قبعتك العسكرية فوق قامتك المنتصبة وسط الميدان؛ تبدو كهمزة شامخة بين حروف الإرتخاء، حلتك العسكرية التي لا تتغير بتوال الفصول، لازالت برونقها، بالتماع ثناياها، وبريق النسر القابض على نجومه فوق كتفيك، والأوسمة والنياشين قد التصقت بصدرك، كلها اكتست لوناً رمادياً، فاكسبها هيبةً ورهبة وغموضاً.
ولأنك صرت من مفردات المكان؛ المارة يرونك ولا يأبهون لوجودك، لوقفتك الساكنة، اعتادوا صمتك الصارم، وعيناك ترنو نحو الجنوب بترقب، رغم مسيرة النيل الهادئة؛ تبدوا قلقاً بشأن تقسيم منابعه، وتقليل حصة هبته، وسد وشيك البناء, جُمِع تمويله. أو لعلك تراقب الأقدمين واجسادهم اليابسة تتناقص واحداً تلو الأخر من القوالب الزجاجية، في تلك الخزينة الضخمة بميدان التحرير، من الذي اسماه التحرير! واي تحرير هذا وقد اصبح حكراً على رواده من ذوي اللحم البرونزي، دون السكان الأصليين للبلاد. وعلى الجبهة الأخرى من الميدان تجد مصلحة للجوازات ومركز لخدمة الأجانب ومقاهي راقية، وشركات سياحية، وفنادق عالمية، وجامعة ومطاعم أمريكية الأسماء. هناك تقبع جامعة للبلدان العربية في ركن قصي منزو، وقد تبناها اليتم.
انت وحدك تشعر بالخطر، تمسك منظارك الحربي بين يديك، كأنك متأهب لقتال عدو؛ لا يراه سواك، لا شك انك تبالغ؛ فأمامك بالجهة الأخرى؛ يقف شيخ جليل، في جلبابه الأزهري الفضفاض، امام المسجد الذي يحمل اسمه، تنظر اليه بلوم، تضمر له عتاب؛ لسلامة طويته التي اودت بالبلاد للهلاك، فقد سلمها طواعية لمن جثموا على نحرها ورجلها وزرعها مائة وخمسون عاماً، فزادوا من بؤسها، واكثرو فيها الفساد.
معذرة! رغم رؤيتك الجلية, وبصيرتك النفاذة, واستراتيجيتك المحكمة؛ لم تستطع ان ترى حافلة النقل العام الآتية من خلفك، التي أهلكها سائقها العجوز، حيث انهكه التعب, لم يبرح مقعده منذ ثلاثة عقود، ووسع كرسيه لصغيره الأبله، الذي يزاحم اباه، ويمسك عجلة القيادة رغماً عنه, بكل رعونه إقترب منك وهم ان يصدمك.استفاق أخيراً على استغاثة من احد الراكبين سُلبت نقوده، فأدار عجلة القيادة دورة كاملة، اثناء دوران الحافلة لتلحق برصيف المحطة؛ انزلقت الأياد المتعرقة الممسكة بالمقبض الصدئ الممتد بطول سقف الحافلة. انفلتت اياد الركاب المتشبثة بالباب الخلفي للحافلة، ارتموا فوق المارة السائرين. تبعثرت بضائع الباعة مفترشي الرصيف، الجوارب والسراويل، فور رؤيتهم لعربة البلدية التابعة لشرطة الإشغالات وسط الميدان.
محصل التذاكر. اخلى مقعده منزوع البطانة من خمسة أطفال في ملابسهم المدرسية، جلس وتنهد بارتياح، وخلع المنديل الكاروهات الباهت من ياقة سترته المشربة بالعرق، اكمل مسح جبينه وصلعته اللامعة، وصاح بأعلى صوته في الركاب “عبدالمنعم رياض .. والآخر”
ولأنك صرت من مفردات المكان؛ المارة يرونك ولا يأبهون لوجودك، لوقفتك الساكنة، اعتادوا صمتك الصارم، وعيناك ترنو نحو الجنوب بترقب، رغم مسيرة النيل الهادئة؛ تبدوا قلقاً بشأن تقسيم منابعه، وتقليل حصة هبته، وسد وشيك البناء, جُمِع تمويله. أو لعلك تراقب الأقدمين واجسادهم اليابسة تتناقص واحداً تلو الأخر من القوالب الزجاجية، في تلك الخزينة الضخمة بميدان التحرير، من الذي اسماه التحرير! واي تحرير هذا وقد اصبح حكراً على رواده من ذوي اللحم البرونزي، دون السكان الأصليين للبلاد. وعلى الجبهة الأخرى من الميدان تجد مصلحة للجوازات ومركز لخدمة الأجانب ومقاهي راقية، وشركات سياحية، وفنادق عالمية، وجامعة ومطاعم أمريكية الأسماء. هناك تقبع جامعة للبلدان العربية في ركن قصي منزو، وقد تبناها اليتم.
انت وحدك تشعر بالخطر، تمسك منظارك الحربي بين يديك، كأنك متأهب لقتال عدو؛ لا يراه سواك، لا شك انك تبالغ؛ فأمامك بالجهة الأخرى؛ يقف شيخ جليل، في جلبابه الأزهري الفضفاض، امام المسجد الذي يحمل اسمه، تنظر اليه بلوم، تضمر له عتاب؛ لسلامة طويته التي اودت بالبلاد للهلاك، فقد سلمها طواعية لمن جثموا على نحرها ورجلها وزرعها مائة وخمسون عاماً، فزادوا من بؤسها، واكثرو فيها الفساد.
معذرة! رغم رؤيتك الجلية, وبصيرتك النفاذة, واستراتيجيتك المحكمة؛ لم تستطع ان ترى حافلة النقل العام الآتية من خلفك، التي أهلكها سائقها العجوز، حيث انهكه التعب, لم يبرح مقعده منذ ثلاثة عقود، ووسع كرسيه لصغيره الأبله، الذي يزاحم اباه، ويمسك عجلة القيادة رغماً عنه, بكل رعونه إقترب منك وهم ان يصدمك.استفاق أخيراً على استغاثة من احد الراكبين سُلبت نقوده، فأدار عجلة القيادة دورة كاملة، اثناء دوران الحافلة لتلحق برصيف المحطة؛ انزلقت الأياد المتعرقة الممسكة بالمقبض الصدئ الممتد بطول سقف الحافلة. انفلتت اياد الركاب المتشبثة بالباب الخلفي للحافلة، ارتموا فوق المارة السائرين. تبعثرت بضائع الباعة مفترشي الرصيف، الجوارب والسراويل، فور رؤيتهم لعربة البلدية التابعة لشرطة الإشغالات وسط الميدان.
محصل التذاكر. اخلى مقعده منزوع البطانة من خمسة أطفال في ملابسهم المدرسية، جلس وتنهد بارتياح، وخلع المنديل الكاروهات الباهت من ياقة سترته المشربة بالعرق، اكمل مسح جبينه وصلعته اللامعة، وصاح بأعلى صوته في الركاب “عبدالمنعم رياض .. والآخر”