"الصوت والصدى" رؤية مغايرة لمشروع عبدالرحمن بدوي الفلسفي

لطالما أنكر الفلاسفة الغربيون المتأثرون بالفلسفة الإغريقية دور الفلاسفة العرب في نقل عصارة أفكار اليونانيين وتطويرها، وحتى تمهيد الطريق إلى فلسفة مغايرة عما نشأت عليه في اليونان. وتصدى الكثير من المفكرين التنويريين العرب لهؤلاء، لكنهم بدورهم لم يتوقفوا عن الاستفادة من إنجازات الفلسفة الغربية.
الأربعاء 2017/11/01
مفكر أعاد قراءة التصوف الإسلامي باعتباره الأكثر انفتاحا

القاهرة - “عبدالرحمن بدوي مشروع فلسفي متعدّد المستويات، فهو الفيلسوف بالألف واللام، لأنه يمثّل بالنسبة إلى الفكر الفلسفي العربي المعاصر مفكرا استثنائيا متميزا متفردا”، هكذا يقول الدكتور أحمد عبدالحليم عطية في كتابه “الصوت والصدى.. رؤية جديدة في مشروع بدوي الفلسفي”، وقد اشتهر عبدالرحمن بدوي بأنه رائد الفلسفة الوجودية العربية. ومن أطلقوا عليه تلك التسمية تناسوا جهوده في دراسة التراث العربي الإسلامي وخاصة المتعلق بالتصوف، أيضا لم يلتفتوا إلى جهوده في نقل التراث الفلسفي اليوناني وتقديمه عبر رؤية معاصرة.
وقد توقف هؤلاء عند مرحلته الوجودية التي بدأت بدراسته “مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية” وهي رسالة للماجستير التي ناقشها عام 1941، ورسالته للدكتوراه عام 1944، التي ناقشه فيها الدكتور طه حسين وباول كراس والشيخ مصطفي عبدالرازق. وكان موضوعها “الزمان الوجودي”، والتي نشرت في ما بعد في كتاب بعنوان “خلاصة مذهبنا الوجودي”.

الذات والآخر

عن شخصية عبدالرحمن بدوى يقول عطية “يمكن لنا إذا ما أردنا تفسيرا دقيقا لجوانب هذه الشخصية الخصبة العميقة المتناقضة، أن نتوقف عند الأسس الفلسفية التي اعتنقها بدوي، وهي النزعة الوجودية التي قدّم فيها إبداعاته، فتوجّهه الوجودي نابع من اهتمامه الكبير بفلسفة نيتشه وهيدغر، ولعل اهتمامات بدوي السياسية، التي ظهرت في مقالاته في مصر الفتاة عام 1935 هي التي أملت عليه الاهتمام بفلسفة نيتشه، حيث كان من أول مؤلفاته كتاب عن نيتشه، استجابة للثورة السياسية التي كان يموج بها الواقع المصري في ذلك الوقت”.
ويلفت المؤلف إلى أن بدوي كان صاحب مدرستين في الكتابة الفلسفية، الأولى يؤصل فيها لوجهات نظره في الفلسفة، وابتكار صيغ فلسفية تتوافق مع العصر الحديث، مع البحث في الجذور الفلسفية العربية والأوروبية. والثانية هي التأريخ للحراك الفلسفي على مدار التاريخ، خاصة الفلسفة الأوروبية وما مرت به من مراحل عاصفة. وهو في المدرستين كان يهدف إلى التأمل والتفكير، حيث يقول “هذه الكتابات من أجل إيجاد نظرتنا الجديدة وليس متابعة الفكر الأوروبي”.
بدوي كان صاحب مدرستين فلسفيتين الأولى يؤصل فيها أفكاره الفلسفية، والثانية هي التأريخ للحراك الفلسفي
يرى أحمد عبدالحليم عطية أن أغلب الدراسات التي تناولت عبدالرحمن بدوي كانت قراءات خارجية، تناولت الرجل في شموليته، أو توقفت في أغلبها عند توجهاته الوجودية الأولى، أو التوجهات الإسلامية الأخيرة، بينما كتاب “الصوت والصدى” يطمح إلى تقديم قراءة مغايرة، يصفها صاحبها بأنها “داخلية” بمعنى أنها تتناول أعمال بدوي وفق تكوينه الخاص من جهة، ووفق الظروف التاريخية والاجتماعية التي قدّم من خلالها هذه الأعمال من جهة أخرى. وهو يقدّم رؤيته عبر مشهدين أو فصلين، الأول عن التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية ، ويسميه “الآخر في الذات” والثاني عن موقف بدوي من المستشرقين ويسميه “الذات في الآخر”، وفي التسميتين تفسير للعنوان، فالذات والآخر هما الصوت وصداه.
ويلاحظ أن اهتمام بدوي بالتراث اليوناني لا ينفصل عن اهتمامه بالحضارة العربية الإسلامية، فهو لا يدرسه في ذاته دراسة منعزلة عن علاقته القوية بهذه الحضارة التي ينتمي إليها الفيلسوف، بل في تفاعله معها، فالفضل في إحياء التراث اليوناني يرجع إلى الحضارة العربية الإسلامية.
وقد قدّم عبدالرحمن بدوي تحقيقات لنصوص هؤلاء الفلاسفة اعتمادا على الترجمات العربية القديمة، مقارناً إياها بالأصل اليوناني. وهو بذلك يقدّم شاهدا على اهتمام العرب بالتراث اليوناني. وانطلق المفكر من التأسيس في التاريخ إلى النظر في الفكر والروح، روح الحضارة العربية الإسلامية التي شُغل بها من خلال ما سماه “دراسات إسلامية”. فقد كان يرى أن الانفتاح الواسع الذي لا يحدّه شيء ولا يقف في سبيله أي تزمّت هو العامل الأكبر في ازدهار الحضارة الإسلامية.


الانبهار والنقد

وفقا لكتاب “الصوت والصدى” فإن الفعل الفلسفي الذي مارسه عبدالرحمن بدوي في تناوله الفلسفة العربية الإسلامية في إطار حضاري أوسع هو تأسيس الفكر على الذات وإرجاع الحضارة العربية إلى نزعتها الإنسانية، هو محاولة لقراءة الفلسفة الإسلامية قراءة وجودية.
وهذا هو الجانب الذي عُرف به بدوي، ويتضح في كتابه “الإنسانية والوجودية في الفكر العربي”، والذي أعاد قراءة التصوّف الإسلامي باعتباره أوضح تعبير عن هذه النزعة. كما يظهر في تحقيقه كتاب “الإشارات الإلهية” لأبي حيان التوحيدي، حيث يقدّم التوحيدي باعتباره أديبا وجودياً من القرن الرابع الهجري.
وفي مقدّمة ترجمته لكتاب الفيلسوف والكاتب الألماني غوتة “الديوان الشرقي للمؤلف الغربي”، يصوَّرعبدالرحمن بدوي ظاهرة الاغتراب الروحي تصويرا دقيقاً ويرى هذه الظاهرة ناتجة عن اغتراب الإنسان تجاه واقعه وعالمه ومجتمعه، عقب الحرب العالمية الثانية وتداعياتها، وأثرت في الفكر الفلسفي في حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
ويرى الكتاب أن بدوي بدأ معجبا بالمستشرقين مشيدا بهم، وأورد أسبابا تؤيد هذا الزعم منها ترجماته لأعمال المستشرقين إلى العربية فكأن أبحاثه تتكامل مع هذه الترجمات، كما أنه استلهم أعمالهم في كتاباته وخاصة كراوس، وأيضا السمة الإنسانية التنويرية في طرح القضايا والتي تجلّت حتى في اختياره لعناوين كتبه، مثل “شخصيات قلقة في الإسلام” و”من تاريخ الإلحاد في الإسلام”، إلا أن ذلك مجرد انطباع مباشر قد لا يعبّر عن حقيقة قناعات الرجل، فمثلا الدراسات التي أوردها عن الإلحاد تتعلق بإنكار الفلاسفة للنبوة وليس للألوهية.
وتحوَّل عبدالرحمن بدوي من الانبهار والنقل وعرض آراء المستشرقين باعتبارهم “معلّمي الإنسانية.. أساتذتنا المستشرقين” إلى النقد والمقابلة. فهو أعاد النظر في الكثير من الأحكام التي أصدرها على المستشرقين، كما يظهر في “موسوعة المستشرقين”، إذ قام بتصحيح الأخطاء العلمية والتحليل الموضوعي لدراساتهم، وإدانة التوجهات السياسية والتعصّب الديني في كتاباتهم، والدفاع عن الهُوية الإسلامية وإعادة النظر في ما كتبوا.
ويرى الكتاب أنّ هذا التحوّل لم يكن مفاجئا، بل له جذور بدت في نقده الموضوعي لكتابات المستشرقين الدينية والسياسية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى