د. أيمن بكر - نامت نواطير مصر

يرى الدكتور طه حسين أن المتنبى قال أصدق بيت يصف جانبا رئيسا من حال مصر عبر تاريخها كله حتى وقت الدكتور طه؛ حين يقول:
نامت نواطير مصر عن ثعالبها فقد بشمن وما تفنى العناقيد
النواطير هم الحراس والثعالب هم اللصوص، وقد توقف الحراس عن المراقبة لأن الثعالب "بشمن" أي شبع اللصوص حد التخمة. يعقب الدكتور حسين على البيت السابق بقوله:
"ولست أعرف أصدق في مصر ولا أبرع في تصويرها من هذا البيت ... الذي يختصر لونا من حياة مصر منذ أبعد عهودها بالتاريخ إلى هذا العهد الذي نحيا فيه، ولو أن التاريخ أراد أن يحصي الثعالب التي عَدَت على مصر وأموالها، فأخذت منها ما أطاقت وما لم تطق حتى أدركها البشم، وما هو فوق البشم، ونواطيرها نائمة وقادتها غافلون، وأموالها مع ذلك لا تفنى ولا تنفد...أقول لو أراد التاريخ إحصاء هذه الثعالب لما استطاع. ولست أدري: أيأتي يوم يُكَذَّبُ فيه هذا البيت من شعر المتنبي فلا تنام نواطير مصر ولا تبشم الثعالب فيها ولا يعدو الماكرون الغادرون على أهلها الآمنين الغافلين؟" (مع المتنبي/دار المعارف / القاهرة/ ص334-335).
يالله يالله يادكتور طه، لم يكن ليمر بذهنك ولو للحظة أن نواطير مصر سيصبحون هم أنفسهم ثعالبها، فيمسي "حاميها حراميها"، حتى أهلكوا الزرع والضرع.
لقد أصبح وضع مصر بداية من عصر السادات ساخرا، معقدا في آن، فالنواطير حين تصير ثعالب يصيبها شره أسطوري لا يشبعه إلا فعل السرقة ذاته. كما أن الحاكم الذي يصير لصا يسعى دوما لإرباك جميع الأنظمة القانونية والاجتماعية ليجعل سرقته مشروعة. وهو ما رأيناه في بيع شركات القطاع العام المصري بأقل من عشر ثمنها طبقا للقانون!!
ولأن نواطير مصر/ الثعالب كانوا ومازالوا من العسكر الجهلة بتاريخ مصر وطبيعة شعبها، لم يكن صعبا أن يدخلهم وهم عظيم بالسيطرة على كل شيء: الأرض والزرع والطير والإنسان، وبسبب الوهم السابق ينمو لديهم وهم أخطر منه، وهو شعور النواطير/ الثعالب بأنهم يتمتعون بقدرات ترفعهم فوق البشر حتى تقربهم من مصاف آلهة الأوليمب. ثم حين ينقلب عليهم الدهر (وهو لابد فاعل) وتظهر أنياب الشعب المصري الصبور يحاول النواطير/ الثعالب العودة لما تبقى من إنسانيتهم فلا يجدون لهم رصيدا. وهنا يرقدون كديناصورات منقرضة على أسرة المستشفيات المتحركة وهم أصحاء، فقط ليستجدوا عطف الشعب الذي لم تزل دماء أبنائه تقطر ساخنة من بين أصابعهم.
هذا ملمح واحد من ملامح القبح التي رسختها الأنظمة الشمولية العسكرية في أكثر من دولة عربية. ويبدو أن هذه الملامح قد تسللت إلى كثير من قوى المعارضة التي تطمع في حكم مصر؛ فنراها تعيد الآن إنتاج النظام العسكري في شموليته وفساده وديكتاتوريته، لكن الأخطر هذه المرة أنها ديكتاتورية ملتحية.
لقد كان الأولى أن يقول المتنبي:
صارت نواطير مصر عين ثعلبها وما بشمن وقد تفنى العناقيد


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى