أدب المناجم مريم بن بخثة - جماليات النص الإبداعي المنجمي..

إن الكتابة عن أدب المناجم كمن يمشي على حجر أملس لزج، قد تزل به قدمه، و الغوص فيه إبحار محفوف بالمخاطر لا يقدر عليه ألا متمرس عانق الأحداث و عايشها أو تخيلها و أحسها بصدق، و من هنا نطرح السؤال التالي:
ما الدافع للكتابة في أدب المناجم؟
أدب المناجم أو الأدب " الرمادي" كما يسميه الأدباء الغربيون ، على امتداد الزمن شكل خصوصية في ريبيرتوار الرواية العربية المعاصرة الحديثة ، فهو لم يأت من فراغ و لا يمكن أعتباره أدبا تخييليا مئة بالمئة ، لأن غالبية الذين كتبوا فيه اكتووا بناره أبا عن جد، و لم يخل منهم إلا القليل على سبيل المثال لا الحصر إيميل زولا صاحب الرواية الشهيرة " جيرمينال" و التي تعتبر بحق المنطلق الحقيقي لأدب المناجم.
ولا يمكن الحديث عن أدب المناجم بعيدا عن الأدب عموما ، و إن كان لايزال حديثا يمشي بخطى وئيدة فهي واثقة و ثابتة ، فهناك من اختارهم المنجم و استفز مشاعرهم و جوارحهم كي يعروا واقعا حاضرا يكسوه الغبار و الصمت ، فأزالوا اللثام و مسحوا الغبار و غاصوا في جوفه يستلهمون تلك الأرواح التي انسلت من أجساد أصحابها و غادرتهم لتستوطن المنجم ، تشكو له حالهم و بؤسهم و معاناتهم و أمراضهم و مخاوفهم و قلقهم ، و تعيش حالهم اليومي بين صخور المنجم ، و سعال صدورهم الذي يكسر صمت الأغوار ، و يتقاطع مع صوت المطارق ، فمازالت رائحة عرقهم يتنفسها الصخر الأصم فتحولت تلك المعايشة إلى قلم فياض ينقش بأدب متميز لوحات من الجمال الممزوجة بالمعاناة ، فكان لسان صدق ينوب عنهم ، و هناك من فتح عينيه ليرى أباه أو أخاه أو أحد أقربائه أو جيرانه منجميا يعيش اليومي بمعاناة و صمت و يربط حياته بذلك المنجم ، فإما تصيبه لعنة المناجم فينهار سقف الغار عليه ليسلم الروح وسط الأنقاض ، أو تتسلل السموم التي يستنشقها كل يوم لتستوطن صدره فتلتهب رئتاه فتغيب فيها الحياة و تتفاقم الحالة يوما عن يوم و يتحول السعال العارض إلى مرض قاتل نتيجة السيليكوز أو الأنتراسيت أو الأورانيوم ، وتكثر الأمراض المزمنة كالربو و آلام المفاصل و هشاشة العظام و غيرها . أو أمراض أخرى قد يعجز الطب عن تحديد اسم لها ، و يصير ذلك المنجمي بكل صبر يعاشر الموت و المرض كل يوم ، لكنه لا يستطيع أن يتخلص منه فلا بديل له في مدن لا توجد فيها سوى المناجم ، مدينة لا وظائف فيها سوى العطالة او العمل بالمنجم لصون الكرامة و سد باب الحاجة و العوز .
و الأديب هو ذلك الإنسان المتفرد بإحساسه المرهف و عينه الناقلة لكل ما يحيط به يجد نفسه مربوطا بوشائج تحثه على الكتابة عن المناجم و قصص من عرفهم و من سمع بهم ، و الذين استل المنجم أرواحهم ، والذين وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمامه تتلبسهم المعاناة، فيحمل القلم ليستحضر من غابوا و ليعلم الكون كله أنه هنا داخل الأنقاض أرواح سكنت المنجم ليس حبا و لكن من أجل رغيف خبز و بعض كرامة.
حتمية الكتابة عن المنجميين و عن معاناتهم أعتبرها إحدى مهام و خصوصيات الإبداع ، فالكاتب الصادق يرى من واجباته كمبدع أن تشغله كل الظواهر و المظاهر التي يراها حوله بمجتمعه أو أي مجتمع ما ، وليس عيبا أن يستغل الأديب حياة او حيوات أناس ليستلهم منهم أحداث قصصه أو سيرة أحدهم ، فالغاية هي المشاطرة و التقاسم لمآسي أولئك الذين يتنازلون عن حياتهم بنكران الذات من أجل سد الرمق و محاربة الفقر و إعالة أسرهم ، هؤلاء الذين يتحدون الموت يستحقون أن نعرف العالم كله بما يقاسونه في صمت ، و ما يعيشونه جراء بطش أرباب المناجم و أن ما يستخرج من أرضهم التي من المفروض أن يتقاسم خيراتها الجميع ، لكن جشع هؤلاء يجعل المنجمي يقبل بكل ما يقدم له مادام لا بديل له سوى هذا العمل البائس المتاح
من هنا نخلص إلى أن أدب المناجم يتميز بالذاكرة التي توثق الاحداث و التي ترتكز في كتابتها على مكونين أساسيين هما : الذات و الأمكنة رغم تفرده بمفرداته اللغوية التعبيرية.
الذات بوصفها القوة الفاعلة ( الغابرة والظاهرة) التي كانت من وراء صنع هذا الأدب. بمعنى الأدب الذي يعبر عن الإحساسات السوداء و ينقلها بأمانة شديدة لتلتحم بمشاعر و أحاسيس المنجميين.
اما بالنسبة للأمكنة فليس هناك بلد إلا و المناجم و حياة عماله جزء لا يتجزأ منه و بالتالي تكون الأمكنة حاضرة عبر كل الأزمنة تذكر بمواجع و فواجع من عملوا بالمناجم و قهروا باطن الأرض باستخراج كل نفيس و غال ، لكنهم قهروا أنفسهم ايضا فمن يملك القوة و السلطة و المنجم ليس كمن يشتغل فيه ، فأولائك يحصدون الأموال الطائلة و المنجميون يأخذون فتات الفتات.
يقول الدكتور مصطفى سلوي الأستاذ في كلية الآداب بجامعة محمد بن عبدالله: ( وحين يتحدث الغربيون عن هذا النوع من الأدب/ الكتابة، في فرنسا وألمانيا وبلجيكا ودول أمريكا اللاتينية والشيلي وجنوب إفريقيا وروسيا وغيرها من الدول التي لا تخلو لها بقعة من مساحاتها الشاسعة من منجم، هنا أو هناك، للفحم الحجري أو الفوسفاط أو الذهب أو الفضة أو غير ذلك من كنوز الأرض، فإنهم يعتبرونه جزء من (الذاكرة) الخالدة التي تتصل بأصولها؛ سواء تعلق الأمر بالآباء أم الجداد.. ذلك بأن الأدب المنجمي في حياتهم إنما هو تعبير خالد عن حياة عايشوها، كما عايشها آباؤهم وأجدادُهُم.. ومن هنا، يكون الأدب المنجمي، أو الأدب الأسود أو الرمادي، هو ذلك النوع من الكتابة الذي لا يَخُطُّها (المداد الأسود) الذي يكتب به جميع الكُتّاب، وإنما هو الأدب الذي يقتات على حبر مختلف تماما، لونه (أحمر)، هو ذاك المُعَبّر عن (دماء) جميع الذين قضوا نحبهم داخل هذه المناجم..)
إن الجميل في الاشتغال بأدب المناجم هو ذلك الغوص الحقيقي غير المفتعل للتعبير عن الأحاسيس الحقيقية التي يشعر بها عمال المناجم لحظات الفرح القليلة و لحظات الحزن و الغضب و لحظات الاستسلام و لحظات الثورة و الانفعال و الرغبة في ظروف احسن للعمل ، ذلك اليومي الذي يعيشه هو و باقي اسرته ، فيصنع جمالا متفردا رغم مساحات الحزن الممتدة عبر الصفحات.
كيف تأتى لي الاهتمام بهذا الجنس الأدبي المتميز و الذي لم أفكر فيه بشكل قصدي ، بحيث كانت الفرصة صدفة ، والمناسبة شرط كما يقال..
و أنا أشتغل على روايتي الثانية " سقوط المرايا" و كانت بطلتها من مدينة جرادة ، حين كنت ابحث عن طبيعة المدينة و كيفية الحياة فيها حتى اضع بطلتي في مناخها الطبيعي ، فقادني بحثي للتعرف على مدينة جرادة المنجمية و حياة غالبية الناس التي كان مصدر رزقهم الوحيد هو العمل في المناجم لاستخراج الفحم الحجري مقابل ثمن زهيد ، هذا البحث قادني أيضا لأتعرف بعمق على ما يقاسيه اهل المدينة و ظروف حياتهم الصعبة إضافة الى طبيعة المدينة الجغرافي و المناخي فكانت تلك انطلاقتي إلى الكتابة في أدب المناجم، من هنا صارت الرغبة تحثني على الحفر في هذا اللون الأدبي كي نتقاسم جميعا معاناة أولائك ، إضافة إلى زيارتي إلى بلدية سيدي بوبكر و تويست البعيدة عن جرادة بحوالي 14 كيلو متر ، و التي شغفتني أحوالها و أحداثها لاشتعل عليها كمشروع روائي ، و أنا بصدد الكتابة عن هذه المدينة التي كانت تنبض بالحياة و الفرح و السعادة بعدما أفرغوها من المعادن وتركوها خاوية على عروشها تبكي الفقر و الحاجة و الإهمال ، و صارت بقايا منازلها كأطلال شاهدة على تاريخها المجيد قبل الحماية و بعده
و ربما الدافع لاهتمامي بأدب المناجم السبب أعمق ، فانا أصولي من مدينة اليوسفية و بالتحديد من إحدى الزوايا الشريفة والعريقة المتواجدة بمنطقة أحمر، حيث تمتد تلال الفوسفاط كجبال راسية ولدت لي في صغري أسئلة حارقة عرفت الإجابة عنها حين كبرت ، كما أن أحد أخوالي كان منجميا لاتزال ذاكرة الطفلة التي كنت تحكي لي حول انصرافه إلى المنجم في منتصف الليل و اختفائه عنا إلى مساء اليوم التالي ، اشتغل في مناجم الفوسفاط و هو شاب يافع و ظل لسنين يدخل جوف الأرض مغامرا بحياته من أجل لقمة العيش حتى صار النزول إلى الغار و كأنها لحظة سقوط في الجحيم ، ضاقت نفسه و كرهت المكان و ضيقه وعافته، فصار كلما نزل جوف الأرض إلا شعر باختناق شديد مما جعله ينقطع عن العمل و عن المدينة لسنة كاملة ، تعرض لانهيار نفسي و جسدي اضطره لملازمة طبيب نفسي طيلة سنة بكاملها ، ليعود بعدها إلى العمل ، ليس في باطن الأرض بل في فوقها يراقب المعدات و العمال. و هذا أنموذج صغير يقاس على مئات الحالات التي عانت الامرين بين سموم المناجم و قلة الحاجة ، أمران لا خيار بينهما فكلاهما مر
من هنا أخلص إلى أن هذا الأدب المتميز بفرادته عن كل الأجناس الأدبية يحتاج منا اهتماما أكبر كما فعل الغربيون فقد اطلعت على الكثير من الروايات الغربية التي لا تخلو واحدة منها إلا و المناجم و أحوال عمالها جزء لا يتجزأ من حبكتها ومضمونها ، و منهم من اعتبرها ذاكرة تاريخ ذلك البلد.
ختاما لكل الذين تجندوا من قريب أو بعيد من أجل تأسيس هذا الملتقى المغاربي لإزالة اللثام عن معاناة المنجميين و أحيوا ذاكرة الشعوب بما نسجته أقلامهم ارفع القبعة عاليا تعبيرا عن التقدير و الامتنان



* نص المداخلة التي ستلقى في الملتقى المغاربي الأول لمدينة اليوسفية أيام 5/6/7 أبريل 2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى