة عليه. سيترك هذا الحادث تأثيراً عميقاً على حياة الحكيم الذي سيؤسس الجبهة الشعبية من أجل استعادة وطنه، ولن يلتفت الى حياته الخاصة، فقد كان بإمكانه أن يمارس مهنة الطب، وأن يحيا حياة مستقرة هادئة، وكان بإمكانه أن يبتعد عن السياسة ومركبها الوعر.
سأبحث في قصص غسان عن قصة تصور تشرد الحكيم في العام 1948، فلا أجد. وسأسأل نفسي: لماذا؟ فلا شك في أن حبش قص القصة على غسان غير مرة. وسأجتهد: ربما رأى غسان في تجربة الحكيم شبيهاً لتجربته هو، تجربته التي مر بها حين غادر وأهله عكا، ولقد عكس هنا التجربة في قصة "أرض البرتقال الحزين" إن لم تخني الذاكرة. فهل من ضرورة للتكرار؟
ربما تذكر المرء الحكيم، وهو يتابع فصول حياته، ربما تذكر المرء وهو يقرأ رواية غسان: "عائد الى حيفا". وربما يكون العكس أصح، ففي سيرة الحكيم ما يذكر برواية غسان.
زار سعيد. س حيفا، بعد هزيمة حزيران 1967، وحاور ابنه خلدون الذي غدا (دوف) وأدرك سعيد أن العودة الصحيحة هي أن يعود منتصراً، لا من خلال تصاريح زيارة اسرائيلية، ولكي يتم ذلك، فلا بد من حرب ينتصر فيها الفلسطيني ليحاور الاسرائيلي من منطلق الند للند. ولم ير الحكيم في اتفاقات اوسلو ما يشجعه على العودة، العودة الناقصة. انه يريد العودة الى اللد، لا الى رام الله فقط، وربما لهذا آثر البقاء في المنفى. هل مارس الحكيم بسلوكه ما أثاره كنفاني على لسان سعيد؟ ربما، بل أكاد أجزم.

هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي ..؟!
توقف دارسو غسان كنفاني أمام تأثره بأدباء عالميين مثل (وليم فولكنر) و(برتولد بريخت) وأدباء صهيونيين مثل (ليون أوريس) و (آرثر كوستلر)، و (ثيودور هرتزل). فعلى سبيل المثال، لاالحصر، قارنت رضوى عاشور بين "ما تبقى لكم" و "الصخب والعنف"، وكان كنفاني نفسه قد أقر بإعجابه برواية (فولكنر)، وقارن محمد صديق في كتابه: "الإنسان قضية" (بالانكليزية) بين "عائد إلى حيفا" و "دائرة الطباشير القوقازية" (لبرتولد بريخت)، ومثله فعل الناقد السويسري (هارتموت فيندرش) الذي نقل أكثر أعمال كنفاني إلى الألمانية. وربما أكون أول من التفت إلى تأثر كنفاني بالأدب الصهيوني، لا إعجاباً به وإنما نقضاً له، وذلك في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 7891" وكتابي "الأدب الفلسطيني والأدب الصهيوني".
ولا أعرف، في حدود ما قرأته من دراسات تناول أصحابها فيها نتاج كنفاني، إن كان هناك دارس أتى على تأثر كنفاني بالأدب العربي قديمه وحديثه، وبأدباء بعينهم مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال. وإن كنت قرأت دراسة طريفة، بالألمانية، لدارس ألماني، اهتمامه بالأدب العربي الحديث اهتماماً ضئيلاً على أية حال، هو (فولفديتسرش فيشر: Wolfdie trich Fischer)، إذ قارن هذا بين روايتي "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، دون أن يكون قصده إظهار تأثر الثاني بالأول، فقد رمى إلى دراسة الأسلوب والرمز والسارد وتأثير الكاتبين في الأدب العربي.
قبل خمسة أعوام تقريباً، وربما أكثر بقليل، أثار كاتب أردني هو محمد سناجلة زوبعة في فنجان، حين زعم أن كنفاني سرق (فولكنر)، وقد رد عليه، يومها، غير دارس ذاهبين إلى أن كنفاني تأثر بـ (فولكنر) ولم يسرقه، لأنه أقر بإعجابه به، ولم يخف هذا، ولم يزعم أنه لم يقرأ "الصخب والعنف"، والتأثر غير السرقة، فما من كاتب لاحق إلا وتأثر بهذه الدرجة أو تلك بالأدباء الذين قرأ لهم. وقد أخذ أدباء كثيرون يقرون بهذا، ربما اعتماداً على مقولات (ميخائيل باختين) الذي رأى أن كل كلام، عدا كلام آدم عليه السلام، هو كلام يعتمد على كلام السابقين. وسنجد دارسين وباحثين يميزون بين التناص والتلاص، وسنجد شعراء كباراً مثل محمود درويش يقولون بتواضع كبير إن قصائدهم ليست سوى فسيفساء من نصوص الآخرين، وانها إنما تحمل (تحمل) اسمهم فقط.
هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
لم أقرأ، من قبل، كتابة تأتي على هذا السؤال الذي لم يثر في حدود ما أعرف قبل الآن، وربما لم يلتفت دارس الى هذا، لأسباب عديدة أبرزها أن غسان أصدر عشرات الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات قبل أن يغدو إميل حبيبي كاتباً أدبياً ذا شأن، ففي الوقت الذي بدأ اميل فيه يكتب "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" في العام 2791، وهي العمل الأدبي الأبرز له الذي ترك أثراً كبيراً على الرواية العربية، كان كنفاني استشهد مخلفاً آثاراً أدبية تركت آثارها في جيل من الكتاب العرب.
بناءً على ما سبق ربما يعتقد البعض أن السؤال مغلوط ومعكوس، فما دام كنفاني أنجز أكثر كتاباته حين بدأ اميل يتحول الى كاتب أدبي، وقد عرف كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، فالأصح أن يكون السؤال: هل تأثر اميل حبيبي كاتباً أدبياً بغسان كنفاني؟.
ما تجدر الإشارة إليه أن إميل الذي كتب المقالة السياسية منذ الأربعينيات من القرن 02، وواصل كتابتها وتألق في ذلك منذ الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن العشرين، كتب قصصاً قصيرة قليلة جداً قبل 1948 وما بين 1948 و 7691، اتبعها بعمله "سداسية الأيام الستة" )1968( الذي اطلع عليه كنفاني، وأورد نموذجاً منه في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين ما بين 48 و 6691"، هل تركت "السداسية" إذن أثرها على كنفاني؟ هذه السداسية التي كانت من قراءاته قبل أن يكتب "عائد إلى حيفا"، و "أم سعد" وأعمالاً أخرى لم يتمكن من انجازها لاغتياله من الموساد، أعمالاً أدرجت في أعماله الكاملة، مع أنها غير كاملة، وهي "العاشق" و"الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان"؟.
ما بين العامين 1948 و 1967 كتب اميل حبيبي قصتين قصيرتين لا غير ظهرتا، فيما بعد، مع "سداسية الأيام الستة"، هما "بوابة مندلبوم" و "النورية"، ونصاً آخر عنوانه "قدر الدنيا" وتمثيلية "قدر الدنيا"، وربما لم يلتفت إلى هذه الكتابات إلا بعد أن غدا إميل، بعد العام 7691، اسماً لامعاً في الحياة الأدبية الفلسطينية.
سوف أقرأ في بداية العام 2006 قصة "بوابة مندلبوم" وهي قصة كنت قرأتها منذ عقود ولم التفت إلى ما التفت إليه مؤخراً، وهو ما أدرجته في العنوان الذي يشير الى تأثر كنفاني بإميل. هنا سوف أتذكر ثانية مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية (هانز روبرت يادس) و (فولفجانغ ايزر): "إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين "تؤدي الى قراءتين مختلفتين"، وهو ما حدث معي. إن قراءتي الثانية لقصة اميل قالت لي ما لم تقله لي القراءة الأولى. لقد قالت لي القراءة الثانية إن غسان متأثر بإميل.
والسؤال هو: ما هو وجه التأثر وأين؟ وسأبدأ بالجزء الثاني من السؤال لأنه لا يحتاج الى شرح، خلافاً للجزء الأول وهو الأهم.
إن من يقرأ "بوابة مندلبوم" و "عائد إلى حيفا" يلحظ تأثر كاتب الثانية بكاتب الأولى ـ أي تأثر كنفاني بإميل. أما ما هو وجه التأثر، فإن الاجابة عنه ربما تتطلب اقتباساً من القصة والرواية.
في العام 1993 كنت أنجزت بحثاً عنوانه "الوطن في شعر ابراهيم طوقان" (مجلة النجاح للأبحاث، 6991)، وكنت أتيت فيه على تعريف الشعراء والأدباء الفلسطينيين للوطن معتمداً لا على أقوالهم في المقابلات التي تجرى معهم، وانما على ما ورد في نصوصهم النثرية والشعرية التي ظهر فيها تعريف لكلمة الوطن. وتعود هذه النصوص الى سميح القاسم "الصورة الأخيرة في الألبوم" )1979( ومحمود درويش "أنا من هناك" )1986( وقبلهما غسان كفاني، في روايته المعروفة "عائد الى حيفا" )1969( وغابت "بوابة مندلبوم" عن ذهني، وربما أكون هنا مثل (امبرتو ايكو) صاحب رواية "اسم الوردة". في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" )2000( يأتي على قضية مهمة تشبه هذه التي أكتب عنها. يقول (ايكو) إنه وهو يحاضر سأله قارئ عن روايته "اسم الوردة" وإن كان تأثر في أثناء كتابتها، برواية معينة. وكان جوابه انها قد تكون أثرت فيه وانها من بين الكتب التي قرأها. (انظر ص 96 وما بعدها من ترجمة سعيد بنكراد الصادرة عن المركز الثقافي العربي، 0002). ولو كان كنفاني على قيد الحياة لسألناه إن كان تأثر، وهو يكتب "عائد الى حيفا" )1969( بـ بوابة مندلبوم". ما هو وجه التأثر إذن؟.
ربما أكون أتيت عليه وهنا أوضح أكثر. في "بوابة مندلبوم" يسرد أنا المتكلم الذي يقيم في فلسطين المحتلة العام 1948 قصة أمه البالغة الخامسة والسبعين، هذه التي تنوي السفر الى القدس غير المحتلة لتقيم فيها، وتظن أنها ستموت فيها ولن تعود الى الناصرة، وحين يودعها أهلها ومعارفها تقول: "لقد عشت حتى رأيت المعزين بأم عيني"، وينتابها، وهي تغادر وطنها، شعور غامض يقبض على حبة الكبد فيفتتها، شعور يخلف فراغاً روحياً وانقباضاً في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين الى الوطن. وهنا يخوض أنا المتكلم في معنى هذه الكلمة:
"ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، "الوطن"، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حين التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، اناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها اناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة الى بيت الزوجية واحداً وراء الآخر وتركوها لوحدها!" "... ... ولو قيل لها إن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهماً".
إن الكتابة عن دال الوطن وتعريفه على هذه الشاكلة سيكون له حضور واضح في "عائد الى حيفا". حقاً إن كلمة وطن تكررت مراراً في أشعار ابراهيم طوقان، وحاول تعريفها، إلا أن ما كتبه عنها كان عابراً:
تلك البلاد إذا قلت اسمها وطن
لا يفهمون، ودون الفهم أطماع.
غسان كنفاني، على لسان الشخصية المحورية في الرواية: سعيد. س، يأتي على تعريف مفردة الوطن، وربما كان "تعريفها، ابتداءً، لا يختلف عما ورد في قصة "بوابة مندلبوم"، وإن كان أضاف اليها معاني أخرى لم ترد في القصة.
يرد في "عائد الى حيفا" المقطع التالي:
"سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ النبوة؟ ما هو الوطن؟..".
ويكتشف سعيد. س ان الوطن هو ألا يحدث ما حدث، وأن فلسطين الحقيقية هي أكثر من ذاكرة وريشة طاووس وولد وخرابيش قلم رصاص على جدار السلم...
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق..".
إن الأسطر الأخيرة في ما أضافه كنفاني الى ما ورد في قصة بوابة مندلبوم، فهل كان كنفاني، وهو يكتب روايته بعد سنوات طويلة على كتابة قصة اميل حبيبي وبعد هزيمة نكراء للجيوش العربية، هل كان يضع قصة حبيبي وما ورد فيها أمامه ليقدم تعريفاً آخر لمفردة الوطن؟! ربما!، غير أني أعتقد أن اميل حبيبي ترك أثراً واضحاً على غسان، وعلى غيره من الكتاب العرب، ولعل الموضوع بحاجة الى كتابة أخرى!!.

غسان كنفاني وثيودور هرتسل: صراع الخطابات

هل قرأ غسان كنفاني رواية (ثيودور هرتسل): "أرض قديمة ـ جديدة" التي أشار إلى أنها ترجمت إلى العربية، وذلك في كتابه "في الأدب الصهيوني"؟
في روايته "عائد إلى حيفا" يذكر كنفاني من الروايات الصهيونية التي درسها في كتابه، وهي عديدة، يذكر رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" فهذه هي التي قد تكون شكلت لليهودي القادم إلى فلسطين، وهو (ايفرات كوشن)، فكرة عن فلسطين: فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ولكن الواقع كان غير ذلك، فحين وصل (ايفرات) إلى فلسطين وأقام في حيفا شاهد حرباً تجري، فمع من كانت تلك الحرب إن كانت البلاد بلا سكان؟ وسواء أقرأ كنفاني "أرض قديمة ـ جديدة" أم لم يقرأها، فإن الروايات التي درسها كنفاني "اكسودس" و"لصوص في الليل" و"نجمة في الريح" وغيرها، قد خرجت من معطف رواية (هرتسل)، وهكذا يكون خطاب أبطال كنفاني الفلسطينيين في صراع مع خطاب الرواية الصهيونية بشكل عام.
هل أخطأ الدارسون الذين قالوا إن "عائد إلى حيفا" هي رواية أفكار؟ تحفل الرواية عموماً بخطابين متعارضين هما الخطاب الصهيوني والخطاب الفلسطيني الذي يدحضه. وهكذا فإن أعمال كنفاني أعمال تصلح لأن تدرس حين يدرس المرء صراع الخطابات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إن سعيد. س بطل "عائد إلى حيفا" ـ وهو قناع لكنفاني ـ حين يرد على دوف، إنما يمثل الخطاب الفلسطيني في رده على الخطاب الصهيوني.
بل إن ما يقوله سعيد. س لزوجته صفية التي ترى حيفا بعد 1967، بعد غياب 20 سنة عنها، هو في جانب منه دحض للفكرة الصهيونية التي أظهرها (هرتسل) في روايته: فلسطين أرض خربة ومستنقعات وجزء من الشرق البائس، وحين يعود إليها اليهود ستغدو جزءاً من الغرب الحضاري. عشرون سنة تكفي لأن تتحول فلسطين إلى قطعة من أوروبا لا تقل جمالاً وتطوراً عن فرنسا وسويسرا وألمانيا. فماذا قال سعيد. س لزوجته التي أبدت اندهاشها مما رأت؟ "أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك".
"لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفوراً، .... ذلك جزء من الحرب. إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقياً. عليكم أن تقبلوا أن تكونا خدماً لنا، معجبين بنا.. ولكن رأيت بنفسك: لم يتغير شيء.. كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير...".
ربما بدا صراع الخطابات في الرواية أوضح أكثر حين يتجادل سعيد. س مع ابنه خلدون الذي غدا دوف، فما قاله الأخير هو ما تعلمه. إ ومند عقود ووالصراع هو الصراع. مات (هرتسل) وجاء (نتنياهو)، فهل ثمة فرق بينهما؟ واستشهد كنفاني وما زالت كتابته تقرأ، فماذا كان سيكتب عن الفرق بين (بنيامين ثيودور هرتسل) و(بنيامين نتنياهو) لو بقي حيا؟

2 ـ بنيامين ثيودور هرتسل وبنيامين نتنياهو:
وأنا أقرأ الترجمة العربية لرواية (بنيامين ثيودور هرتسل) الوحيدة "أرض قديمة ـ جديدة (الترجمة العربية 1968، وصدور الرواية بالألمانية 1903) غالباً ما ذهبت إلى أن (هرتسل) أكثر تقدمية من (نتنياهو).
كأنني ألجأ إلى ما لجأ إليه النقاد الماركسيون حين فسروا أعمال (بلزاك) الفرنسي و(كافكا) التشيكي.
كان (بلزاك) ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الفرنسية (ق19)، وكان في مقالاته السياسية يدافع عنها، وحين كان يكتب رواياته كان يصور حياتها وبيوتها وبذخها وسلوكها وتصرفاتها. وحين كان النقاد الماركسيون يقرؤون رواياته كانوا يرون أنها تفضح تلك الطبقة، وهكذا كانت الروايات ذات محتوى إيجابي تقدمي، قياساً للمواقف السياسية المتخلفة ـ وفق الرؤى النقدية الماركسية.
وكان (كافكا) محبطاً ضجراً سوداوي النظرة إلى الحياة، ولم يحيَ حياة أسرية هادئة، فقد كتب رسالة إلى أبيه يفصح له فيها عن سلوكه الشائن في تعامله معه، إذ فضل أبوه الأخ عليه.
ولم يكن (كافكا) ماركسياً، أيضاً، ليكتب من منطلق ماركسي، فيرى العالم عالمين: العالم الرأسمالي المتغوّل، والعالم الاشتراكي العادل، وحين كتب (كافكا) روايته "أمريكا" وقصته الطويلة "التحول/ المسخ" وغيرها، صوّر بشاعة العلاقات الإنسانية في المجتمع الرأسمالي، دون موقف مسبق واعٍ. وقد رأى النقاد الماركسيون في أعماله فضحاً للعلاقات الإنسانية في المجتمع الرأسمالي. هل كان (كافكا) سيذهب معهم ويوافقهم على تفسيرهم لو امتد به العمر حتى مؤتمر (براغ) (1964) حيث قرؤوا أعماله فيها في حقبة الاشتراكية، هو الذي عاش في (براغ) قبل حقبتها الاشتراكية؟
(هرتسل) الذي صور في روايته حياة اليهود في المنفى، ولاحظ أنهم يختلفون فيما بينهم، فثمة يهود فقراء معدمون، وثمة يهود أثرياء، ولاحظ، أيضاً، معاناة اليهود في المجتمعات الأوروبية، حيث اعتبرت كلمة يهودي شتيمة، وحيث منعوا من ممارسة الكثير من المهن، وفضل عليهم غير اليهود، (هرتسل) قرر أن يجد حلاً لمشكلة هؤلاء اليهود في المنفى، وهكذا فكر في تأسيس الدولة اليهودية وإعادة اليهود إلى فلسطين: الأرض القديمة ـ الجديدة، وعمل على هذا. هل أراد (هرتسل) إقامة دولة يهودية؟ ثمة كتاب له عنوانه "الدولة اليهودية"، ويقول العنوان إنه يريد دولة يهودية، لكن ماذا تقول الرواية؟
في فيينا يتعرف (فردريك ليفنبرغ) إلى الطفل اليهودي الشحاذ (ديفيد لوتفيك)، ويزور عائلته في بيتها، فيرى الفقر والبؤس والعوز، وهكذا يتصدق (فردريك) على العائلة ويحسن إليها فيغدو المتبرع المفضال، ويحث العائلة، لاحقا، على الهجرة إلى فلسطين، حيث أرض الآباء والأجداد، وهناك تفيض الأرض لبناً وعسلاً، ويمكن أن تقيم العائلة في بيت صحي، وتكد وتعمل وتعيش من وراء عرقها، لا من إحسان المحسنين وتفضل المتفضلين، وهذا ما يتم، إذ تتغير أحوال هذه العائلة رأساً على قدم، وتغدو عائلة تملك منزلاً صحياً ونظيفاً، لا عائلة تقتسم الغرفة الواحدة مع ثلاث عائلات أخرى، تعاني من تهديد المؤجر بالطرد إذا لم تدفع ما عليها من إيجار.
في منافسة انتخابية بين (ديفيد لوتفيك) وصهيوني آخر هو السيد (غايار)ـ ويكون هذا متعصباً، لا يتحدث (ديفيد) عن دولة يهودية تضطهد الآخرين وتتعالى عليهم وتحتقر دياناتهم وتهدم أماكن عبادتهم. وأرجح أن كلام ديفيد هو كلام (هرتسل) نفسه الذي تأثر بالفلسفات السائدة في القرن التاسع عشر، حيث أملت جهات كثيرة بمجتمع إنساني يحترم فيه الإنسان لكونه إنساناً، لا لديانته. (ديفيد لوتفيك) يرحب بالتعايش مع الآخرين ويستقبل المسيحي (كينغر هوف/ كورت) في بيته، كما يستقبل من أحسن إليه في النمسا: (فريدريك ليفنبرغ)، وفوق هذا يقيم علاقة طيبة مع رشيد بك العربي الذي ينتمي إلى فلسطين.
وتؤكد روح الرواية احترام أماكن العبادة وتعايش الأديان، فالكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب المسجد، والقطارات الكهربائية التي يجلبها وينشئها المهاجرون اليهود الأوروبيون ستصل إلى بيروت ودمشق وشرق الأردن، فلا حواجز ولا جدران ولا سياج فصل عنصري. إن ما يرمي إليه أحد المؤسسين هو إقامة شركة تعاونية تعمل لصالح الإنسان، دون النظر إلى دينه.
وأنا أقرأ الترجمة العربية للرواية تذكرت (بنيامين نتنياهو) وإصراره على إقامة دولة يهودية، ودعوته الرئيس أبو مازن للاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وتذكرت أننا غير قادرين على الوصول إلى حيفا ويافا والقدس، أيضاً. هل من ضرورة للإشارة إلى جدار الفصل العنصري؟ ولا أدري متى، آخر مرة، قرأ فيها (نتنياهو) الرواية ليرى أن من دعا إلى تأسيس الدولة لم يرد دولة دينية صافية. هل كان (هرتسل) ـ وما زال ـ أكثر تقدمية من رئيس الوزراء السيد بيبي؟

غسان كنفاني وشعراء المقاومة

هل كان الشاعر العربي السوري ادونيس في كتابه زمن الشعر 1972 قرأ ما كتبه غسان كنفاني عن شعر المقاومة؟ كان كنفاني أسبق من أدونيس، فقد صدر كتاباه عن أدب المقاومة في 1966 و1968 وفي الثاني "الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 48ـ1968"، وقد رأى رأياً مختلفاً، بل ومناقضاً لما رآه أدونيس.
تناول كنفاني أبعاد أدب المقاومة: الاجتماعي والوطني والقومي والإنساني، وذهب إلى أن شعراء المقاومة في فترة متقدمة من بداياتهم أعلنوا إعلاناً صارخاً عن انتساباتهم الاجتماعية والتقدمية، وكان أولهم حنا أبو حنا الذي تبعه محمود درويش وسميح القاسم. ويورد كنفاني نموذجاً شعرياً لراشد حسين يرفض فيه صاحبه الأفكار التقليدية المتخلفة لدى أبناء القرى: "همهم أن تلد الزوجة مولوداً ذكرْ/ ليقولوا: إنها بنت أصيل مفتخر/ وضعت طفلاً ذكرْ/ وجهه وجه القمر/ ليقولوا: زوجها فحل عظيم/ رجل... بعد هذا، ليصير ابنهم راعي ذياب" (أ. ت. مجلد 4، ص262). هل أذكر موقف سميح القاسم في 70 ق20، في ديوانه الحماسة ج1، من بعض الحكام العرب الذين ينتسبون إلى آل هاشم ورأيه في هذا؟
في 70ق 20 وفي نهاياتها تحديداً كتب الشاعر مريد البرغوثي قصائد قصيرة هادئة وساخرة وتقوم على المفارقة نشرها في العام 1980 في ديوان "قصائد الرصيف"، ومن هذه القصائد قصيدة لافتة عنوانها: "القبائل" قال في بداياتها: "قبائلنا تسترد مفاتنها". في أي زمن يحدث هذا؟ يجيب الشاعر عن هذا السؤال في نهاية القصيدة: "قبائلنا تسترد مفاتنها/ في زمان انقراض القبائل" (أ. ت، ص488/489 ط1997). ما الذي أوحى للشاعر أن يكتب هذا في فترة لم تكن داعش والصحوة والسنة والشيعة ظهرت إلى السطح كما تظهر الآن؟
يتأمل مريد، وتقول لنا القصيدة هذا، مبانينا وعاداتنا وتقاليدنا وغرف ضيوفنا: الصور العائلية و"الجيو كاندا"/ تحاذي حجاباً لرد الحسود/ بقرب شهادة ابن تخرج في الجامعة/ اطاراتها ذهب يعتليه الغبار". ويواصل مريد رصد المفارقات: بيت في بناية من حجر إذا ما أطلت الفتاة من شباكه وشى الصغير بأخته للكبار، وثمة زوجة رابعة، وهناك أبواب من نحاس ولكن تجرُّ عليها السلاسل".
وأغلب الظن أن الشاعر الذي كان في حينه في منفاه في بودابست عرف بظاهرة دواوين العائلات التي أخذت تشيع وتكثر في بعض العواصم.
أعتقد أن مريد البرغوثي ظل، حتى اللحظة، منسجماً مع نفسه، فلم يتزوج سوى واحدة، ولم ينجب سوى ابن واحد، ولا أعرف الكثير عنه، وإن كان كتاباه النثريان "رأيت رام الله" (1997) و"ولدت هناك.. ولدت هنا" (2009) دفعاني للتساؤل إن كانت بذرة العشيرة بدأت تنمو داخل الشاعر، فقد أفاض في الحديث عن العائلة إفاضة لافتة. هل تأثر بما هو سائد في المحيط منذ عاد إلى رام الله؟ فمنذ نهاية الانتفاضة الأولى 1991 بدأت الأحزاب اليسارية وفكرها يتراجعان وبدأت العائلة تتقدم، وفي الانتفاضة الثانية أخذ بعضنا يخوض في أمر مدينة الخليل وتميزها عن مدن أخرى من حيث الاستقرار وقلة الفوضى، وعزا هؤلاء السبب إلى النظام العشيري/ العشائري، فهناك تحل الأمور عشائرياً و... و...
لمحمود درويش في كتابه "أثر الفراشة" (2007) [يوميات] قصيدة هي "إن أردنا"، وتقول لنا إن الشاعر ظل منسجماً مع أفكاره التي اكتسبها يوم دخل الحزب، ولعل ما نمّى تلك الأفكار وعمّقها أنه عاش في القاهرة وفي بيروت وفي باريس وتونس، ثم في رام الله وعمّان. ولعلّه نجا من فخّ العيش مع العائلة وفي القرية، خلافاً لسميح القاسم الذي ظلّ مقيماً في الرامة ولم يخرج عن الالتزام بعاداتها وتقاليدها في كثير من شؤون حياته: السكن والأسرة والزواج و.. و... . وهذا أمر جدير بالتأمل حقاً.
في قصيدته "إن أردنا" يرى محمود درويش أننا قد نصير شعباً، ولكن متى؟ يجيب هو عن هذا السؤال: حين نعلم أننا لسنا ملائكة، وأن الشر ليس من اختصاص الآخرين، وحين نشتم حاجب السلطان والسلطان دون محاكمة، وحين نكتب وصفاً، حين يكتب شاعر، إباحياً لبطن الراقصة، وحين ننسى ما تقول لنا القبيلة، وحين يعلي المرء من شأن التفاصيل الصغيرة، وحين نرى أن بلادنا مثل بقية بلاد الله، وأنها ليست أجمل من النجوم، وحين تحمي شرطة الآداب غانية وزانية من الضرب المبرّح في الشوارع، و.. و.. وحين نحترم الصواب وحين نحترم الغلط.
أعتقد أن محمود درويش هنا ينظر لأشياء ولأفكار لا يقبلها أكثر أبناء شعبنا، بل إن من يقبلها قد يتهم بمسّ في عقله. درويش يريد دولة عصرية وديمقراطية، وهو يرى أننا بشر نصيب ونخطئ، وأن على الآخرين أن لا ينصّبوا من أنفسهم وعّاظاً وحماة للأخلاق، فيصدر مراهق حكماً على مثقف مثلاً إذا ما حادث امرأة و.. و.. . ولا أدري إن كان على علم، يوم كتب القصيدة، بأن هناك أساتذة جامعيين يهددون بالفصل إذا ما انتقدوا رئيس الجامعة، أو نوابه، وأنهم يحاسبون على حديثهم مع امرأة أكثر مما يحاسبون على إنجازاتهم العلمية.
(أتذكر ما حدث معي في 1993 بسبب نص ليل الضفة).
قصيدة محمود درويش السابقة قصيدة مهمة وخطيرة جداً، وأظن أن الشاعر نفسه كان حذراً في علاقاته مع نساء، لأنه يدرك أننا لسنا شعباً. ولنلاحظ بداية القصيدة: "سنصير شعباً، إن أردنا، حين نعلم أننا لسنا ملائكة، وأن الشر ليس من اختصاص الآخرين" (ص93)، وحتى اللحظة فإن أكثرنا لم يُرِدْ، ولا يعلم إلاّ أننا ملائكة وأن الشر من اختصاص الآخرين فقط، وأنه ليس من اختصاصنا.
لسميح القاسم قصيدة مبكرة وردت في ديوانه "دخان البراكين" (1967) عنوانها "التعاويذ المضادة للطائرات"، وقد كتبها إثر حرب حزيران. كان سميح يومها شاباً وقد انتسب للحزب الشيوعي. لم يستسغ الهزيمة وسقوط المشروع القومي، وتعرف إلى الماركسية، ولعلّه أدرك أن جزءاً من هزيمتنا يعود إلى عاداتنا وتقاليدنا وأفكارنا، ولا أدري، إن كان اطلع، في حينه، على كتاب المفكر العربي السوري صادق جلال العظم "النقد الذاتي بعد الهزيمة".
يسخر سميح في قصيدته من معتقداتنا التي تواجه الطائرة بالتعاويذ، فالنتيجة كانت الذل وفقدان الوطن واحتلال بقيته.
إن ما كان يقوم به الآباء والأجداد هو ما علمُّوه له، وهو لم يجد شيئاً
"علمُّوني أنه، سبحانه، يُحيي ويفني ما يشاء/ علّموني أن أطيع الأولياء/ دون أن أسأل من كانوا؟/ وماذا صنعوا للتعساء؟/ علّموني الدجل والرقص على الحبل/ وإذلال النساء/ علّموني السحر والإيمان والأشباح،/ والرقية والتعزيم/ والخوف إذا جاء المساء" (ص93)، هذا ما علّموه يوم كان طفلاً، ثم جاءت الهزيمة، فأدرك هذا وكان أن أعلن: "يا أبي المهزوم.. يا أمي الذليلة!/ إنني أقذف للشيطان ما أورثتماني/ من تعاليم القبيلة" (ص93).
وأعتقد أن هذه القصيدة من القصائد التي اعتمد عليها كنفاني وهو يتوصل إلى ما توصل إليه من أن شعراء المقاومة أعلنوا إعلاناً صارخاً عن انتماءاتهم الاجتماعية التقدمية.
هل ظل سميح القاسم على ما نادى به في هذه القصيدة؟ ربما وجب أن نقرأ أشعاره في مرحلته الثالثة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي! وسميح في هذه المرحلة يذكّرنا بما قاله مظفر النواب "إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده"، وأشعاره في هذه المرحلة لا يختلف بعضها عن بعض أشعار النواب، وعن نصوص أدبية عربية كثيرة أنجزت في العقدين الأخيرين، وأدلّل هنا برواية علوية صبح "مريم الحكايا" ورواية خالد خليفة "لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة".
ثمة تحولات عميقة وعنيفة في بنية المجتمع العربي تبرزها لنا الأوضاع في العراق وسورية وليبيا وتتجسد أكثر مما تتجسد في "داعش".
وماذا عن أشعار سميح؟ لنقرأ الصفحات الأخيرة من سربية "أنا متأسف" (2009) لكي نرى عودة سميح القاسم إلى تعاليم القبيلة، وإلى اعتناقه الكامل أنه سبحانه يُحيي ويفني من يشاء: و.. إلى الله أرفع وجه القنوط وكفّ الوله" ص136.

غسان كنفاني و... فارس فارس ثانية

كنت التفت إلى كتاب غسان كنفاني "فارس فارس" الذي أعده للنشر وكتب له مقدمة مطولة الناقد اللبناني محمد دكروب. هل قلت يومها كل ما أريد قوله في هذا الكتاب؟ لا أظن ذلك، وحين عدت الى ملاحظاتي التي دونتها وجدتها كثيرة، ولعل أهمها آراء غسان الشعرية، وهي آراء يجدر أن يقرأها كثير من شعرائنا، فلعلهم .. يحاورونها، او لعلهم يسائلون أشعارهم ومسيرتهم الشعرية. كم مرة، وأنا أقرأ آراء غسان في الشعر تذكرت صديقي الشاعر محمد الريشة وأشعاره، وكم مرة تذكرت محمود درويش. وأنا أكتب هذا المقال تذكرت صديقي الشاعر غسان زقطان أيضا، بل وتذكرت الشاعر محمود أبو الهيجاء، أيضا.
في نيسان من هذا العام، أو في أيار، كرّمت دار الشروق الشاعر الفلسطيني احمد دحبور، وقبل أن يحين موعد التكريم جرى حوار، في شقة فتحي البس، بيني وبين الشاعر أبو الهيجاء عن جائزة محمود درويش وذهابها الى الشاعر زهير أبو شايب، وسمع مني وجهة نظري في اعتراضي على منح زهير الجائزة، فعقب أبو الهيجاء: هذا رأي يحتاج الى مناقشة.
كانت وجهة نظري أن محمود درويش شاعر وطني وشاعر قضية، وقد كان الموضوع الشعري يشغله، حتى حين أخذ يلتفت الى الشكل والجانب الجمالي. إنه هو الذي قال في "حالة حصار" (٢٠٠٢): لا جمالي خارج حريتي. هكذا تعلم من الشهيد، وبالتالي فيجب أن تذهب جائزة الشاعر الوطني الى شاعر قضية بالدرجة الأولى؛ قضية وطنية / قومية، وقضية شعرية. ربما أكون مصيباً. ربما أكون مخطئاً.
وفي أيار أو حزيران من هذا العام التقيت، صدفة بالشاعر غسان زقطان. كنت أجلس في مقهى كرامي/ كرامة في رام الله، ولما دخل إليه غسان ورآني جلس الى جانبي وتحاورنا في الشعر الذي يكتبه. أنا واحد ممن قرأوا غسان مبكراً، منذ بدأ يكتب الشعر، فما زلت أذكر ديوانه المشترك مع الشاعر محمد الظاهر "عرض حال للوطن" الذي أصدرته رابطة الكتاب في ٧٠ ق ٢٠ وأحضر نسخة منه الصديق محمد كمال جبر، وحين أنفقت عامين في عمان أدرس الماجستير، قرأت دواوين غسان التي كانت لدى الناقد فخري صالح، وتواصل إعجابي به شاعراً، غير أني، منذ فترة، أخذت اقرأ ما يكتبه الشاعر، ولا أعيد قراءته ثانية، لأن غسان أغرق في الذاتية، وسأسأل غسان السؤال التالي: لمن تكتب؟ لمن أخذت تكتب الآن؟ وسيبدي لي رأيه الذي يدافع عنه، وسأرى أن ذائقة كل منا الشعرية في واد آخر مختلف. وسآتي في حواري مع غسان زقطان على تجربة غسان كنفاني الكتابية يوم أصدر روايته "ما تبقى لكم" (١٩٦٦)، وسؤاله الذي وجهه الى ذاته بعد إصدارها: "لمن أكتب؟" "للنقاد أم للقراء"؟. افترقت وغسان صديقين، رغم اختلافنا شعرياً.
وأنا أقرأ ملاحظاتي التي دونتها على كتاب غسان كنفاني "فارس.. فارس" وجدت الملاحظة التالية: "ماذا لو قرأ أشعار محمد الريشة؟".
محمد الريشة صديق لي منذ بدأ يكتب الشعر في نهاية ٧٠ ق٢٠، وقد أهداني أكثر مجموعاته الشعرية، ثم عاد وأهداني أعماله الشعرية الكاملة التي أصدرها هو عن بيت الشعر، ولم أكتب أنا عنه سوى مقال واحد أثرت فيه السؤال التالي: لمن يكتب الشاعر؟
بين ذائقتي الشعرية وذائقة محمد الريشة الشعرية بون شاسع، وربما لهذا لم أكتب عنه كثيراً، ولا يعني هذا أنني على صواب، فقد يكون الخلل في فهم أشعار الريشة فّي شخصياً.
لغسان كنفاني مقال عنوانه "شعراء متهمون بالغش والتزوير" أتى فيه على ما يصدر في العراق من دوريات أدبية، ومنها مجلة "الأديب المعاصر" وقد توقف فيه أمام الشعر الذي نشر فيها، فأبدى ملاحظة في الشعر، هي الرابعة من ملاحظاته على مجلة "الأديب المعاصر"، ويكتب غسان في ملاحظاته:
"ورابع ملاحظاتنا
تتعلق بقضية الشعر، ففي المجلة ٧ قصائد، جميعها من الطراز الحديث وإنني لراغب حقاً في مصارحة شجاعة هنا، وهي باختصار: إنني لا أفهم شيئاً من هذا الشعر" (ص١٧٨) وملاحظته لا تقتصر على القصائد السبع التي أعجب بقسم منها، فهي تشمل أكثر الشعر الذي ينشر في أيامه، ويعلن غسان: "إني لا أفهم هذا الهذيان، وقد آن الأوان لنتخلى عن خشيتنا من أن نتهم بالجهل، ونبدأ بتأسيس ناد يضم بين صفوفه جميع الذين لديهم الجرأة على الإقرار بأنهم عجزوا عن فهم واستيعاب هذا الشعر. (ص١٧٨).
طبعاً يذهب غسان الى ما هو أبعد من ذلك، حين أقرأ ما أكتبه أراني ناقداً خجولاً غير جريء، ولست حاداً على الإطلاق. انظروا ماذا يكتب غسان:
"وسيكون على هذا النادي أن يلقي القبض في كل مكان على الشعراء هؤلاء، ويقدمهم الى المحاكمة بتهمة الغش والتزوير مثل الذين كانوا يضحكون على أجدادنا بكتابة أحجية غير مفهومة، وكان أجدادنا يصابون بالذهول أمام تعقيد تلك الكتابة، ليس لأنهم فهموا، ولكن لأنهم يزدادون شعوراً بالجهل". (١٧٨).
طبعاً لا يقفل غسان القول ويعلن أنه على صواب، فهو يريد ان يحضر هؤلاء الشعراء ليدافعوا عن انفسهم، فإذا ما ثبت انهم على حق، وان أعضاء النادي قد أخطأوا، وانهم هم الجهلة، عند ذاك يجري توظيفهم في مناصب مهمة في الدولة.
وأنا اقرأ غسان كنفاني "فارس .. فارس" قلت: لقد التُفت الى غسان روائياً وقاصاً ومسرحياً ودارساً وكاتب مقالة، ولكن لم يلتفت إليه ناقداً، ناقد شعر وناقد قصة قصيرة وناقد رواية. هل تذكرت الشاعر محمود درويش وأنا اقرأ مقالات غسان؟
لغسان كنفاني مقال عنوانه "كفى؟ لا تطرطشونا بلعاب الحماس"، وفي مقاربة لمجموعة قصصية عنوانها "لا تشتروا خبزاً، اشتروا ديناميت" للكاتب خليل فخر الدين، ولا ينكر غسان أن كاتب القصص لا يخلو من بريق الموهبة هنا وهناك، لكن ما اخفاه - أي بريق الموهبة - الى حد بعيد هو تلك الموجة العصبية من الوطنية الساذجة، المتحمسة على حساب البناء الفني، وعلى حساب الهيكل العظمي والعضلي والعصبي والجمالي لكل قصة، فكتابة قصة ناجحة عمل وطني أيضا، ولو فعل مكسيم جوركي مثلما فعل خليل فخر الدين لتأخرت الثورة البلشفية قرناً كاملاً على الأقل" (ص93).
وأنا أقرأ ما سبق لغسان تذكرت محمود درويش وفهمه، لاحقاً، لشعر المقاومة، حين ألقى كلمة في حفل توقيع ديوانه "كزهر اللوز او أبعد" قال كلاماً لا يختلف في مضمونه عن كلام غسان السابق. ان كتابة قصيدة جميلة وناجحة فنياً هو عمل مقاومة.
وسأتذكر درويش ثانية وأنا اقرأ مقالة غسان "نادي المنتفعين باللغة العربية" (ص١٩٦). في هذه المقالة يناقش كنفاني تعابير أدبية لنزار قباني - كان أتى على نزار والجواهري في مقالة عنوانها "جواهر الجواهري وقبان القباني - وردت في كتابه "عن الشعر والجنس والثورة"، ومنها: "إنني سافرت من القاموس وأعلنت عصياني على مفرداته" و"القصيدة عندي .. تبدأ بكلام لا كلام له" و"تحولت الكلمة الى فرس رفض سرجه وفارسه وانطلق في براري الشعر.." ..الخ وسيناقش كنفاني مقولات نزار وسيطالبه في النهاية بالتالي: "ولكن، يا سيدي يا نزار قباني: لماذا لا تظل تكتب شعراً وتعفينا من رأيك بهذا الشعر، ومن فلسفتك لذلك الشعر، وترجمتك وحواشيك وهوامشك؟" وسيسخر كنفاني من عبارات نزار وبعض مفاهيمه بكتابة عبارات على غرار عبارات نزار، ولغة على غرار لغة نزار. لماذا تذكرت محمود درويش؟
محمود يكتب شعراً جميلاً، ولكنه أحياناً يكتب نثراً على غرار نثر نزار أيضاً، وربما أكون مخطئاً.
هل تذكرت شيخي اميل حبيبي أيضا وأنا اقرأ "فارس.. فارس"؟ بالتأكيد، فغسان في مقالاته يبدو ساخراً جارحاً حاداً، ولا أدري أيهما اسبق في كتابة المقالة النقدية الساخرة.
الذين درسوا أدب اميل توقفوا أمام السخرية في رواياته وقصصه - وكان اميل كاتب مقالة ساخرة، والذين درسوا غسان لم يتوقفوا أمام هذا الجانب في رواياته وقصصه، ولعلهم لم يقرأوا مقالاته التي أتى في جانب منها على الأدب الساخر في لبنان، وقدم هو نماذج منه.
في كتابات غسان عن الكاتب اللبناني الساخر "سالم الجسر" (ص٨٦) تذكرت اميل وتلاعبه باللغة واشتقاقاته وتحويراته أيضا، فغسان كان له - في مقالاته، لا في رواياته - باع. في الأمر. كل عام وغسان كنفاني بخير.
سان كنفاني ... ورقة من غزة
أحاول أن أتذكر أول نص قرأته لغسان كنفاني ومتى قرأته، فلا تسعفني الذاكرة.
ربما أكون قرأت "نجران تحت الصفر" ليحيى يخلف قبل أن أقرأ أي كتاب أو قصة لغسان، وإن كان ثمة سبب فهو أنني درست في الأردن، ولم تكن كتب غسان تباع في المكتبات هناك، أو أنها كانت تباع دون أن أعثر عليها أو أتعثر بها، فيما كانت رواية يحيى الصادرة حديثا عن دار الآداب - طبعا في حينه في أواسط 70 ق20 - تباع في مكتبة في الجامعة الأردنية، مكتبة تبيع الكتب الصادرة حديثاً في بيروت.
وربما عرفت غسان في العام 1977، بعد استشهاده بخمس سنوات، وتحديداً يوم أعادت دار صلاح الدين في القدس ودار الأسوار في عكا طباعة نتاجه الأدبي.
قرأته ولم أكتف بهذا، بل أخذت أعرف طلاب المدرسة الصلاحية في نابلس، وطلاب المدرسة العقربانية في الأغوار به، إذ بدأت تأسيس مكتبة صفية يسهم الطلبة فيها، هل كنت يومها متهوراً؟
أحببت غسان من خلال نتاجه، ومن خلال رثاء محمود درويش النثري له "غزال يبشر بزلزال"، ولا أعرف، حتى اللحظة، نصاً شعرياً لدرويش في رثاء غسان.
ولما كنت، في مدارس الوكالة، أسهم في النشاط الثقافي الخارجي، فقد اقترحت نص درويش لمسابقة الإلقاء، لمدارس الوكالة في منطقة شمال الضفة، وهكذا حفظه بعض الطلاب عن ظهر قلب، ومنذ غدوت محاضراً في جامعة النجاح الوطنية، في العام 1982، غدا غسان حاضراً في مساقاتي باستمرار.
كاتب متجدد :
ما من عام يمر إلاّ وكتبت مقالاً في ذكراه أو شاركت في ندوة حول أدبه أو ترجمت كتاباً صغير الحجم عنه أو دراسة حول نص من نصوصه، أو كتبت ورقة لمؤتمر حول أدبه وتأثره بالآداب العالمية، ومنها الصهيونية، أو تأثيره في الأدب الفلسطيني.
وأحياناً كثيرة تجدُّ مناسبة ما، فأرى في نصوص غسان ما يسعف في الاعتماد عليها لربط الحاضر في الماضي.
قبل أسبوعين كتب فتحي أبو مغلي في الأيام، في زاويته "طرطشات"، طرطشة عن بعض إخوتنا العائدين، إثر أوسلو، هؤلاء الذين أنهوا خدمتهم وتقاعدوا، وما عاد يربطهم بالوطن سوى راتب التقاعد، حيث حزموا حقائبهم ورحلوا.
أشار أبو مغلي في كتابته إلى محمود درويش وسطره: وطني ليس حقيبة. هذا إذا لم تخني الذاكرة، ولفت أنظار العائدين إلى أن الوطن غدا لهم حقيبة وراتبا، ليس أكثر.
طرطشة أبو مغلي أعادتني إلى قصة كنفاني "ثلاث أوراق من فلسطين" من مجموعته "أرض البرتقال الحزين" (1963)، وتحديداً الورقة الثالثة التي عنوانها "ورقة من غزة".
هكذا ذهبت إلى أن كنفاني كاتب ما زال يقرأ، وما زالت نصوصه طازجة، كأنها كتبت للتو، مع أنه مر على كتابة القصة ثمانية وخمسون عاماً تقريباً.
قبل فترة نشرت في الأيام الفلسطينية، في زاوية دفاتر، مقالة تمحورت حول سحر خليفة وعزمي بشارة (8/9/2013) وأتيت فيها على رحيل هذين والإقامة في المنفى، متتبعيْن خطى محمود درويش الذي غادر في 1970، ولم يعد إلاّ بعد (أوسلو) ليستقر في رام الله.
وكانت هجرته أثارت ضجة كبيرة، وظل هو يعبّر عن ندمه لقيامه بها: لماذا نزلت عن الكرمل؟ سحر خليفة غضبت مني، ولا أعرف رد فعل عزمي بشارة.
ملاحظة فتحي أبو مغلي هي ملاحظة قديمة جديدة، فقد ترددت على لسان بعض موظفي وزارة الثقافة، وهم يتحدثون عن أسماء أدبية بارزة عادت إلى الضفة إثر أوسلو، ولكنها سرعان ما غادرت الوطن، بعد أن حصلت على وظيفة في الوزارة، ولم تعد تتردد على الوزارة إلاّ لتسأل عن العلاوة السنوية، كأن الضفة لم ترق لهؤلاء، وكأنهم اعتادوا على العواصم الكبيرة أو.. أو.. أو....
ورقة من غزة :
فكرة الصمود على أرض الوطن وعدم مغادرته تعود إلى فترة مبكرة.
إميل حبيبي عاد إلى فلسطين، إثر نكبة 1948، متسللاً وقرر أن يظل في حيفا، وكلنا نعرف عبارته الشهيرة التي طلب من أهله وأصدقائه أن يكتبوها على شاهد قبره "باقٍ في حيفا". هل كان غسان كنفاني حين كتب قصته "ورقة من غزة" (1956) سمع بإميل حبيبي؟
كان كنفاني، يوم كتب قصته، يقيم في الكويت، ومن خلال إقامته هناك استوحى أفكاراً وشخصيات وأحداثاً مر بها الفلسطينيون المقيمون هناك. فكرة رواية "رجال في الشمس" (1963) مثلاً، وربما فكرة "ورقة من غزة" فلم يكن غسان يقيم في غزة، ولم يكن أقام فيها، وأظن أنه زارها في 60 ق20.

قصة القصة:
القصة التي اتخذت شكل الرسالة تدور حول صديقين تربيا معاً في غزة، وتعلّما، وقررا أن يعملا في الكويت ليوفرا المال، ومن ثم ليسافرا إلى كاليفورنيا، ويواصلا الدراسة هناك في جامعاتها، وبذلك يصبحان غنيين، يودعان الفقر، ويهربان من غزة، ويستمتعان بملذات الحياة، "إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في هذا البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم.." "ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد من حماسنا إلى الهروب؟" وحين يعود إليها الراوي/ كاتب الرسالة الضمني، بعد إقامة عام في الكويت، ليقضي إجازته فيها وجدها كما عهدها وصديقه مصطفى تماماً: "انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدفة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر...." (ص344، أ. ك).
ومع أن مصطفى سافر إلى كاليفورنيا، ودرس في جامعتها، وأعد العدة لصديقه حتى يلتحق به، إلاّ أن الصديق يقرر البقاء في غزة وعدم العودة إلى الكويت أو السفر إلى كاليفورنيا والسبب يكمن في أنه رأى ابنة أخيه الشهيد نادية، وقد بترت ساقها، في غارة صهيونية، من أعلى الفخذ.
أرادت نادية أن تنقذ أخويها، فأصيبت، وكان بإمكانها أن تهرب فتنجو، ولكنها لم تفعل، وهكذا تعلم عمها منها درس التضحية بالذات من أجل الآخرين." لن آتي إليك.. بل عد أنت لنا. عد.. لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة، وما قيمة الوجود.. عد يا صديقي فكلنا ننتظرك". (ص350).
سميح القاسم: إليك هناك حيث تموت
بعد كتابة كنفاني قصته بعشر سنوات كتب سميح القاسم قصيدته الشهيرة "إليك هناك حيث تموت" ووجهها لصديق قديم يقيم في بيروت طلب منه، بعد هزيمة حزيران مباشرة، أن يغادر حيفا وأن يقيم في بيروت، ففيها الحياة أرحب -لم يكن محمود درويش هاجر بعد، والقصيدة أسيئت قراءتها - ولم ترق الرسالة لسميح فهاجم صديقه القديم وأنهى قصيدته بقوله:
"إليك هناك.. يا جرحي ويا عاري/ ويا ساكب ماء الوجه في ناري/ إليك إليك من قلبي المقاوم جائعاً عاري/ تحياتي وأشواقي/ ولعنة بيتك الباقي". هل اختلفت قصيدة عبد اللطيف عقل التي كتبها بعد عشرين عاماً تقريباً من كتابة القاسم قصيدته عن قصيدة الأخير؟ وسينهي عقل قصيدته بقوله:
"شكراً يا صديق طفولتي/ اختلفت بنا السبلُ
أنا نبض التراب دمي/ فكيف أخون نبض دمي وارتحل".
كأننا لا رحنا ولا جينا. ما كتبه كنفاني كتبه القاسم وعقل، بل ومحمود درويش أيضاً في 2002: "واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا/ خالدون هنا. ولنا هدف واحد واحد: أن نكون". و... و... كأن كنفاني كتب للتو قصته!! كأنه.
حرب غزة والسخرية ... غسان كنفاني والسخرية
في أثناء حرب غزة أخذت أتابع النكت والمقاطع الساخرة، فشرّ البلية ما يضحك.
تذكرت ما قرأته عن حرب حزيران وانعكاسها في الأدب العربي، وعدت إلى كتاب أنطوان شلحت "خداع الذات... المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين" (2007)، وحانوخ ليفين أبرز كاتب إسرائيلي كتب نصوصاً ساخرة إثر حرب حزيران، وقد ترك أثراً في أدبنا الفلسطيني، أشرت إليه وأنا أكتب عن الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني (1993)، وتحديداً حين توقفت أمام نص محمود درويش النثري "أنا وأنت والحرب القادمة".
وقد توقفت أمام رسوم كاريكاتورية وعبارات ساخرة ومقاطع فيديو. لفت نظري رسم كاريكاتوري يظهر فيه رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) و(باراك) (وليبرمان) في نفق للمياه العادمة، وكتب في الرسم: الهدنة قرارهم مش قراري، الحقنا يا (أوباما) احنا في المجاري.
كما لفت نظري رسم آخر يظهر فيه (نتنياهو) والدموع تنهمر من عينيه، ينظر إلى (أوباما) الرئيس الأميركي ويخاطبه: "دخيل عليك يا بو سمرة.. شوفلنا حد من جماعتك يحكي معهم، هدول بستبعدش يطلع عندهم نووي"، كما ظهرت عبارات تسخر من الطائرات الإسرائيلية، فأطفال فلسطين كانوا ينادون، على غرار تجار الخردوات: غسالات، ثلاجات، طيارات للبيع، وحور بعض الساخرين بعض عبارات أو استخدموا عبارة شهيرة من أغنية شهيرة لوصف الحالة، فإسرائيل تهدي المقاومة أغنية: اللي شبكنا يخلصنا لعبد الحليم حافظ (زي الهوى).
وأنا أكتب على الفي سبوك عن نيتي الكتابة في موضوع السخرية والحرب أدرجت صديقة مع تعقيبها مقطع فيديو (يوتيوب) يقرأ فيه مواطن غزي نشرة أخبار، ومن أخبار النشرة:
- ثلاث حروب: والرابعة يأخذ المواطن محمود زعيتر بكالوريوس حروب.
- هاجمنا (شارون) وحاربنا لأن الفلسطينيين انتهكوا طفولته، فما السبب الذي يدفع (نتنياهو) إلى شن حربه؟ ويتابع المذيع قائلاً إن طبيباً نفسياً أميركياً يقول إن المجلس الوزاري كله منتهكة طفولته.
- يقول المذيع: الناس يتساءلون: نفس الطيارة، نفس الطيار، نفس الصاروخ. ألا جديد؟ فقد صار عند أهل غزة مناعة. مللنا منها. شوفو شيئاً جديداً. (شوفو لنا شيء جديد).
- فرنسا قررت شراء صواريخ جديدة من غزة بعد فشل القبة الحديدية.
- وبريطانيا قررت إرسال بعثة إلى غزة للتدرب على صناعة صواريخ.
- وأما ألمانيا فقد قررت شراء طيارات أبابيل. و... و... و... .
بعض الأدباء الإسرائيليين مثل (حانوخ ليفين) سخروا من قادتهم بعد حرب حزيران مباشرة، ولا أعرف إن كانت روح السخرية ظهرت في الصحافة العبرية في أثناء حرب غزة، وما أعرفه أن أدبنا لم يخل من روح السخرية في أثناء الانتفاضة الثانية، بل وفي أثناء الانتفاضة الأولى.
السخرية، في الانتفاضة الأولى، برزت في أشكال عديدة على أفواه الناس الذين سخروا من جنود الاحتلال، وفي نهاي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى