عبد الرحمن الشرقاوي - مسألة شعور

1
كنت في القاهرة منذ عشرة أعوام شابا غنيا وحيدا وكنت قد انتهيت من دراستي وشيكا وفرغت لشبابي أحياه بعد ضني طويل في الدراسة. وأنت تعرف هذه الحياة الباهرة من الفتوة والكآبة والبطالة.. وتعرف كيف ينبعث من غمارها من حيرة، وقلق، ومشاعر حزينة أخري. فربما استولي عليك في ساعة تعب بعد سهر ليلة واحدة كاملة مثلا - إحساس مبرح يشبه العقيدة الثابتة بأنك إنما تبعثر أياما زاهرة من عمر لا تعلم مداه وربما لم يكن أكثر من شهور. وإذا بك تكتشف فجأة أنك أخطأت الطريق.. وأن ميولك واستعدادك وملكاتك، وأنت كلك، قد خلقت لتؤدي في الحياة، وبعد الموت، دورا، أهم وأعمق وأوسع مما تفرضه عليك شهادتك الدراسية...
وقد كان لهذه المشاعر أصول في نفسي .. فقد كنت منذ الصبا بميول أدبية جارفة يجري مني في الدماء. وكانت أحلامي الناعمة وأنا غلام، ثم وأنا فتي .. كانت أحلام أن أكون كاتبا كبيرا يحسن ترجمة المشاعر إلي كلام جميل.. ويملك ويسيطر بقلمه! ومع ذلك فلست أدر في أي وقت من الضعف والإذعان لرغبة أهلي، اقتنعت بأن لي كفاءة محام ممتاز.. فهكذا كانوا يتحدثون إلي ويتحدث معارفي عندما أكاشفهم برغبتي في دراسة الآداب معقبين دائما بأن شهادة الحقوق سبيل ميسرإلي مناصب الدولة، وإلي الشهرة، والمال.. وهي في النهاية أعلي قيمة عند الناس جميعا من شهادة الآداب، وسأستطيع علي أي حال بهذه الشهادة أن أكون أديبا كبيرا أو أي شيء آخر كبير..
وتلفت ذات صباح فإذا أنا أحمل ليسانس الحقوق!
وإذا أنا أقبل علي شبابي أبعثره في المقاهي، وفي الحسرة علي ما ضاع من أيامي في دراسة لم أحبها في يوم ما، ثم أعود لأمسك بخناق شبابي - مترحما علي ما فات منه - فاجعله يقرأ، ويكتب، ويعشق النساء.. وبدأت أعرف سهر الليالي أسود الصفحات، وأستنشق غبار الكتاب، وأنا إلي ذلك غارق لأذني في الصخب والمتاع.
ولأنا في الخامسة والعشرين، أسير بحملي من ليسانس الحقوق، وأحلام الشهرة والسطوة، وقد تساقطت من يدي براعم الثامنة عشر وزهور العشرين بكل حيويتها الخصبة، إذا بي في الثلاثين وقد بدأت الشعرات البيض تدب مني في الشعرات السود وأيامي مازالت تمر متشابهة : كتب وخمر وأحاديث وضحك وكتابة ونساء، ولم أصنع بعد شيئا مما يصنعه الآخرون.. فلم يثبت قدمي في شيء ما حتي الأدب.. وليس لي مهنة، ولا كسب من عمل، ولا مجد.. ثم ليس لي بيت فأنا مشرد لم أقتن بعد زوجة كما فعل غيري ولم أنجب أولادا.. ليس عندي علي الإطلاق شيء.. أي شيء صغير جميل.. كحليلة، أو طفل.. فأشعر أنني حقا مخلوق بغيض .
وكنت أقطن في حي نظيف في شقة رحيبة، وتثيرني لأنها فيها الأصوات المنبعثة أبدا من المساكن المجاورة الحافلة بالأولاد والآباء والأمهات.. الكل حولي سعيد بجو الأسرة كل من في المساكن الملاصقة بي والمواجهة لي، والنابضة في كل حين بحلاوة وحرارة الضجيج والزحام.. وأنا بعد بينهم، في مسكن كبير طويل عريض فاخر، لا ضجيج فيه ولا زحام، ولا أحد علي الإطلاق إلا أنا، والطاهي الذي أغيره مرة كل اسبوع، والكتب الخرساء، والمجلات، خصوصا مجلات الدرجة الثانية التي كنت أنشر في بعضها أحيانا، وامرأة.. نعم وأخيرا.. امرأة.. من نساء المهنة - غالبا - اشتري منها دفء ليلة وربما متاع ليلتين، وأنصرف عنها، ثم تنصرف عني هي الأخري، إلي مشتر آخر أقل سأما.. وأبدأ البحث من جديد عن أخري أكثر خصوبة ونضارة.. ثم.. ثم، ليس لي مع الأسف صديقة دائمة، ولا صديق.. ففي تيار تلك الحياة لا يقف المرء أبدا ليعمر قلبه أو نفسه بشيء كبير كالصداقة، أو الحب!
وكنت هكذا أعالج حياة كهل أعذب إذ جاء عيد ميلادي يدق علي بابي بالثالثة والثلاثين فلم أجد بي الشغف القديم إلي اللهو مع رجال، أو نساء، أصنع لنفسي بهم وبالمال الذي أنفقه عليهم- نشوة ومسرة.. - ولم أجد ليلتها أني قد فعلت ما أكافيء نفسي عليه، فلم أحمل أحدا إلي فراشي، وأغلقت علي باب مسكني بعد انصراف الطاهي، ورفعت سماعة التليفون، ودخلت غرفة مكتبي، وأغلقت بابها علي، وقررت أن أظل طوال الليل أقرأ أو أكتب في برودة الوحدة والخراب!
ومرت ساعة، وأنا إلي مكتبي فأحسست بعطش.. وقمت بنفسي لأبحث عن الكوب فلم أجده فتضايقت قليلا وقبضت الماء في يدي وطفقت أشربه تماما كما كنا نفعل - بهجين - ونحن صبية في المدرسة الابتدائية، سوي أني لم أكن مبتهجا هذه المرة.. وعدت إلي المكتب متأففا لاعنا الطاهي الذي انصرف.. وبدأت أحس الحاجة إلي أشياء كثيرة.. هذه الأشياء التي نحتاج دائما إليها ونحن نعمل، ونريدها مجهزة من غير مجهود منا ولا حتي حركة.. قهوة.. شاي.. شيء ساخن.. فاكهة.. ماء.. العديد من هذه المطالب التافهة التي تصبح أحيانا جوهرية خصوصا عندما لا نجد يدا تحملها إلينا.. وقد تعوقنا إذ ذاك عن إنجاز أعمال مهمة.. وربما كبيرة.
وقمت من علي المكتب وأشعلت سيجارة.. وحاولت أن أصنع لنفسي قهوة.. فكانت ماء ساخنا لاذعا، وحلوا أيضا.. وعلي أني وضعت البن بيدي في الإناء فلست أدري كيف لم يستقر فيه.. وعدت إلي المكتب أفتح كتابا غير الذي كنت أقرأه، ثم طويته، وقمت لأصنع شايا، وهناك، في المطبخ، أوشكت أن أحترق . فعدت من جديد إلي المكتب منزعجا من أن يكون ذلك اليوم عيد ميلاد أخير لي، ومازالت في الرأس مني أشياء! فأشعلت سيجارة وفتحت كتابا آخر، ولكني قذفت به بعيدا.. ثم كتبت أوراقا وعدت فمزقتها ثم وثبت أجمعها وبيدي سيجارة سادسة.. ولكني أحرقتها.. وأمسكت بالقلم لأكتب. القلم في يدي والأفكار في رأسي وأنا مع ذلك لا أستطيع أن أكتب كلمة واحدة..
وبدأت أتمشي في المسكن الرحيب الخاوي.. وقد ازداد ظمأي إلي شيء ساخن لذيذ، وهممت أن أستدعي خادم جاري »عبدالصبور »‬ ، غير أن الساعة كانت قد أشرفت علي الثانية عشرة.. وخشيت أن أزعج هؤلاء الجيران الأعزاء من نومهم، ثم أن في بيت الرجل فتاة جميلة وامرأة شابة وفي هذا الحي لا تنام الظنون عندما ينام أهلها بل تذهب دائما إلي بعيد، وعدت أملأ مسكني الفسيح الخالي بدبيب قدم متبرمة.. متعجبا أن يظل هذا المكان إلي اليوم لي ولوحدتي أو مباذلي.. فلماذا لم أجلب فيه يدا حبيبة تصنع لي ما أطلب وأنا أعمل بدلا من التعرض لمرارة القهوة وحريق الشاي ولماذا كتبت علي نفسي أن أظل فيه خمس سنين بلا وجه، ولا صوت، ولا حرارة، ولا فتوة بأسرها، تشاركني النهار والليل، أستريح إليها عندما أتعب.. وكم كنت أتعب!
وفي هذا الظمأ إلي الأمن والمودة، وفي هذا الإحساس المزعج بالوحدة والخواء، وأنا سائر أسمع صدي قدمي في أرض المسكن الصامت، ورجع طفل يبكي في الليل فيسكته حضن أمه.. في هذا القلق، وهذه الحسرة، واللهفة - قررت أن أهجع وأستريح وأن أجعل لي حياة ناعمة خصبة.. سريعا، سريعا جدا..
وهكذا قررت أن أتزوج!

2
كان جاري ‮»‬عبدالصبور » موظفا متوسط الحال في شركة كبيرة، بمرتب حسن، ومزايا مالية، ومع ذلك يسخط علي الدنيا.. لبث موظفا في الحكومة بضع سنين، ثم التحق بالشركة ضاربا بوظيفة الحكومة لأنه كما يقول لم يكن يقبل تحكم الرؤساء فيه.. وكان دائم الحديث عن قصة تركه الحكومة واشتغاله في الشركة التي نال منها مرتبا مضاعفا سوي المكافآت ويعقب علي ذلك كله بأن مرؤوسيه أصبحوا الآن في الدرجة السادسة لأنهم قبلوا الهوان.. أما هو، فقد حفظ كبرياءه وكرامته ، فإنه وإن لم يكن له هذا المركز الأدبي فإن له المرتب المضاعف، وله كرامة وكبرياء وله الحرية في لعن أي إنسان وأي شيء حتي الزمان.. وكان دائما يلعن الزمان.. لا أدري لماذا؟ وكم رأيته من شرفتي وهو يعود إلي بيته.......... يحمل في يده عصاه أو شمسية و صحيفة يومية، ويحتضن شيئا ملفوفاً، يتدلي منه دائما شيء أخضر، فجل، جرجير، كرات.. ثم يلتفت يمنة ويسرة، ويبصق يمنة ويسرة، ويمسح شاربه بظهر يده، فيقع منه علي الأرض شيء، العصا.. حزمة فجل، بعض البلح أو البرتقال، أو أي شيء مما يحمله وينحني ليلتقطه فيقع الباقي.. كم رأيته في موكبه العجيب هذا فعجبت له لماذا يلعن الزمان وهو يأوي بيتا فيه خير ما في الإنسانية من جمال فاستطاع أن يتزوج سيدة كسنية، ثم.. أن ينجب فتاة كعزيزة!
وسنية سيدة في الخامسة والثلاثين فاخرة عامرة، منيفة حقا.. امرأة بتقاطيع حادة فاتنة بقوام ناضج فوار، وبشرة ناصعة رقراقة! وإلي ذلك ربة منزل تدير بيتها بحزم عجيب، فلم أكن وأنا أقرب الجيران إليهم أسمع في البيت صوتا إلا صوتها.. هي تأمر.. هي تشتم.. هي تصرخ.. هي تضحك.. هي تحطم دائما هي.. هي! وكنت إذا سمعت صوت رجل أو ضحك السيدة أيقنت أن في البيت ضيفا، وكم كان بالبيت من ضيوف لهم وحدهم حق رفع الصوت، وحق التمتع بضحك ربة البيت!
وقد كنت كثير التردد علي هذا البيت، والحقيقة أنني لا أذكر كيف دخلته أول مرة، ولكننا كجيران فلابد أن تنشأ علاقة من نوع ما بين الجيران، وخصوصا عندما يكون الجار فتي متعلم ظاهر الغني، والجار الآخر أسرة بفتاة جميلة وسيدة فاتنة! علي أية حال لقد وجدت نفسي كثير التردد علي المنزل في الصباح قبل أن أنزل، أو عندما أمل المقام في مسكني، وفي المساء عند العودة المبكرة، أو الخروج إلي سهراتي.
وفجأة وجدت (عبدالصبور) يشكو إلي همه، ويسب عندي دهره ويثق بي تماما وفي الحقيقة، لقد كنت حسن الخلق جدا عند الرجل إذ كنت حسن الإصغاء إليه وقد كان هذا مهما جدا عنده ويعنيه أكثر من أي شيء آخر، وكان كافيا أيضا لأن يعتبرني مثلا للشباب!
ولم يخرج حديثه أبدا عن لعن ما هو كائن والترحم علي ما فات، ما فات منه، وما لم أره أنا أبدا وعن ذكائه الخارق وقوة ملاحظته واحتفاظه بكبريائه.. وكان ذلك سر تركه الحكومة.. وربما قطعت الزوجة حديثه باستخفاف وبدأت تتحدث عن فيلم سينمائي أو فستان شهدته علي ممثلة تمثل دور فتاة في السادسة عشرة وربما أوقفت الحديث لتعرف رأيي مثلا في فستان جديد فاتن غالبا، يظهر محاسن جسمها المليء بالنداءات.. ولكن لم أكن أملك إلا الاعجاب المؤدب وإلا النظر إلي عبد الصبور الذي يتلقي من زوجته في أمثال هذه المناسبات سخرية صغيرة حين يعترض ، فإذا اندفع متحمسا يلقي إليها بآخر موعظة سمعها من خطيب(الجمعة) في مسجد أي سيد من أسياده الكثيرين فصفعة خفيفة وكلمة دلال!
وهذا يحدث كلما كان عند السيدة زائر وقد كان كل الزوار أقارب لها إلا أنا.. وقد ظللت انتظر دوري لأصبح قريبا.. ولكني كرهت ذلك عندما شكا إلي عبد الصبور امو سخف هؤلاء الأقارب وقلة حيائهم وكان يحدث أحيانا أن يتركه يتركه أحدهم ساخرا به، وهو يتحدث في شيء مهم جدا بالنسبة له.. كذكريات وظيفة الحكومة أو لعن الزمان، أو طريقة اختياره الفجل والبلح.. ثم ينادي علي الزوجة باسم مدلل.. وقد كان يثقل علي أحيانا ألا تهتم المرأة باحترام زوجها، وأن تشجع أحدا علي ذلك . وقد هممت مرة بأن أحدثها في هذا ولكني راجعت نفسي، فما ِشأني أنا: إن لها زوجا يسعه أن يغار عليها وأن يحدثها فذ هذا.. فربما كان اندفاعه وارتفاع صوت الجار في هذا الصدد أجدي وأولي من أحاديث الفجل وذكريات الدواوين والحسرة علي الزمان الذاهب. ونصحني أنا بأن أهتم بصحتي فلا أسهر، وبشئون ديني فأصلي، وأن أحفظ جسدي من نار الآخرة، فهو خسارة في النار!
وقد كدت مرة أن أنصحه بطلاقها عندما جاء أحد أقاربها وأسر إليها كلاما ونحن جلوس، فقامت ورجعت في قمة زينتها، ودعتني بأدب جم إلي الخروج معها، في عربة ذلك القريب لحضور سهرة خيرية أسمع فيها مغنية كبيرة.. حتي الفجر وعندما اعترض الزوج علي خروجها سخر به قريبها وقالت هي له أنه علي الرغم من نصائحه، فهي لا تستطيع أن تظل معه الليل كله، والليالي كلها وجها لوجه، ولا تري الدنيا وأنه ليس (عدلا) أن يظلمها إلي ذلك الحد، فخرجت لتري الدنيا قبل أن تسمع رأيه. في الإنسانية والعدل وذراعها في ذراع قريبها، كدت أن أنصحه بطلاقها في تلك الليلة وأنا أعاني ألما يخالطه الازدراء (...) ولكني عدت أقول لنفسي أنني أحيانا أصنع مثل ما صنع ذلك القريب مع نسوة أخريات.
ولقد كانت حياتي عابثة.. وكنت أحمل إلي بيتي نساء.. وكنت أخرج لصخب طويل وصعلكة وعربدة.. ولكني مع ذلك، ولست أدري كيف تم هذا، لم أفكر في أن أنشيء علاقة بهذه السيدة وقد ترامت إلي أقاويل الحي بأن لها علاقة بقريبها ذلك الذي كانت تخرج معه في عربته كثيرا، وتسخر من زوجها وتصفعه أمامه رداً علي نصائحه الدينية، وكل ذلك لا يعنيني.. وقد كانت علي أي حال لطيفة وكانت تعطيني صورة من حياة طبقة وحسبي هذا منها ! وكان زوجها يثق بي، ومهما يكن عبثي فلم أكن أبداً أستطيع أن أعبث بثقة إنسان بي.
وهي علي أية حال - ومهما تكن جميلة فاتنة - فلن تفوق الأخريات.. ولن تكون إلي الحد الذي يسمح لي بإهدار حقوق عبدالصبور أمو وقد قيل لي مرة أنني الوحيد الذي يحترم حقوق عبدالصبور أمو من بين الشبان الذين يدخلون البيت. فشعرت بأنني استطعت ما لم يستطعه غيري. وكنت أسمع أنها شديدة الغيرة من عزيزة ، فهي تعلم أنها جميلة.، ولهذا لم تسمح لها يوما بمقابلة أحد الزائرين من أقاربها، وكانت تهتم بأن تظل عزيزة بملابس عادية وقليلة وتزعج عبد الصبور وتنكد عيشته لو حمل يوما لعزيزة فستانا. وكانت عزيزة تقطع حياتها في البيت وحيدة تقرأ الروايات، وتبكي، وتنتظر الخلاص ! وفي هذه السخافات كنت أقطع معظم الوقت الذي أقضيه في البيت.
كان عبد الصبور امو يطرح علي مشاكله إلي جوار معاملة زوجته له وإلي جوار شغفة العظيم بها.. سوء معاملتها لابنته وكانت ابنته عزيزة فتاة عزيزة عليه وحيدة فهي البقية الباقية من زوجته الأولي المرحومة .. ابنة خالته، وهي فوق كل هذا ذات ملامح مشابهة جدا لجدتها أمه العزيزة التي يقدس ذكراها أكثر من أي شيء آخر.
وكنت أحس بضيق لا حد له وأنا أسمع كل هذه الأحاديثوأيضا بعطف حزين لا ينتهي علي الفتاة الوحيدة، التي تعاني عذاب زوجة أبيها.. وقد كانت وحيدة حقا، فأبوها يخرج نصف النهار إلي عمله.. ونصفه الآخر غالبا إلي المقهي وليس لها صديقة.. أو قريبة.. فحتي »‬سواد» ابنة عمها وزميلتها القديمة في المدرسة لم تعد تزورها بعدما رأت تضييق وسخف »‬سنية» ست البيت.. لم يكن لها مؤنس في البيت علي الإطلاق.. فزوجة أبيها تحتفظ برشاقتها ولم تنجب غير طفل واحد كان بهجة أخته لأبيه ولكن مع ذلك كان مصدر مضايقات لها خاصة عندما تعطف عليه.. تقبله وتضمه بعنف إذ كانت تخشي عليه منها ..تسخف هذا الحنان الذي تعتبره زيف فتيات فاسدات! ..
.وكانت عزيزة في الثامنة عشرة.. في صباحة وحرارة هذا السن ذكية ، جميلة.. عذبة.. فيها براءة الطالبات الصغيرات وكانت عيناها الضيقتان تمتلئان حرارة بحرارة واشتعال.. ومعني غامضا.. وأحزان! ولكنها لم تكن طلقة ولا مرحة كانت متلعثمة غالبا.. ومع ذلك كنت إذا استرسلت معها في الحديث بالقدر الذي يسمح به خوفها من زوجة أبيها أو احترامها لأبيها أجد لها ملاحظات صغيرة ولكنها بارعة حقا.. وكم كنت أحس ريح الفضيلة من هذه الفتاة.. وأرثي لها في أعماقي لأنها وحيدة.. وكانت تحدثني في الأدب وفيما أكتب وكنت أعطيتها بعض الكتب الحقيقية وأنصحها بقراءتها وينصحها بذلك أبوها.. ثم أنصرف وعيناها ترسلان بنظرة حزينة وما ألقي بنفسي في غمار الحياة القاهرية حتي تمحي صورتها الحزينة بنظرتها التائهة اللهيفة! وقد شهدت أنا أول وثبة أنثوتها علي الدنيا.. فقد عرفت أباها وهي في الثالثة عشر تلميذة في مدرسة فرنسية في ذلك الحي وظلت أشهدها بعد ذلك وهي تنمو إلي شبابها وحيدة قلقة وحجبت في البيت خوف الفتنة كما قال أبوها وظللت لخمسة أعوام طوال أتألم لها قليلا بعد أن أترك البيت.. وتختفي صورتها مني في الخمر والضحكات والنساء، وأعطيها كتبا وأسمع تعليقاتها المتحمسة لقصصي.. وطوال هذه المدة لم أكن قد خلوت بها أبدا.. ولا ضغطت علي يديها.. وكنت فقط قد لاحظت نظراتها الحزينة إلي فأدرك وحدتها وشقاءها.

3
تلك هي الأسرة التي كانت تواجهني في المسكن، في نفس العمارة، لا يفصل بيني وبينها إلا متران من بلاط السلم وعلي أية حال فقد كان لنا شرفتان متقاربتان جدا، إلي حد أن عبد الصبور امو حين يجلس في شرفته في الشتاء بعد غذائه وقبل خروجه، كان يستطيع أن يفضي إلي بأشياء خطيرة.. كأسرار الفراش وهو يفتل شاربه، كقائد فتح لتوه مدينة منيعة.
وقد لبثت نحو خمس سنين وعلاقتي بالأسرة مودة للرجل، وتوجيه للفتاة، وعطف خفيف حزين عليها، وتحيات رسمية للسيدة.. علي أن الأسرة كانت تجاملني جدا، فكنت أجد خادمها تحت تصرفي عندما ينصرف الطاهي أو يصرف. ولست أدري كيف كان يعرف سريعاً عني أني وحيد.. ولم يخطر لي مرة أن أسأله من الذي أرسله، وإن كان يقول دائما »‬أنها الست».. وسألته مرة عن غير قصد الست فقال أنها الست الصغيرة ولم أكن أعلق علي هذا عادة.. وجاءت ربة البيت سنية ذات صباح بثوب منسدل وشعر متهدل، وابتسامة علي الثغر، وبارتجافة في الصدر.. جاءت تسألني أن تعد لي طعاما بما أني لم استأجر طاهيا بعد، وخادمها قد سافر إلي أهله، ولكني اعتذرت لها - شاكراً اهتمامها- اعتذرت بأنني سأتغذي في الخارج، وعندما كانت تحدثني مسندة يدها إلي بابي(...) أكلمها متحرجا وجدت شبحا أنثويا يهتز خلف باب مسكنها.. وقد لصقت أذنه بزيق مفتوح.. لقد كانت عزيزة تسمع وتري وتنتظر، وترتجف.. غير أني كنت أمينا جدا - كما قلت - علي حقوق عبدالصبور أمو، رغم إلحاح هذه الحقوق، وإغرائها بالكثير..
لم يكن بيني وبين هذه الأسرة أكثر من ذلك.. وما أقل ذلك.. ثم كانت تلك الليلة.. ليلة عيد ميلادي الذي أحببته في بيتي وحيدا - بالقراءة والكتابة والضجر.. ثم .. بالعزم الأكيد علي الزواج.. وحقا لقد كانت ليلة ميلاد!
ذلك أني بعد أن قررت أن أتزوج سريعا، بدأت استعرض في ذهني الفتاة الصالحة.. وكنت أعرف كثيرات.. فلم أعثر بواحدة! فرجعت أقنع نفسي بأرملة أو مطلقة شابة فهن أقدر الإناث وكنت أيضا أعرف منهن كثيرات.. ولكني رجعت سريعا ورفضت المبدأ نفسه، فأنا في حاجة إلي فتاة جديدة نضيرة.. ونحن فوق الثلاثين نحب كثيرا الفتيات الصغيرات.. واشترطت شرطاً قاسياً حقاً.. فلكي أكون سعيدا يجب أن أجد فتاة صغيرة أحبها.. وتحبني.. وما أصعب هذا!
وبدأت رأسي تدور من جديد.. أحسست الحاجة الجارفة إلي فنجان شاي.. وفي الليل البارد العميق والعاصفة تزأر في الخارج قرعت باب شقة جيراني الأعزاء.. وعدت فتذكرت أن هذا غير لائق فتشنج في حلقي شيء، فسعلت، ودرت أدخل بابي سكني المفتوح.. وكم كان كل شيء حريا بأن يتغير لو لم يوقفني السعال قليلا، قبل أن أعود إلي مسكني وأغلق الباب علي.. وأنام!
ولقدمي علي عتبة بابي إذا بحركة الباب المقابل المفتوح في هدوء، واستراحة تردني إليه فإذا عزيزة في ثوب أبيض فاتن تندفع إلي بصوت عميق حزين ..... متسائلة.. إن كنت هو أنا فقلت لها بهمس.. وبدأت اشكو إليها فاندفعت تقول لي انتظرني..
إنها تنتظرني منذ وقت طويل.. كل ليلة منذ خمسة أعوام.. متأكدة من أنني سأقرع الباب يوما!
كانت تلهث كطائر صغير متعب.. وجدت يدها تلتهب في يدي وهي تقول هذا الكلام بصوتها المتهدج الحار !ولم أدر ماذا أفعل ! أو ماذا أقول! وكانت كالمتفاخ تزفر وتختلج.. وتقدمت مني خطوة وهي ترتجف.. حتي كادت تلتصق بي.. ثم عقدت يديها علي يدي.. ووضعتهما مع سرعة علي صدرها الصاعد الهابط.. وخطفت يدي وألصقتها بصدرها الساخن المنبهر.. وعيناها ترسلان وميضا.. وقلبها يدق، وفمها بشفتيه الغليظتين الفاتنتين، يرتجف وتتناثر عليه ألفاظ الحب والصبر الطويل.. فوجدت شيئا ساخنا يغمرني.. وكان موج نبع من أعماق نفسي ووقف في حلقي.. وكأن شيئا انبثق من النسيان قويا جارفا، فارتعشت واضطرمت، وشعرت كأن عزيزة قد خلقت فقط لأحبها أنا وحدي.. وعجبت لماذا لم أفكر في عزيزة.. وكانت العاصفة مازالت تغمغم من الخارج.. والظلام البارد يرتجف من حولي.وشيء في المكان مخيف ويخيفها هي بصفة خاصة، فأحسست بها تدفن كيانها، كأنما تهرب من الخوف والظلام.. ووضعت فمي علي فمها فلهثت.. .. وانتشت وعلت دقات صدرها وأوشكت أن تسقط مني علي الأرض!
وأخذتها إلي مسكني بين ذراعي وأنا أكرر لنفسي بصوت تسمعه أنني أحبها حقا.. وأنني لم أكن أحلم بحقيقة عواطفي إلا اليوم.. وأنني سأتزوجها.. سأتزوجها حتما.. من الغد، عندما يصحو أبوها لو أن الوقت كان نهارا كنت خطبتها وانتهي الأمر!
وعلي فراشي قبلتها ألف قبلة.. في كل مكان.. وهي متشبثة بي في نصف إغماء تبكي وتشهق وتخاف وتضمني في عنف . وحين وجدت نفسها لم تعد عذراء بعد نحبت كالأموات فأوشك قلبها أن يقف وانهمرت من عينيها دموع غزيرة جدا وهي مطأطئة الرأس... وأخذت رأسها بين يدي وطفقت أرشف دموعها وأطمئنها أنني في الغد في الصباح الباكر جدا سأخطبها..وسريعا سنتزوج.. فهي الحبيية... والزوجة.. ثم قبلت عنقها.. وتزوجنا مرة أخري.. وثالثة.. بين الدموع والتنهدات..
وحين كانت تنصرف في آخر الليل إلي مسكنها قبلتها في فمها بكل حرارة حبي الذي أحسبه إذ ذاك طوفانا.. ولما أفاقت من القبلة التي أودعتها هي كل لواعج حبها المكتوم المضطرم.. شعرت بدموعها.. فعدت أؤكد لها أنها ستزف إلي فعلا في أسبوع علي الأكثر!
ولما مالت رأسها وجدتها تهوي علي قدمي متوسلة ألا أتأخر دقيقة واحدة يجب في الصباح الباكر جدا وإلا.... وانحنيت عليها وانهضتها برفق ووجد.. وأسندتها إلي باب مسكنها الذي كان ما يزال مفتوحا، ثم قبلت يدها وانصرفت ، وأنا أسمع خلف بابها زفراتها العميقة.
وعدت إلي مسكني، وأنا سعيد، وقد تفتحت أمامي عوالم ألقة من الفنون والسحر والشباب.. فهذه أخيرا فتاة أحبها قلبي ، أحبها بلا ريب بكل قوة الثلاثة والثلاثين وإن كنت قد شعرت بذلك فجأة. وتحبني هي.. وقد بدأت أذكر علامات هذا الحب.. الذي لم أكن قد فهمته وقدرته بعد.... فكم كنت قاسيا عندما غفلت حب هذه الأنثي الصغيرة في سن الأحلام بالفارس الذي يخطف عروسه إلي غابة نائية، علي حصان فتي يقتحم به الليل والريح !! وسأكفر عن قسوتي القديمة.. فأحمل هذا الحنان والود والحب والدفء والأحلام التي بيني وبين عزيزة.... فكنت أسعد مخلوق حقا.. وأخذت أفكر فيما سأقول لعبدالصبور أمو.. علي أي حال لابد أن أحدثه قبل أن ينزل إلي عمله ليطمأن الخوف الذي في قلب عروسي.. وفي المساء نتفق علي التفاصيل وينتهي الأمر في أسبوع وأفرغ أنا لأعمالي الأدبية الهائلة.. هكذا ظللت أفكر في سعادة غامضة.. وقد قررت ألا أنام منذ سنين.

4
في الصباح استيقظت باسما - لأول مرة -علي ضوء النهار يملأ غرفتي فوثبت من علي فراشي... أتهيأ للخروج.. وعلي أني خفت النظر في الساعة فقد لمحتها خاطفة فإذا بها العاشرة.. وشعرت بضيق وحرج.. لقد نزل عبدالصبور امو.. ولابد أن عزيزة في أشد حالات الألم، وخيبة الأمل.. فهذا الصنف الوحيد الحزين من الفتيات المحميات سريع اليأس!
ورأيت أن أذهب إلي أبيها في مقر (الشركة).. وستكون مفاجأة سارة جداً لها علي مائدة الغذاء.. ومررت بها قبل أن أذهب لأطمئنها.. وأجلست في غرفة الاستقبال، وكنت متفتحا جدا صافي الذهن بعد أن اهتديت إلي هذا الحل! ودخلت علي (سنية) في قميص نوم ينهدل علي جسمها السائح، وكان نحرها ناصعا، والثوب متعرج عنه، ضيق علي الخصر في فتنة وكنت علي استعداد لمداعبة أي إنسان وأي شيء.. فوجدت نفسي أضحك معها ولأول مرة، وأقبلت هي مسرورة علي هذا الحديث، ورنت الضحكات في البيت.. ومرت بي في هذه الأثناء عزيزة شاحبة.. مطأطأة الرأس! وطلبتها فاعتذرت سنية بأنها متعبة جدا و »‬بأنها في الفراش» فقلت مازحا انني قد رأيتها تمر الآن.. ونادتها.. فلم تجب.. وعادت سنية تضحك معيّ، ومني! وأغلقت باب الغرفة علينا.. وعادت تضحك وأضحك.. ولكنني فقد كانت هذه أول زيارة أزور البيت في غيبة عبدالصبور امو.. وعلقت سنية علي هذا، وضحكت.. ثم فتحت الباب وخرجت مسرعا فقد كان يجب علي أن أذهب إلي عبدالصبور امو في الشركة.
وسرت أقفز علي السلالم.. وطارت بي العربة إلي الشركة، وهناك أوشك عبدالصبور امو أن يطير سرورا! وسقاني ألف شيء!
وهنأني وأنا أنصرف، وقبلني، ولم ينس وهو يودعني علي الباب الخارجي للشركة أن ينصحني بالكثير.. وبصفة خاصة أن احترس في الطريق لأن قلبه ينقبض في أشد ساعات سروره!
وذهبت أذيع نبأ خطبتي علي كل من قابلت في النوادي والمقاهي التي ارتادها.. وأنني سأتزوج في أسبوع، وسأختفي مع امرأتي وسأل الشبان الله أن يرحمني، واستضحكت الفتيات ودعاني بعضهم إلي الغداء، وألح في ذلك.. فتناولت الغداء في الخارج.
وعدت مساء لأتحدث في تفصيلات الزواج وموعده مع عبد الصبور امو الذي كان ينتظرني وصممت علي أن أفاجئه بتقبيل ابنته أمامه وانظر إليه وهو يصرخ مستنكرا فأغمزها وأضحك وتدفن رأسها في صدري استحياء - أو تجري - وأجري خلفها ، فأقبلها من جديد! وسأطوقها بذراعي، ولا أدعها أبدا، مهما احتج أو خجلت هي!
ودخلت الشارع وبوق عربتي يزمجر شامخا والعربة ترقص.. بب بيب أخذتني صرخات.. صيحات.. مَنْ.. لقد كانت تنبعث من نفس العمارة التي أسكن فيها.. وشعرت بأن شيئا يختفي وينهش فصعدت لاهثا، فإذا بشقة عبد الصبور مأتم.. وتجمد في كل شيء.. ماذا - انتحرت عزيزة! انتحرت عزيزة؟
وتلك يا سيدي هي قصتي وقد مر علي هذا الحادث عام أي عام.. ألفت فيه كثيرا من القصص وكتبت فيه أربعة كتب، وأصبحت كما تقولون كاتباً كبيراً، وقد كان هذا حلمي، ولكن قد تحقق حلمي لم أنعم به لحظة وعلي العكس لكم تمنيت أحيانا لو لم أكن كاتبا علي الاطلاق. ألم تكن الكتابة هي كل ما بين فتاة تحب وتتألم وتنظر، وبيني أنا الغافل عنها، ماذا كان عندما انتفض حبي الكامن الحزين!
وآه يا سيدي لو تدري كم حزنت وأنا حزين.. وكيف كانت حيرتي في تعليل انتحارها.. ربما كان الدافع تافها جدا، فقد يكون أبوها تحرج أن يحدثها.. وأسر بالأمر إلي امرأته، التي وجدت في قرار الزواج ثمرة علاقة طويلة ظلت خافية عليها سنين فانقضت علي المسكينة تسيء إليها، وأبوها بعد - كما هي عادة أمثاله - لا يستطيع أن يحدثها عن الزواج، وربما تكون المسكينة ومن يدري فقد تكون تلك المرأة قد اختلقت أشياء، وحدثتها عن علاقات موهومة بينها وبيني، وربطت الفتاة بين ما تسمع وبين ما شاهدت، عدم مقابلتي لأبيها في الصباح الباكر كما وعدتها، وضحكاتي مع سنية خلف باب مغلق علينا ودونها، علينا نحن الاثنين، وربما ذهب بها اليأس إلي نتيجة محزنة أني أعبث مع امرأة أبيها، وقد عبثت بها وغررت بها ! وتحت طغيان هذه الاستنتاجات الخاطئة السوداء فرت من العار المزعوم والحياة... نعم لابد أنها أسباب بتافهة ومهما يكن من سخف دوافع انتحارها فليس لي أن أهدر جلال الموت.. لقد ماتت ...... وأنا في النهاية من قتلها وسالت علي عيني دمعة، ....




* منقول عن جريدة اخبارالادب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى