كلمات وإشارات -3- عبد القادر زمامة

7 - مع كتاب الله ..!
عند استقراء سور وآيات الكتاب العزيز، نجد أن هناك أكثر من خمسين وسبعمائة (750 ) أية من آياته البينات تدعو الإنسان الصالح المصلح، المتصرف في قسم من أقسام هذه الأرض، التي احتضنت وتحتضن مخلوقات متعددة ومتنوعة، إلى ضرورة اعتماد كل ما يمكن من طاقاته الحسية، ومداركه العقلية، وقدرته التجريبية، لاكتشاف أسرار وقوانين الطبيعة من أجل تسخيرها لمصلحة الإنسان، وما يحيط بالإنسان من : حيوان، ونبات، وجماد..!
وليس إفساد البيئة ومضايقة المخلوقات وتعكير صفو الحياة إلا انحرافا انجرت إلى الوقوع فيه - مع الأسف - أنانيات وجهالات اغترت بما وقع في حوزتها من إمكانيات مالية، وصناعية، دفعتها إلى تجاهل ضروريات ومصالح الآخرين، الشيء الذي جعلها تصير الوسائل غايات، وتسير بخطوات نحو إفساد مظاهر الطبيعة التي خلقها الباري سبحانه جميلة نظيفة أنيقة، تشرح الصدور، وتنشر السرور: ماء ونباتا وحيوانا وجمادا...!
والكلمات والجمل والتقارير التي تدور حول البيئة وإفسادها وتشويهها، والعبث بمظاهر الحياة الطبيعية : البرية والبحرية والجوية لا تعدو أن تكون تعبيرا عن واقع يعيش فيه الأقوياء والضعفاء والأقربون والأبعدون، ومنشأه - في الغالب - الإسراف والتبذير، وتعدي الحقوق المعقولة للانتفاع والتمتع، والتنمية والإنتاج.
وكتاب الله تعالى جاء في سوره وآياته ما فيه الخطاب العام الآمر بالاعتدال، الناهي عن التبذير والإسراف، وتعدي الحدود المعقولة في كل شيء.
- "ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ...". الإسراء: 27.
- "ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ". الأنعام: 141.
- "وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا" . النمل :14.
- "أفرايتم الماء الذي تشربون آنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ". الواقعة : 68-70.
ومعلوم "أصوليا" أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالخطاب
الإلهي لكل إنسان مكلف :
- يامره بفضيلة ، فيها خير ونفع نفسه، وخير ونفع الآخرين ...!
- وينهاه عن رذيلة، فيها شر وضرر نفسه، وشر وضرر الآخرين ...!
وتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا...

8 - بين القيروان وفاس ...!
من المألوف في التاريخ الحضاري والثقافي أن يجمع في اهتماماته بين مدينتين
أو عدة مدن يجمعها اتحاد الاتجاه، وتقارب الأهداف، وتعاون أصحاب هذه الأهداف ...!
وإذا كانت القيروان منذ تأسيسها على يد عقبة بن نافع تعتبر مركزا
للامتداد الإسلامي داخل القارة الإفريقية، فإن فاس منذ تأسيسها على يد المولى إدريس تعتبر مركز الإشعاع الحضاري والثقافي في نفس الاتجاه، ولمدة قرون، وكان أساتذة الدين والعلم في القيروان أول الأمر صحابة وتابعين ..! وقائمة أسمائهم طويلة الذيل في كتب التاريخ، وأضرحة بعضهم ما تزال معروفة إلى الآن ...! وكانت عاصمة الأغالبة، ثم العبيدين، ثم الصنهاجيين الزيريين.
وعندما تأسست مدينة فاس بعد القيروان بنحو قرن ونصف القرن، كانت على موعد مع لقاء خصب مفيد بين المغربيين والأندلسيين والقيروانيين، فتواصلت الكفاءات، وتعاونت الإرادات، وتداخلت التجارب، وتفتحت المواهب، عن كثير من الصناعات والفنون والعادات والمؤسسات الحضارية التي واكبت تاريخ المغرب طيلة قرون، رغم الرواجف والروادف، وتقلبات الأحوال السياسية والعمرانية التي انصهرت في ظلها عبقريات تركت بصماتها في المعالم والآثار إلى الآن...
ولم يمض على تأسيس فاس ثلاث وخمسون سنة حتى تأسست القرويين على يد السيدة أم البنين القيروانية، مفخرة نساء المغرب العربي.
وكما كان مسجد عقبة فى القيروان مركز المدينة، كذلك كانت القرويين مركز الحياة، والقلب النابض، تحيط بها من كل الجهات المرافق التجارية والصناعية والأسواق المتنوعة والمخازن المتعددة التي تشاهد كل يوم حركة اقتصادية في المبادلات والعرض والطلب، والأخذ والعطاء، وما يزال بعض ذلك مستمرا إلى الآن
ولم بكن من الغريب أن تتشابه الأسماء التي أطلقها القيروانيون والفاسيون على كثير من الأسواق والمصانع والمرافق الاقتصادية والاجتماعي ، والخطط التي جعلت لبناء البيوت للجماعات المتجانسة أو المتقاربة، وكانت ضرورات اقتصادية واجتماعية في تلك العصور تفرض ذلك، وإشعاعات القرويين العلمية بدأت مبكرة : إلا أن المادة التاريخية تعوزنا الآن لنطلع على مراحلها الأولى بتفصيل ...!
لكننا نجد شخصيات من القرويين ربطت بين فاس والقيروان عن طريق الرحلة في طلب العلم والاتصال بشيوخه، وتبادل الإفادات والاستفادات، ومن أقرب الأمثلة إلينا في هذا المقام :
1 - شخصية أبي ميمونة ، دراس بن إسماعيل، صاحب الضريح الشهير خارج باب فتوح وأسفل مقبرة "القباب"، وصاحب المسجد المضاف إليه بحي مصمودة، نجد هذا العالم الجليل يرحل من فاس، ويؤدي فريضة الحج، ويتصل بشيوخ المعرفة في المشرق، ويأخذ عنهم روايات وأسانيد شتى، ثم يمر على القيروان، فيعرف القيروانيون قيمته العلمية، ويأخذون عنه ما جمع من روايات وأسانيد مفيدة في ذلك العصر.
وكان في مقدمة الآخذين عنه من القيروانيين :
- ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة والنوادر.
- وأبو الحسن القابسي الفقيه المشهور والمؤلف المعروف.
2 - وكذلك شخصية القاضي عبد الله بن محسود الهواري، دفين خارج باب عجيسة أسفل قلة بني مرين.
فهذه الشخصية تركت إشعاعات في تاريخ مدينة فاس، لكونها تولت القضاء بنزاهة، وحكمة، وورع، ولكونها زارت مدينة القيروان، وأخذت العلم عن ابن أبي زيد القيرواني، ودرست عليه كتاب : "النوادر" المشهور في الفقه المالكي.
ويذكر المؤرخون : أن ابن أبي زيد القيرواني زار مدينة فاس ليتصل بأستاذه دراس بن إسماعيل، ولكنه وجده قد التحق بربه، فزار قبره وترحم عليه، صباح ثلاثة أيام...!
د) وشخصية أبي عمران الغفجومي من أسرة كانت شهيرة بفاس، ولها درب خاص يضاف إليها إلى الآن، وهو درب أبي حاج ...
هذه الشخصية العلمية خرجت من فاس، واستقر بها المقام في مدينة القيروان، وكان لها إشعاع علمي وسياسي معروف رددت أصداءه كتب التاريخ والطبقات، وارتبط اسم هذه الشخصية بتاريخ نشأة دولة المرابطين.
وقد كتب هذا القلم بحثا مدعما، بنصوص مخطوطة ومطبوعة كان عنوانه :
"أول مفكر في تأسيس دولة المرابطين أبو عمران الغفجومي".
وكان يحيى بن عمر الكدالي قد اتصل بأبي عمران في القيروان، وشكا إليه أحوال قبائل الصحراء إذ ذاك، وكان من نتائج ذلك أن تقدم عبد الله بن ياسين ليؤدي رسالته المعروفة التي فصلتها كتب التاريخ، حينما ذكرت قيام دولة المرابطين، وليس المقام مقام تفصيل عمل أبي عمران الغفجومي الفاسي، وعمل عبد الله بن ياسين الجزولي، وإذا كانت انتقامات الفاطميين من حلفائهم السابقين بني زيري الصنهاجيين قد أدت إلى تسليط الأعراب على مدينة القيروان أواسط القرن الخامس الهجري، فشوهوا معالمها، وأطفأوا جذوة إشعاعاتها، فإن مدينة فاس كانت في نفس القرن على موعد مع دولة المرابطين ويوسف بن تاشفين الذي كان له ولولده علي بن يوسف الأثر الواضح في معالم فاس العمرانية والاجتماعية والثقافية، وذلك بتوحيد العدوتين، ونصب القناطر، وإلغاء الحواجز، والتحكم في تقسيم مياه نهر فاس، لتأخذ المنازل والمساجد والحمامات والسقايات العمومية حظها الكافي منه، وبذلك اتسعت دائرة العمران في هذه المدينة، وتضاعف عدد سكانها، ونشأ بها من المؤسسات الاقتصادية والتجارية والدينية ما زاد في إشعاع هذه المدينة داخليا وخارجيا.
ويكفي أن نعلم أن الهيكل العام للقرويين الآن في البلاطات والأساكب والمحراب والمنبر هو من عمل المرابطين ... مع إضافات وتجديدات وقعت فيما بعد... ولها تاريخها المعروف ...
وفي عصر الموحدين نجد المؤرخ الشهير عبد الواحد المراكشي يعي كل الوعي قضية إشعاع القيروان وفاس في كتابه : "المعجب" ويكتب عن المدينتين
التاريخيتين فقرات ذهبية تذكر فتشكر، وقد كان معجبا بتاريخ المدينتين ودروهما كما نجد في نفس العصر مؤلف كتاب «الاستبصار» يضع المدينتين : القيروان وفاس في إطارهما الحقيقي من الإشعاع الحضاري والثقافي.
وفي بداية عصر بني مرين ينطلق الرحالة المغربي أبو عبد الله العبدري، وهذه المرة من حاحة، ويصل بعد قطع الفيافى والمسافات الشاسعة إلى مدينة القيروان، وهو متعطش إلى معالمها العلمية والحضارية، وأضرحة أعلامها وعلمائها، ويكتب وصفا حيا لمشاهداته هناك.
ويسعفه الحظ بالاتصال بمؤرخ القيروان أبي زيد الدباغ صاحب «معالم الإيمان». ويتخذه أستاذا يستفيد منه معلومات متنوعة، فيطلعه الأستاذ المذكور على فهارس وبرامج وكتب متعددة، ويهديه بعضها، ثم يجيزه إجازة علمية، كما يجيز ابنه محمدا الذي تركه في حاحة.
هذه بعض الإشعاعات التاريخية والثقافية والحضارية التي اشتركت فيها المدينتان التاريخيتان : فاس والقيروان.
والماضي المشترك بمعطياته المتنوعة خير رائد لنا في متابعة المسيرة، مسيرة الازدهار والتقدم والتواصل والتعاون لصالح المستقبل... !

9 - سر القطار المختوم ...:
يوم 15 مارس سنة 1917م، والحرب العالمية الأولى في مراحلها الأخيرة، تهاوى النظام القيصري في موسكو..! وضربت الحكومة الألمانية إذ ذاك الأسداس في الأخماس، وارتأت أن ترسل على جناح السرعة قطارا مختوما لا يعرف ما فيه إلا المعنيون بالأمر بعد قطع مآت الكيلومترات ...».
وفعلا شحن القطار، وقطع الخطوط الطويلة في السويد، وفلندة، إلى أن وصل إلى بطرسبرج في مساء يوم 16 أبريل 1917م... !
فماذا كان يحمل هذا القطار المختوم ؟
إنه كان يحمل لينين ورفاقه هدية من ألمانيا إلى روسيا...!
ويقول المؤرخون :
إن القطار المختوم وصل في الظرف المناسب، وأن لينين استولى على السلطة في يوم 7 نوفمبر 1917م.
وهذه مجرد "هدية " في قطار مختوم ...! في ظرف معلوم ...! لسبب مفهوم ...!

عن دعوة الحق
العدد 300 ربيع 1-ربيع 2 1414/ شتنبر -أكتوبر 1993

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى