سيامند هادى - رحيل ألام الكبيرة في الثلاثاء.. تر: تارا شيخ عثمان

فجأة وفي تلك اللحظة التي أخبروه فيها النبأ، كانت أمسية يوم الثلاثاء، كأنه عابر سبيل يتخطى خطواته مشغولا بتنظيف الشباك الذي يطل على الزقاق، لم يكن يتصور أن بضع كلمات تقطع خيوط ذكرياته كلها وفي غمضة عين كأنه يرمى من عالم الى عالم آخر. في سماعه لاول كلمة استذكر ظهر ذلك اليوم الاثنين، عندما تاه عن جدته بين حشد الناس في السوق المدينة وعندما ادرك بأنه امسك بعباءة إمرأة اخرى تخيل بأنه في صحراء جرداء انسته كل الدنيا. وفي لحظة سماعه النبأ احس بذلك الضياع ثانية، وبعد برهة من تفهم النبأ، تنفس عميقا وانقطع عن تنظيف الشباك، وفجأة جمع خيوط المستقبل ومع إلتفاتة سريعة لماض ذاب في حاضره، ربما لايفهم ذلك السر، فكلما انقطع تأمله لمستقبل يذكر يوم رحيل جدته..!
احيانا كان يرجع الى انه اهمل جدته قبل موتها وبعدها شعر بتلك الحقيقة حين كانت جدته على قيد الحياة لم يعر لها أي إهتمام، ولم يهتم بطلباتها او حتى لم ينظر الى ممتلكاتها بعين الاهتمام. كانت جدته تود ان يستمع الجميع اليها حين تتكلم وكلهم آذان صياغية، كانت الجدة، تحافظ على ممتلكاتها كثيرا وتنصحهم بأن يحافظوا ايضا على تلك أشياء والممتلكات. لكنهم لم يهتموا بكلامها ولابممتلكاتها بل كانوا ينظرون إليها ككائن مشمئز ومهمل. أحيانا كانت جدته في خلاف مع حفيدها لانه كان يضيع منها الاشياءها المحببة إليها.
وفي يوم من الايام تشاجرت جدته مع حفيدها لانه أفسد لها (لحافا) كانت قد نسجته منذ أمد بعيد. مرة أخرى تشاجرت معه، لانه أخفى عنها (علبة سجائرها) و وضع فيها كراته الزجاجية (الدعبلات). مع ذلك كله، لم تستطع الجدة ان تعيش بدونه وكانت تحب ان تروي له حكاياتها. وفي ذلك اليوم الذي اودعتهم الجدة الى الابد وبعد كل ذلك الاهمال شعر بذنب كبير وادرك حقيقة انهم لم يستطيعوا ان يهتموا بها ويصغوا إليها ولو لمرة واحدة. بعد موت الجدة، كانت ذكرياتها تلاحقه لحظة بلحظة. كان يتحسر دوما. لانه لم يتمكن من الحفاظ على الممتلكات ولم يعرف كيف وفي طرفة عين، ضاعت كل تلك الممتلكات ؟!
احيانا كان يلوم إبنه ويتهمه بأنه وراء ضياع تلك الممتلكات، لكن ابنه ببكائه ينجي نفسه من دائرة الاتهام تلك. كان ينظر الى الغرفة كل يوم وكأنها اجزاء من صورة وجسد جدته، بعد موتها وفي ليالي الشتاء خاصة يتذكر جدته وهي جالسة في وسط الغرفة وتروي لابنه حكاياتها، ضوء المصباح الذي كان في الجهة اليسرى يرسم ظلا كبيرا لجدته والجهة اليمنى من الغرفة. واينما يجلس كان ظل جدته يظهر من امام عينيه. عندما كان يستلقى على ظهره يرى سقف الغرفة يصبح فضاءا لحكايات التي كانت جدته ترويها لابنه, وحينما يستلقى على جنبه وينظر الى الشباك, تظهر من امامه كل الاشياء التى كانت جدته تخيف بها ابنه.
بعد موت جدته لم يكن يتوقع, بأنه كلما دخل ابنه رأى خيال جدته وهي تخرج من الغرفة, وحينما يقف في الغرفة كان يرى اشياء وحاجات جدته مبعثرة كما كانت جدته قبل موتها. لم يدرك لم كلما تأمل فى ابنه يرى صورة جدته في ملامح وجهه؟! كان يتذكر كل الايام التى كانت جدته وابنه يجلسان فيها يتشاجران تارة ويجلسان بسلام تارة اخرى. كانت جدته تود ان تأخذ حفيدها معها حينما تقوم بزيارتها, لكن حفيدها لم يكن يحب تلك الاماكن التى كانت تذهب اليها امه الكبير. احيانا جدته تذهب لزيارة المشايخ والاماكن المقدسة, وكانت ترى بأن في زيارتها لتلك الاماكن خيرا كثيرا. وفي كل مرة, تطلب من حفيدها ان يرافقها لكنه لم يكن يحب ذلك، وكان يقول لها (جدتي ان ذهبت بي للسينما فسأتي معك). وحين تروي جدته الحكايات لحفيدها تقف هادئة على أحداث الحكايات، لكن حفيدها يكون منشغلا باللعب (بالميكانو) ويصنع منها أشياء كثيرة ولم يكن ليهتم بحكايات الجدة.
في الامسية التي أخبروه النبأ، أرسل خياله وهو يقوم بتنظيف الشباك الى المستقبل البعيد وكان يدورحول صورة وحياة ابنه وبدون أن يراقبهاأحد كان يحلم بمستقبل إبنه الزاهر. وفي حين آخر كان يتنفس متحسرا ويتذكر موت جدته، لأن موتها ترك فيهم ألما كان محالاأن ينساه أحد. وكان هو قد أمضىكل طفولته مع جدته، ولكن كيف كان بإمكانه ان يهملها بهذه الصورة، قبل مماتها لم يحس بأنه قد نسى جدته ولم يتخيلها، لكن بعد موتها أيقن بأنهم أهملوها وكان موتها نتيجة لاهمالهم لها. كان يتصور بأن إعالة شخص تعتبر أكبر إهتمام بذلك الشخص، ولكنه لم يتخيل بأن جدته كانت تريد منهم أن يستمعوا إليها بإستمرار ويحافظوا على ممتلكاتها.
كانت جدته حينما تروي حكاية تمزج معها عدة قصص أخرى وأمثلة وحكم وكانت تنصح حفيدها أن يحفظ تلك الامثلة والعبر عن ظهر قلب، وكان سحر تلك النصائح الحزينة كبيرا عليه، حينما أخبروه بالنبأ تذكر يوم موت جدته، وكان أمسية يوم الثلاثاء. وكان باب بيتهم مفتوحا على مصراعيه، وكان الناس يدخلون ويخرجون من البيت كانت جدته مريضة منذ أسبوع وكانت تنتظر الدواء الذي كتبه الطبيب لها لكنه لم يتصور موت جدته، وبعد أن اقترب أكثر من بيتهم أخبره أحد الجيران بأن جدته قد ماتت، بعد بضعة ايام من موت جدته، أحس بذنب كبير لانه لم يحضر لها الدواْءالذي كتبه الطبيب لها، لذلك ولتبرير ذنبه اشترى الدواء ووضعه في مكان من البيت حتى يرى ملامح جدته كلما نظر الى الدواء، انه عمل هذا حتى يعوض عن العمل الذي لم ينجزه في وقته، ولم يدرك ان إنجاز عمل بعد فوات آوانه لايعني شيئا. المرأة التي أخبرته نبأ موت جدته هي نفسها روت له بأنها عندما كانت تحتضر تطلب الدواء وتطلب رؤية ابنها (هو)بإستمرار حتى تنظر إليه للمرة ألاخيرة، لكن أحدا لم يستطع أن يعثر على ولدها آنذاك، وذلك إستجابة لآخر طلب لها علىألاقل، وكان ولده هو يقضي معظم أوقاته مع جدة أبيه لانه حينما ولد هو ماتت أمه، لذلك كان يعيش مع أبيه وجدة أبيه في بيت واحد، واستدرك الطفل أيضا بأنه وبعد موت أمه الكبيرة لايستطيع أن يعيش أيامه بسلام. ولهذا طلب من أبيه أن يأخذه الى ضريح جدته، لكنه أهمل ذلك الطلب ولم يستطع أن يأخذه الى ضريحها، وبعد موت جدته امسى هو وإبنه أن يعيشان معا ,ففي النهاركان يذهب خارجا الى عمله وطفله يبقى في البيت وكان عليه أن ينتظر أباه إلى أن يعود, وفي وحدته كان يفكر في جدته الكبيرة. من المحتمل إنه أيضا ادرك بأنه لم يهتم بجدته في حينها، لانه لم يتصورآنذاك بأن يأتي يوما تموت فيه جدته في حين أخبروه بالنبأ.
كانت أمسية الثلاثاء مثل الامسية التي سمع فيها نبأ موت جدته دون ان يدرك بأن ابنه سيشرب ذلك الدواء الذي احضره لجدته، كان جيرانه اخذوه الى المستشفى لكنه لم يعرف ذلك الحادث، وبدون أن يراه أحد عاد الى البيت. بعد أن نادى ولده لمرات عديدة، أشعل المصباح في القسم الامامي للبيت وأخذينظف ذلك الشباك الذي يطل على الزقاق، في ذلك الحين، وعندما كان هو مشغولا بتنظيف شباك الغرفة فجأة دخلت نفس المراة التي أخبرته بالموت وكانت أمسية الثلاثاء أيضا، وقطعت خيوط خياله، وبنفس متقطعة أخبرته نبأ موت إبنه..!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى