الحارة متاهة المدينة والهوية القومية لمصر هاجس السينما

سيطر هاجس الهوية على السينما المصرية منذ بداياتها، فمن ناحية سعى السينمائيون المصريون إلى تأكيد الهوية المتغيرة في الواقع بتثبيتها في الفن، فسعت الأفلام إلى فرض ملامح تمثيلها الخاص للهوية القومية، وفي الوقت نفسه كانت السينما المصرية تحاول تحقيق هويتها السينمائية المميزة لها في مواجهة السينما العالمية كالأميركية والفرنسية والإيطالية.

وقد وجدت السينما المصرية هويتها الخاصة في التعبير عن الهوية القومية، وربما رأت في الحارة تمثيلا لهذه الهوية فمنحتها ما يقرب من ربع إنتاجها، إذ استأثرت الحارة بأكثر من ألف فيلم من بين 4200 فيلم تم إنتاجها في مصر منذ 1917 وحتى 2001، وقد اكتفت مي التلمساني الروائية وأستاذة الدراسات العربية بجامعة أوتاوا الكندية، بدراسة 65 فيلما تم إنتاجها بين عامي 1939 و2001، كعينة اختارتها لتمثيل السينما المصرية في مراحلها المختلفة، وذلك في رسالتها للدكتوراه، التي صدرت باللغة الفرنسية عام 2011 بعنوان “الحارة في السينما المصرية: الحي الشعبي والهوية القومية”، وهو نفسه الكتاب الذي ترجمته رانيا فتحي وصدر مؤخرا ضمن إصدارات المركز القومي للترجمة بالقاهرة.

وكانت البداية في الكتاب من فيلم “العزيمة” لكمال سليم وهو أول فيلم واقعي، بحسب اتفاق معظم كتب السينما المصرية، هو ليس أول عمل سينمائي يتناول الحي الشعبي فقد سبقه في الظهور فيلم “المعلم بحبح” 1937، و”لاشين” 1939.

وقد اختارت التلمساني الحارة للدراسة لقناعتها بأن الحي الشعبي في الواقع وفي السينما مكان شديد الثراء تتنامى فيه صور وتمثلات عدة، وبرغم ذلك يتجاهله النقد مصريا وعالميا.

وقسمت المؤلفة الأفلام المعروضة إلى ثلاث مراحل تاريخية وفقا للمراحل السياسية الأساسية في مصر: المرحلة الأولى من 1939 إلى 1952، من فيلم “العزيمة” إخراج كمال سليم وحتى ثورة يوليو.

المرحلة الثانية تبدأ من 1954 حتى 1980، سنة اغتيال السادات، وهذه الفترة تضم أسماء مخرجين مثل صلاح أبوسيف الذي اشتهر بأفلامه الواقعية، ومنها ثلاثية نجيب محفوظ التي أخرجها حسن الإمام، مرورا بأفلام السبعينات مثل “السقا مات” و”حمام الملاطيلي” وغيرهما.

أما المرحلة الثالثة فتمتد من 1981 وبداية فترة تاريخية جديدة ومدرسة سينمائية مختلفة أطلق عليها الواقعية الجديدة حتى 2001 عام الانتهاء من الدراسة.

تنطلق التلمساني في الكتاب من مقولة شهيرة لبول كلي الذي يرى أن ”الفنان لا يصور المكان، بل يخلقه وينتجه”، ومفهوم الخلق هنا يرتبط بفكرة العمل المتفرد، فيبدو التمثيل السينمائي للمكان وكأنه نتاج للتفاعل بين فعلين، أولهما إبداعي يقوم على خلق المكان كبؤرة أسطورية لها خصوصيتها، والثاني إنتاجي يقوم على تصور المكان بوصفه وحدة فيزيقية وهندسية تخضع لقواعد حرفية صناعها وللتوظيف الأيديولوجي، ويقوم بصياغته كل من المخرج والكاتب، بمعنى أن إنتاج المكان السينمائي جماليا وفيزيقيا يعني المساهمة في تشكيل المخيلة الاجتماعية والوجدانية للمشاهد.

وتمثل الحارة وحدة مكانية ذات بعد مجازي، حيث تكتسب صيتها من أثر عام تأخذ منه اسمه وشهرته، ثم يجيء الفيلم ليستعير اسم الأثر والحي معا، فالجامع مثلا هو الأثر الوحيد المتكرر في معظم أفلام الحارة، بينما في أفلام قليلة نجد الحمام الشعبي، وبالرغم من ذلك تظهر واجهة الجامع فقط بينما الحمام لا تبدو له سمة مميزة من الخارج، إلا أن الأفلام تصفه بدقة من الداخل.

وفي ما يخص القاهرة فالحارة تمثل الوحدة الصغرى التي تلخص الحي، كما أنها تعتبر تكثيفا لمتاهة المدينة المتشعبة. وكلمة حارة مشتقة من الحيرة، وهي تمثل في الخطاب الاجتماعي الشائع تلك الكلمة السحرية التي تحدد هوية فئة اجتماعية معينة وتميزها عن فئة أخرى، والحارة تمثل مكانا اجتماعيا فقيرا ذا طابع شعبي، فالتحديث الذي شهدته القاهرة في القرن التاسع عشر جعل سكان الحارة مقتصرين على الطبقات الفقيرة، لذلك اقترنت كلمة حارة لدى الطبقة البرجوازية القاهرية بقدر من الاحتقار، وكان من نتائج ذلك نوع من الهوية المزدوجة القائمة على فكرة التمايز ومقاومة الآخر لدى الفئة الشعبية ذات الأصول الريفية وفئة أهل المدينة.

ويتميز الكتاب بالمقارنة بين صور الحارة في السينما المصرية ومثيلتها في سينمات وأفلام أخرى من الهند وإيران والبرازيل والمغرب، وتميز بين النزعة الميلودرامية الساذجة التي تهدف إلى استدرار العطف والشفقة وبين الأفلام الواقعية التي تقدم عنف وسلبيات الحي الشعبي دون أوهام ميلودرامية، وأكبر مثال على ذلك فيلم “جنة الشياطين”، أسامة فوزي، 1999، الذي تقدم فيه الحارة كمتاهة تؤكد على عبثية المكان والنفس البشرية دون أي تصورات أخلاقية مصطنعة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى