السَيْفُ فِي الغِمْدِ لا تُخْشَي بَوَاتِرَهُ = وسَيْفُ عَيْنَيْكِ فِي الحَـالَيْنِ بَتَــــارُ
الشاعر: إدريس جماع
كانت الأيام تجأر بالشكاة، لا شيء يردها إلى الاتزان والسكون، وكان الرهق ووطأة الحياة يختلسان مِنْ الأحياء ماء العيون. وكان عادل جرقندي ساعتذاك .. فتًى قويا موفور الصحة، عظيم النشاط، وسامته لا تخفى على بشر، طلق اللسان حلو المعشر، أنيق فِي بساطة، معجب بذاته دون أنْ يضيق بفقره وفقر أسرته، كأنَّه لا يبغض الفقر ولا يكره الحاجة. لمْ تملأ قلبه الحسرة أو أثقلت نفسه الهموم. كان يرضى بما أتيح له مِنْ رزق، ويحمد رفق الله به ورعايته له وإسباغ نعمته عليه، ويستمسك مِنْ أجل ذلك بما قسم له مِنْ خير الفقر، ويستمتع مِنْ أجل ذلك بما قدر له مِنْ نعيمه. ولكن! .. لمْ يوجد بين أترابه مَنْ كان يعلم إنْ كان عادل يُسَرُ بالفقر أعظم السرور ويُكلف به أشد الكلف أم كان يزدريه أعظم الازدراء ويُنكره أشد الإنكار. يرونه يمضي مستمتعاً بحياته، لا يلقي بالاً إلى ما يكتنفها مِنْ رهق، يرسم ابتسامة رائقة كأنَّه محصن ضد الهموم والكوارث والنكبات. وكان بين أهله وأترابه صاحب رأي لا يرقى إليه الجهل، وفطنة لا تسعى إليها الغفلة، وحضور لا يعرض له التيه ولا يكتنفه الذهول. كان رجلا لمْ يفسده الفقر ولمْ تنحرف به الحاجة عنْ الطريق القصد.
.. وكانت – بلقيس كروم – فِي ذات الساعة تلك، فتاة فِيْها دعة ولين، يكسوها جمال فتان يسر الناظرين، فِي جسمها تناسق وفِي قدها اعتدال يظهران للناظر دون أنْ يتكلف إليهما النظر التماساً. وكان إشراق وجهها ونقاؤه مظهراً لصورة رائعة الحسن والجمال، قد أسبغت على جسمها كله، فكان شيئاً بديعاً متقناً كأنما صُنع فِي تمهلٍ وتأنقٍ وأناةٍ. كانت الحياة تملأ قلبها فرحاً، وتفعم نفسها سروراً، وتفيض على وجهها بهجة تزيدها حسناً إلى حسنٍ وروعة إلى روعةٍ. كأنَّها نزلت إلى الأرض كما تنزل الملائكة، أو كأنَّها هبة النيل خرجت إلى البسيطة كما تخرج عرائس البحر. وكانت عيناها تحضران فِي النفس إذا التقتا بنديداتها، ولمْ تكونا تلتقيان بهن إلا قليلاً، كانت نظراتها ذاك الرخص العذب الصافي الذي يلائم وجهها المشرق النقي. كان سحر عينيها يخلب القلوب ويخطف الألباب، لولا تلك المسحة مِنْ الحزن التي نمت فِيْهما ذات ليلة.
.. جلست بلقيس إلى صديقة عمرها سُلافة جاد السيد تسمع إليها ولا تصدق ما تسمعه، ثم تعيد ما سمعته مِنْها بعد إنكار، وتقبله بعد ترددٍ فِيْه كثير مِنْ الألم الذي يؤذي النفوس، والحسرة التي تدمي القلوب. سألتها فِي صوت خفيضٍ لا يكاد يسمع:
أم درمان – السودان (نوفمبر 2004م).
الشاعر: إدريس جماع
كانت الأيام تجأر بالشكاة، لا شيء يردها إلى الاتزان والسكون، وكان الرهق ووطأة الحياة يختلسان مِنْ الأحياء ماء العيون. وكان عادل جرقندي ساعتذاك .. فتًى قويا موفور الصحة، عظيم النشاط، وسامته لا تخفى على بشر، طلق اللسان حلو المعشر، أنيق فِي بساطة، معجب بذاته دون أنْ يضيق بفقره وفقر أسرته، كأنَّه لا يبغض الفقر ولا يكره الحاجة. لمْ تملأ قلبه الحسرة أو أثقلت نفسه الهموم. كان يرضى بما أتيح له مِنْ رزق، ويحمد رفق الله به ورعايته له وإسباغ نعمته عليه، ويستمسك مِنْ أجل ذلك بما قسم له مِنْ خير الفقر، ويستمتع مِنْ أجل ذلك بما قدر له مِنْ نعيمه. ولكن! .. لمْ يوجد بين أترابه مَنْ كان يعلم إنْ كان عادل يُسَرُ بالفقر أعظم السرور ويُكلف به أشد الكلف أم كان يزدريه أعظم الازدراء ويُنكره أشد الإنكار. يرونه يمضي مستمتعاً بحياته، لا يلقي بالاً إلى ما يكتنفها مِنْ رهق، يرسم ابتسامة رائقة كأنَّه محصن ضد الهموم والكوارث والنكبات. وكان بين أهله وأترابه صاحب رأي لا يرقى إليه الجهل، وفطنة لا تسعى إليها الغفلة، وحضور لا يعرض له التيه ولا يكتنفه الذهول. كان رجلا لمْ يفسده الفقر ولمْ تنحرف به الحاجة عنْ الطريق القصد.
.. وكانت – بلقيس كروم – فِي ذات الساعة تلك، فتاة فِيْها دعة ولين، يكسوها جمال فتان يسر الناظرين، فِي جسمها تناسق وفِي قدها اعتدال يظهران للناظر دون أنْ يتكلف إليهما النظر التماساً. وكان إشراق وجهها ونقاؤه مظهراً لصورة رائعة الحسن والجمال، قد أسبغت على جسمها كله، فكان شيئاً بديعاً متقناً كأنما صُنع فِي تمهلٍ وتأنقٍ وأناةٍ. كانت الحياة تملأ قلبها فرحاً، وتفعم نفسها سروراً، وتفيض على وجهها بهجة تزيدها حسناً إلى حسنٍ وروعة إلى روعةٍ. كأنَّها نزلت إلى الأرض كما تنزل الملائكة، أو كأنَّها هبة النيل خرجت إلى البسيطة كما تخرج عرائس البحر. وكانت عيناها تحضران فِي النفس إذا التقتا بنديداتها، ولمْ تكونا تلتقيان بهن إلا قليلاً، كانت نظراتها ذاك الرخص العذب الصافي الذي يلائم وجهها المشرق النقي. كان سحر عينيها يخلب القلوب ويخطف الألباب، لولا تلك المسحة مِنْ الحزن التي نمت فِيْهما ذات ليلة.
.. جلست بلقيس إلى صديقة عمرها سُلافة جاد السيد تسمع إليها ولا تصدق ما تسمعه، ثم تعيد ما سمعته مِنْها بعد إنكار، وتقبله بعد ترددٍ فِيْه كثير مِنْ الألم الذي يؤذي النفوس، والحسرة التي تدمي القلوب. سألتها فِي صوت خفيضٍ لا يكاد يسمع:
- كيف كان حين وقع بصرك عليه يا سُلافة؟
- كان كالقمر ليلة تمامه .. زادته الأيام وسامة فوق وسامته التي عرفناها منذ عشرين سنة مضت .. ورسمت خطوط الشيب البيضاء على وجهه وقاراً ما بعده وقار .. كان ابنه البكر يتقدمه .. وكان شبه أبيه حين رأيناه أول مرة يدخل علينا فِي قاعة القرشي فِيْ جامعة الخرطوم .. ويمشي فِي طريق الجامعة الرئيس .. وكانت ابنته تمشي بجانبه .. غاية فِي الجمال .. هيفاء القوام .. لا يمكن أنْ تتجاوزها العين .. وكان عادل يمشي كعادته بذات الهدوء وذات الأنفة .. ترافقه تلك الابتسامة الآملة نفسها ..
- هذان الشابان هما ولداي اللذان لمْ ألدهما .. كان أبوهما يحبني غاية الحب .. لكني رفضته .. ورفضت وقتذاك أنْ يصهر البؤس إلى السعادة .. وأنْ يلتقي الفقر والغنى تحت سقفٍ واحد ..
- كان يحدثني عنْ جمال عيني .. وكنت أحدثه عنْ استحالة إصهار أسرة ذات سعة لأسرة ذات بؤس .. وكان يحدثني أنَّ فِي هذا الحب روحاً مِنْ الله .. وكنت أحدثه عنْ الفرق الواضح بين الواقع والأحلام .. كان صادقاً محباً ملحاً فِي صدقه وحبه .. وكنت أتمنع وألح فِي الامتناع .. كان يدعوني إلى الحب والتواصل .. وكنت أدعو نفسي دونه إلى الحرية والاستقلال .. كان يلاينني حيناً ويخاشنني حينا حتى يختلس مِنِّي الرضا اختلاساً .. وكنت أرده عنْ القصد وأهز الطمأنينة فِي قلبه المحب ونفسه الآملة .. كان يفيض فِي قلبي فرحاً وبشراً .. وكنت أفيض إليه قلقاً واضطراباً .. كنت أعبث به عبث فتاةٍ غافلة .. ما لبثت الأيام أنْ علمتها ما لمْ تكن تعلم ..
- لقد سألني عنك ..
- يبدو .. يبدو أنه لا يزال يُحبك رغم مرور كل هذه السنين .. أحسست ذلك مِنْ لهفته وهو يسألني عنك ..
- ماذا؟ .. سألك عنِّي! .. ألا زال يذكرني! .. يُحبني! .. هلْ جننت؟
- نعم .. لا يزال يحبك .. أحسست ذلك وهو يصف عينيك الجميلتين .. كان ولداه مشغولين عنّا بتخليص بعض أوراق الابن البكر مِنْ مسجل كلية العلوم .. سألني إنْ كنت ما زلت تحتفظين بسحرهما حتى الآن .. وحدثني كثيراً عنْك .. وحزن بشدة لطلاقك ..
- ماذا؟ .. حزن لطلاقي .. هلْ أخبرتيه بهذا الحدث الشؤم؟
- لا .. عادل يعرف عنْك أكثر مما تعرفين عنْه .. ربما تكونين قد رميتيه فِي جُب النسيان .. لكنك كنت حاضرة دائماً فِي قلبه ومخيلته ..
- لقد كان يقول لي .. إنَّك دائماً العين التي أرى بها الدنيا .. فما أحوجني إليك لأراك رفيقتي إلى نهاية الحياة .. ثم يصمت قليلاً .. ويداعبني قائلاً .. ما أجمل عينيك .. آهٍ .. كم كنت غبية .. له ولدان .. وحرمني الله مِنْ الأطفال .. لِعِلةِ فِيَّ لمْ يستطع الطب لها علاجاً .. ثم مضت الأيام وقد ذهبت بكل شيء .. بسط الله له فِي الرزق .. ولانت حياته .. وحُرمت مِنْ الأمومة .. وضاقت بي حياتي ..
- هلْ رأيت زوجته؟ .. هلْ هِي جميلة؟ .. كيف هما عيناها؟
- لا .. لمْ أرها .. لكني رأيت ابنتها .. ورأيت ابنها .. هما غاية الجمال .. ومثل هذا الجمال لا تلده كل النساء .. هي بالقطع جميلة جداً .. ربما غاية الجمال ..
- لقد كنت أحبه .. لكن فقره ساعتها منعني .. لقد أضعته وأضعت نفسي .. أنفقت سنوات الجامعة عاماً بعد عام .. أبحث عنْ يسر الحياة الذي اعتدته فِي أسرتي .. لمْ يكن مِنْ الممكن أنْ أتزوج الفقر .. قتلت حبي له .. أسرته بين ضلوعي .. لمْ أسمح له أنْ يخرج إلي الهواء الطلق أو يتنسم أنفاساً عادلة .. آه يا سُلافة .. لقد أضعته إلى الأبد .. لمْ يكن يستحق أنْ أفعل به ما فعلت .. إنني أحبه .. أحبه كثيراً ..
أم درمان – السودان (نوفمبر 2004م).