توقف المطر بعد ثلاثة أيام.. دخل الضابط الغرفة الخاصة لقيادة القوة.. وانتصب واقفا أمامه، القائد كان يمسك الهاتف بيده اليمنى ويتكلم بغضب: (أحد لايبعث بالجثث، أريد رؤيتها بعيني، يجب أن يشكل تحقيق خاص حولها).
حين كان القائد يتحدث.. يتحرك يمينا ويسارا ويدور على كرسيه الدوار ويحدق الضابط بعض الحين بنظرات قاسية،كأنه لم يكن متوقعا أن يدخل من دون استئذان. كان يتناهي الى سمعه صوت.... بالخوف والقلق عبر الهاتف، ويقول: (نعم سيدي.. نعم سيدي القائد..!). وضع القائد الهاتف.. وطلب بسرعة قسما آخر من قوة العسكرية، كان واضحا انها الوحدة الطبية.. نعم، كان هكذا... والذي توقعته كان طبيب قوتنا..، عرفت صوته في الهاتف: (نعم سيدي.. الجثث لازالت تحت التراب.. لايكفون عن الغناء والمطر مستمر...!).
كان الدم يفور في عروق القائد.. لحظة أثر لحظة وتستطيع قراءة عينيه بسهولة، اللتين يتراءى فيهما خوف وقلق والموت. كنت احس بأن هناك خوفا خلف العيون، خوف أعطاه حقا للبقاء والاستمرارية ليدافع عن وجوده وبقائه بشتى الاساليب.
وضع الهاتف في فرصة ما.. كأنه لم يشعر بأن الضابط كان واقفا امامه لفترة دون حراك، كان يقول في نفسه: (فقد جعلتني الحرب من أكثر الرجال قساوة...). الضابط الذي دائما على عاتقه الواجب العسكري قال: (نعم سيدي). أكمل القائد الحديث مع نفسه.. أراد الضابط أن يستغل هذه الفرصة ويبدأ بالكلام.. لم يسنح له الوقت لأنه في الوقت الذي أراد أن يبدأ بالحديث، كان القائد يتصل بالوحدات واحدة تلو الاخرى..، ففي هذه الحالة رغم ان الضابط كان عارفا بكارثة الجثث الى حد ما، وكان بريئا تجاه هذه الأحداث، لكن الآن ظهر أمام عظمة القائد... الخوف والريبة في دخيلته، كانه لم يكن أمامه الا أن يصرخ ويقول: (سيدي.. لقد تعذبت روحي أكثر من هذا.. أنا مسؤول). كان الضابط له الحق في ذلك، عندما كان القائد يتحدث مع نفسه، كان يحدق في عيونه الهادئة، كان نوع نظراته أشبه بمتهم واقف أمامه ليحاكمه، كان الضابط لايجد في نفسه اية تهمة، لكن الاستفسار ونوعية مكالمة القائد عكرا هدوءه، لذا تغير لون ملامح القائد، وهو بدوره ايضا ازداد لونه بياضا، ومع تغير طبقة صوته كانت طبقة صوته ايضا تتغير من تلقاء نفسها ويبلغ ريقه، عندما كان القائد تنتابه الهستيريا أثر غضب جنوني وينهض واقفا..، هو أيضا يرتب هندامه ويقف في حالة استعداد، حين تلمع عينا القائد أثر ضحكة دموية.. وهو بدوره يلاحظ في عينيه ابتسامة، وحين يهدأ القائد لهنيهة وتدمع عينيه، وهو أيضا يعود بخياله وأحاسيسه الى لحظات الطفولة لجمع حبات الزيتون والجذوع اليابسة في الباحة، عندما كان يسود الصمت، كان كل شيء يهدأ ويستكين..، عيناه كانتا تستقران على بعض النقاط التي لم يكن لها أي معنى في السابق، على سبيل المثال: الزخارف التي على قوس محجن القائد، كانت محفورة عليها بالخط الكوفي القديم ومكتوب عليها، (انت جدير بالموت)، زرر معطفه العسكري بالازرار المصنوعة من نيكل، داخل ذلك الفضاء الصغير، كان هناك رمز كبير لصراعات الحياة..هناك راهبة بثياب أسود.. وصليب أحمر مثل سقوط أول قطرة للدم وكان محفورا على جبينها. في تلك الدنيا الهادئة حدق في كافة أشياء.. واحتياجات القائد واحدة تلو الاخرى. القائد يتكلم باستمرار، ربما لايعلم بأن الضابط كان واقفا أمامه لفترة.. فقد تعلم القائد من حكمة الحرب، بأن الكلام يجعله ينسى الذي أمامه ولا يراه، أو يجعله يمحو الذكريات الحلوة، لذا كان يبحث عن أقرب فرصة لكي يثير سؤالا ويبدأ بالحديث.
الضابط كان يعرف بأن أجمل فرصة للحديث في الحرب هو السؤال، ليس في مقدوره الانتظار أكثر وهو واقف..ويعرف بأن على عاتقه واجبات عسكرية اخرى يجب تنفيذها، ان استمرار المطر على مدى ثلاثة أيام بلياليها لايدع مجالا لتحديد تحركات و مواقع العدو نقطة تلو الاخرى.. الخطة العسكرية التي وضعوها لهجوم مباغت وقفت كلها، فقد محا المطر كافة الخطط، وفي الليل عندما كان يهطل المطر مدرارا عند الليل، كانت الدنيا تستحيل الى الضباب والظلام.
ان جميع الاناشيد الوطنية التي كانت تنشد في الأيام السابقة في التدريبات العسكرية الصباحية بصوت واحد صارت اغنية يغنيها بنفس واحد الذين كانوا يحبون الحياة..، كافة الأناشيد.. الأناشيد الوطنية تحولت الى اغنية للمطر.. مطر يحيي اتربة الموتى.
صار الضابط يائسا من أن يقول شيئا معه، في الفترة الزمنية التي كانا فيها معا اختبرا تصرفات وأفعال بعضهما البعض، كان يعرف بأن القائد يحتاج الى مزاج للسؤال والكلام.. رغم هذا، كان عليه ان يحفر ذلك الجدار ويصل اليه بدون موعد مسبق.. في نفس الوقت اختبأ خوف ما في دخيلته، كان من المفروض ان لايتسرع في المجيء، الى ان يخطط خططه بشكل هندسي ويدرس كل صغيرة و كبيرة لكافة الأحداث غير منتظرة، رغم انه كان مقتنعا بأن الخطة التي وضعها لايعمل بها لا في الماضى ولا في المستقبل.. كل مرة عندما كان يحدق بالخارطة على ضوء القمر والنجوم، كانت الخطوط تظهر بشكل دائري.. ثم تختفي، كل جولة داخل الخطوط التي اخذت شكل نسيج العنكبوت يتجول في نفس نقطة البداية ونفس اليأس والاجدوى، الضابط بعد تأمل عميق كان يريد قفط أن يقول: (سيدي.. القائد، الخطط مناسبة حاليا، لكن أنت في هذا السرداب لن تستطيع أن تجد الجانب الآخر للضوء).
***
كان مقر القائد تحت الأرض بعمق ثلاثة أمتار، والدخول من البوابة الاولى صعب جدا، بالأخص لضابط شاب لأول مرة يرى في خطوط التماس أشبح العدو، هناك ست درجات للدخول بزاوية (40)درجة مصنوعة بشكل هندسي منتظم من القرميد الأحمر ورمل الصحراء، الضوء ينتشر فقط لحد المدرج الرابع، وفي الخامس والسادس قبل اتجاه أو انعطاف من زاوية اليسرى، كان هناك ظلام دامس.. اضافة الى تلك المدرجات التي أخذت شكلا آخر، كانت هناك اربعة مدرجات اخرى، لكنها ضيقة، اذا لم يكن الشخص خبيرا سوف تلامس كتفاه الجدار الترابي. قبل ان تصل قبالة باب غرفة القائد.. هناك فسخة للاستراحة والتقاط الانفاس.. نعم، هناك بالضبط أمام الباب دائرة من الضوء ترسم على الأرض خارطة مضاءة، خارطة مثل قطعة مرآة تلعب بوجه الشمس، الوقوف تحت الضوء يخطف ماء البصر.. عندما كنت تلتفت الى خلف لاتجد غير الظلام، لذا فمواجهة غرفة القائد تصير محالا، كان القائد يظن بأن دائرة الضوء تلك كأنها فخ للطريدة، كان يتعرف على ظلال كافة الجنود داخل تلك الحلقة الخيالية..، تلك الفترة الطويلة التي قضاها القائد في الحياة العسكرية تعلم خلالها بأن هناك شخصا ما خلف الباب، ربما حركة صرصار أو لعب الفئران..، أو نزول التراب وسقوط حبة رمل، أو الاحساس بأن دائما شخصا سوف يزوره ليبلغه نبأ ما، جعله هذا بأن تكون عيونه مفتوحة باستمرار وآذانه منتبهة لحركة فعل ما، لذا في أغلب الأحيان اذا أحدهم لم يطرق الباب كان القائد ينادي عليه: (ادخل.. ماذا تنتظر..؟)، الجنود كانوا يقولون: (القائد يعرف أسماء كافة النجوم والأبراج، لايمكن أن لايتعرف علينا)، الضابط يجيبه: (سيدي.. لندع الجثث لحالها، الجنود لايكفون عن الغناء). القائد يلتفت حوله كأنه في حالة تفكير عميق ينظر الى أبعد نقطة.. يذهب بخياله لتفكير ما الذي يقرر خلاله قرارا صائبا، كان يتعب بقدر تفكير عميق بصوت واهن كانه يتحدث مع نفسه: (دع.. لانتسرع حاليا، حين يتوقف المطر فتعال الي)... (سيدي..، لقد انتهى المطر.. القمر يظهر بوضوح، فاخرج مرة واحدة تستطيع أن تخصي النجوم واحدة تلو الاخرى.. وان تتعرف على ابراج الحظ، اصبحت في هذا السرداب جزءا من الظلام وانطفأ الضياء في عينيك، تعال انظر الى الجنود يغنون وهم نيام اغنية الموتى..!).. فقد انتشر الضوء تماما داخل السرداب خلل تلك النوافذ التي استحكمت بأكياس من الرمل، وكانت هناك خلف القائد مجموعة من الكتب حول فن القتال، ومجموعة من المخلوقات الاسطورية كانت محفورة باللونين الاسود والاحمر على احجار المرمر والقواقع..، وفي اعلى الرف كان قسم من خطوط حمورابي الهندسية معلقا بصورة عمودية. كان وسط الرف مليئا بلعب الأطفال.. تلك الألعاب التي كان القائد يلعب بها في الطفولة.. في الطفولة وفي الحديقة الصغيرة في الباحة، كل تلك الأشياء التي كانت للقائد باقية كما هي دون العبث بها، دون أن يلاحظ بأن الاتربة والغبار للايام الخوالي تغطيها. هناك نافذة قبالة القائد في الجهة حيث تدخل أشعة شمس الصباح، كانت تصنع ضوءا سحريا خارقا فوق لعب الأطفال. كل نافذة كانت رمزا لسفر الشمس واحصاء لحظات الضياء.. النافذة التي خلف القائد كانت رمزا للغروب.. والنافذة التي خلف رأسه من الزاوية اليسرى للسرداب كانت علامة لوسط زرقة السماء، القائد دائما كان يخشى الظلمة.. الظلمة التي كان الجنود أرادوا أن ينجوا منها بالغناء، نعم في تلك اللحظة حين كنت أرى القائد حانقا وتضربه أشعة شمس تموز في تلك الظهيرة بشكل عمودي، كنت أرى ظلا برتقاليا يمر فيه جدول من الدم الأسود..
نقل نظراته باتجاه الكتابة المسمارية.. كان احساس ما يقول له: (اذا ما قرأت تلك الكتابة، سوف يحق لك ان يكون لك عمر الفراشة، ويقول له بصوت ما.. اذا شرحت تلك الكتابة ستعرف من الذي ارتكب أول جريمة بشرية... كان يقول له خيال طفولي: (اذا فسرنا تلك الكتابة..، سوف نكتشف عنصرا جديدا ما بين الريح والمطر.. ربما طفل عيونه مليئة بضوء ساطع ذي ظل أزرق، عيونه كانت تستقر فوق الحروف التي تمتزج بعض مرات وتبهت مرات اخرى، كأنها عملت فيها نقوشا بصورة مقصودة. كانت الحروف تتحول الى أسارب من الطيور التي تسافر سفرا أبديا عبر الظلام دون أن تتحرك أجنحتها، أو كان ينتابه الخوف والقلق على أن تكون هذه الحروف حربا بين الجمل والمعاني.. حربا أكثر دموية من أن تعطي معنى آخر للحياة، معنى تكون كل تفسيرات مستحيلة أمامه.
لم تكون وجودا للكينونة السؤال..، سؤال كأنما له وجود ما ويتلمس باليد، وليس مثل شبح في أبسط التعريف أن يذهب بسرعة الضوء ويوصد على نفسه أبواب الهجرة.
وصل الضابط من أقصى اليأس الى نتيجة بأن الحرب والموت شىء محقق وما تكون نهايتهما. أنه الظلام.. الظلام الذي كان الجنود دائما يطلبون هطوله، صرخة ما تترك خلفها سؤالا ما: (أين أنت أيتها الحياة..؟؟!).
- سيدي..!! لقد توقف المطر، والجنود لايكفون عن الغناء..
الضابط كان يحدق في القائد بعيون كأن البكاء بهتها، ثم كان يلاحظ صمتا في ملامحه.. صمتا كأن كل شيء بالمرئي واللامرئي في سكون أبدي.. سكوت كان يجب أن يرتكب جريمة ما لكي تغير الأشياء ايقاعها. الضابط كان يعلم بأنه لايجوز في الحرب أن تأخذ الأشياء مسارها بصورة اعتيادية ولاتكون في مواقعها لتتشوه. اغلب الأحيان كان يتخيل بأنه يجب القضاء على القائد ويتضرج في دمائه.. ليقارن بين دمه الحقيقي ودم ظله ليعرف ايهما ملامح حقيقية لانسان لايتخلى أحلامه الشريرة.
وكان من الممكن أن يبدد ذلك الصمت المخيف بسؤال ويقول: (أيها القائد.. كل الذين أحببتهم فقدوا تحت المطر المدرار..، هل تسمع تلك الاغنية من تحت التراب..؟. أنت أيها القائد الحبيب.. تريد أن تكتب خطط الحرب فوق اجنحة الريح، كنت تريد أن تملأ عيوننا بألوان النار، لكن المطر محا المسالك. انت أيها الأنسان العظيم.. تريد أن تقف الأرض بين النوم والموت عن دورانها.. لا أعتقد..، أنت جدير للقتل أيها القائد أكثر شفقة. سيدي الوقت متأخر للعودة، ها هي تقترب اصداء الأغاني.. الاغاني المختلطة بطقوس المساء تنسكب مثل المطر في أرواحنا، مهما حاولنا لامفر للخلاص.. نحن أقرب الناس اليها ولا ينجدنا أحد، أغلق الهاتف، فقد قتلتني الوحدة.
كانت الاغاني تقترب.. ثم أقرب، كانوا ينظرون الينا خلف النوافذ الصغيرة، لكثرة ما كانوا يغنون بألم، حين يصطدمون بأي شىء يتركون خلفهم قطرات من الدم.. لم يستغرق كثيرا ذكريات الطفولة والحروف المسمارية وجسد القائد والهاتف الذي أمامه، غرقت في الدم الذي يسقط منه الضوء، في هذه اللحظة المليئة بالقلق والخوف، كان القائد لايتوقف عن الكلام، الى أن تغرق الأشياء في الدماء أكثر وتختلط احاديثه.
أخيرا مثل رجل عار من العصور الحجرية يدافع عن بيته المظلم كان يسكب الحروف بالعيون.. كأن الجنود يمرون داخل أجسادنا كالظلال، مع كل عبور.. كانت الاغاني تترك ذكرياتها أو مثل حلم.. هادىء.. تبقى في أجسادنا ساكنة لكي تمنح معنى للحياة، وتقول لنا: ( أين أنت أيها العشق..؟!!).
* كاتب كردي من المواليد مدينة السليمانية، ومن اعماله المنشورة (غرفة دليا- مجموعة قصصية، آفات الكلمات- رواية قصيرة- من منشورات مؤسسة سردم للطباعة والنشر، حديقة الضفادع- مجموعة قصصية منشورات مؤسسة سردم، الكتاب الزجاجية- مجموعة قصصية ينشر قريبا من قبل دار النشر للطباعة والنشر، الجروح البيضاء- مجموعة قصصية قصص مترجمة- حاضر للطباعة. كما حصل الكاتب على جوائز الأدبية من قبل مركز كلاويز الأدبي، ومنظمة حقوق الأنسان الأمريكية...الخ. يعمل الآن في جريدة كردستاني نوى جريدة يومية ينشرها اتحاد الوطني الكردستاني
حين كان القائد يتحدث.. يتحرك يمينا ويسارا ويدور على كرسيه الدوار ويحدق الضابط بعض الحين بنظرات قاسية،كأنه لم يكن متوقعا أن يدخل من دون استئذان. كان يتناهي الى سمعه صوت.... بالخوف والقلق عبر الهاتف، ويقول: (نعم سيدي.. نعم سيدي القائد..!). وضع القائد الهاتف.. وطلب بسرعة قسما آخر من قوة العسكرية، كان واضحا انها الوحدة الطبية.. نعم، كان هكذا... والذي توقعته كان طبيب قوتنا..، عرفت صوته في الهاتف: (نعم سيدي.. الجثث لازالت تحت التراب.. لايكفون عن الغناء والمطر مستمر...!).
كان الدم يفور في عروق القائد.. لحظة أثر لحظة وتستطيع قراءة عينيه بسهولة، اللتين يتراءى فيهما خوف وقلق والموت. كنت احس بأن هناك خوفا خلف العيون، خوف أعطاه حقا للبقاء والاستمرارية ليدافع عن وجوده وبقائه بشتى الاساليب.
وضع الهاتف في فرصة ما.. كأنه لم يشعر بأن الضابط كان واقفا امامه لفترة دون حراك، كان يقول في نفسه: (فقد جعلتني الحرب من أكثر الرجال قساوة...). الضابط الذي دائما على عاتقه الواجب العسكري قال: (نعم سيدي). أكمل القائد الحديث مع نفسه.. أراد الضابط أن يستغل هذه الفرصة ويبدأ بالكلام.. لم يسنح له الوقت لأنه في الوقت الذي أراد أن يبدأ بالحديث، كان القائد يتصل بالوحدات واحدة تلو الاخرى..، ففي هذه الحالة رغم ان الضابط كان عارفا بكارثة الجثث الى حد ما، وكان بريئا تجاه هذه الأحداث، لكن الآن ظهر أمام عظمة القائد... الخوف والريبة في دخيلته، كانه لم يكن أمامه الا أن يصرخ ويقول: (سيدي.. لقد تعذبت روحي أكثر من هذا.. أنا مسؤول). كان الضابط له الحق في ذلك، عندما كان القائد يتحدث مع نفسه، كان يحدق في عيونه الهادئة، كان نوع نظراته أشبه بمتهم واقف أمامه ليحاكمه، كان الضابط لايجد في نفسه اية تهمة، لكن الاستفسار ونوعية مكالمة القائد عكرا هدوءه، لذا تغير لون ملامح القائد، وهو بدوره ايضا ازداد لونه بياضا، ومع تغير طبقة صوته كانت طبقة صوته ايضا تتغير من تلقاء نفسها ويبلغ ريقه، عندما كان القائد تنتابه الهستيريا أثر غضب جنوني وينهض واقفا..، هو أيضا يرتب هندامه ويقف في حالة استعداد، حين تلمع عينا القائد أثر ضحكة دموية.. وهو بدوره يلاحظ في عينيه ابتسامة، وحين يهدأ القائد لهنيهة وتدمع عينيه، وهو أيضا يعود بخياله وأحاسيسه الى لحظات الطفولة لجمع حبات الزيتون والجذوع اليابسة في الباحة، عندما كان يسود الصمت، كان كل شيء يهدأ ويستكين..، عيناه كانتا تستقران على بعض النقاط التي لم يكن لها أي معنى في السابق، على سبيل المثال: الزخارف التي على قوس محجن القائد، كانت محفورة عليها بالخط الكوفي القديم ومكتوب عليها، (انت جدير بالموت)، زرر معطفه العسكري بالازرار المصنوعة من نيكل، داخل ذلك الفضاء الصغير، كان هناك رمز كبير لصراعات الحياة..هناك راهبة بثياب أسود.. وصليب أحمر مثل سقوط أول قطرة للدم وكان محفورا على جبينها. في تلك الدنيا الهادئة حدق في كافة أشياء.. واحتياجات القائد واحدة تلو الاخرى. القائد يتكلم باستمرار، ربما لايعلم بأن الضابط كان واقفا أمامه لفترة.. فقد تعلم القائد من حكمة الحرب، بأن الكلام يجعله ينسى الذي أمامه ولا يراه، أو يجعله يمحو الذكريات الحلوة، لذا كان يبحث عن أقرب فرصة لكي يثير سؤالا ويبدأ بالحديث.
الضابط كان يعرف بأن أجمل فرصة للحديث في الحرب هو السؤال، ليس في مقدوره الانتظار أكثر وهو واقف..ويعرف بأن على عاتقه واجبات عسكرية اخرى يجب تنفيذها، ان استمرار المطر على مدى ثلاثة أيام بلياليها لايدع مجالا لتحديد تحركات و مواقع العدو نقطة تلو الاخرى.. الخطة العسكرية التي وضعوها لهجوم مباغت وقفت كلها، فقد محا المطر كافة الخطط، وفي الليل عندما كان يهطل المطر مدرارا عند الليل، كانت الدنيا تستحيل الى الضباب والظلام.
ان جميع الاناشيد الوطنية التي كانت تنشد في الأيام السابقة في التدريبات العسكرية الصباحية بصوت واحد صارت اغنية يغنيها بنفس واحد الذين كانوا يحبون الحياة..، كافة الأناشيد.. الأناشيد الوطنية تحولت الى اغنية للمطر.. مطر يحيي اتربة الموتى.
صار الضابط يائسا من أن يقول شيئا معه، في الفترة الزمنية التي كانا فيها معا اختبرا تصرفات وأفعال بعضهما البعض، كان يعرف بأن القائد يحتاج الى مزاج للسؤال والكلام.. رغم هذا، كان عليه ان يحفر ذلك الجدار ويصل اليه بدون موعد مسبق.. في نفس الوقت اختبأ خوف ما في دخيلته، كان من المفروض ان لايتسرع في المجيء، الى ان يخطط خططه بشكل هندسي ويدرس كل صغيرة و كبيرة لكافة الأحداث غير منتظرة، رغم انه كان مقتنعا بأن الخطة التي وضعها لايعمل بها لا في الماضى ولا في المستقبل.. كل مرة عندما كان يحدق بالخارطة على ضوء القمر والنجوم، كانت الخطوط تظهر بشكل دائري.. ثم تختفي، كل جولة داخل الخطوط التي اخذت شكل نسيج العنكبوت يتجول في نفس نقطة البداية ونفس اليأس والاجدوى، الضابط بعد تأمل عميق كان يريد قفط أن يقول: (سيدي.. القائد، الخطط مناسبة حاليا، لكن أنت في هذا السرداب لن تستطيع أن تجد الجانب الآخر للضوء).
***
كان مقر القائد تحت الأرض بعمق ثلاثة أمتار، والدخول من البوابة الاولى صعب جدا، بالأخص لضابط شاب لأول مرة يرى في خطوط التماس أشبح العدو، هناك ست درجات للدخول بزاوية (40)درجة مصنوعة بشكل هندسي منتظم من القرميد الأحمر ورمل الصحراء، الضوء ينتشر فقط لحد المدرج الرابع، وفي الخامس والسادس قبل اتجاه أو انعطاف من زاوية اليسرى، كان هناك ظلام دامس.. اضافة الى تلك المدرجات التي أخذت شكلا آخر، كانت هناك اربعة مدرجات اخرى، لكنها ضيقة، اذا لم يكن الشخص خبيرا سوف تلامس كتفاه الجدار الترابي. قبل ان تصل قبالة باب غرفة القائد.. هناك فسخة للاستراحة والتقاط الانفاس.. نعم، هناك بالضبط أمام الباب دائرة من الضوء ترسم على الأرض خارطة مضاءة، خارطة مثل قطعة مرآة تلعب بوجه الشمس، الوقوف تحت الضوء يخطف ماء البصر.. عندما كنت تلتفت الى خلف لاتجد غير الظلام، لذا فمواجهة غرفة القائد تصير محالا، كان القائد يظن بأن دائرة الضوء تلك كأنها فخ للطريدة، كان يتعرف على ظلال كافة الجنود داخل تلك الحلقة الخيالية..، تلك الفترة الطويلة التي قضاها القائد في الحياة العسكرية تعلم خلالها بأن هناك شخصا ما خلف الباب، ربما حركة صرصار أو لعب الفئران..، أو نزول التراب وسقوط حبة رمل، أو الاحساس بأن دائما شخصا سوف يزوره ليبلغه نبأ ما، جعله هذا بأن تكون عيونه مفتوحة باستمرار وآذانه منتبهة لحركة فعل ما، لذا في أغلب الأحيان اذا أحدهم لم يطرق الباب كان القائد ينادي عليه: (ادخل.. ماذا تنتظر..؟)، الجنود كانوا يقولون: (القائد يعرف أسماء كافة النجوم والأبراج، لايمكن أن لايتعرف علينا)، الضابط يجيبه: (سيدي.. لندع الجثث لحالها، الجنود لايكفون عن الغناء). القائد يلتفت حوله كأنه في حالة تفكير عميق ينظر الى أبعد نقطة.. يذهب بخياله لتفكير ما الذي يقرر خلاله قرارا صائبا، كان يتعب بقدر تفكير عميق بصوت واهن كانه يتحدث مع نفسه: (دع.. لانتسرع حاليا، حين يتوقف المطر فتعال الي)... (سيدي..، لقد انتهى المطر.. القمر يظهر بوضوح، فاخرج مرة واحدة تستطيع أن تخصي النجوم واحدة تلو الاخرى.. وان تتعرف على ابراج الحظ، اصبحت في هذا السرداب جزءا من الظلام وانطفأ الضياء في عينيك، تعال انظر الى الجنود يغنون وهم نيام اغنية الموتى..!).. فقد انتشر الضوء تماما داخل السرداب خلل تلك النوافذ التي استحكمت بأكياس من الرمل، وكانت هناك خلف القائد مجموعة من الكتب حول فن القتال، ومجموعة من المخلوقات الاسطورية كانت محفورة باللونين الاسود والاحمر على احجار المرمر والقواقع..، وفي اعلى الرف كان قسم من خطوط حمورابي الهندسية معلقا بصورة عمودية. كان وسط الرف مليئا بلعب الأطفال.. تلك الألعاب التي كان القائد يلعب بها في الطفولة.. في الطفولة وفي الحديقة الصغيرة في الباحة، كل تلك الأشياء التي كانت للقائد باقية كما هي دون العبث بها، دون أن يلاحظ بأن الاتربة والغبار للايام الخوالي تغطيها. هناك نافذة قبالة القائد في الجهة حيث تدخل أشعة شمس الصباح، كانت تصنع ضوءا سحريا خارقا فوق لعب الأطفال. كل نافذة كانت رمزا لسفر الشمس واحصاء لحظات الضياء.. النافذة التي خلف القائد كانت رمزا للغروب.. والنافذة التي خلف رأسه من الزاوية اليسرى للسرداب كانت علامة لوسط زرقة السماء، القائد دائما كان يخشى الظلمة.. الظلمة التي كان الجنود أرادوا أن ينجوا منها بالغناء، نعم في تلك اللحظة حين كنت أرى القائد حانقا وتضربه أشعة شمس تموز في تلك الظهيرة بشكل عمودي، كنت أرى ظلا برتقاليا يمر فيه جدول من الدم الأسود..
نقل نظراته باتجاه الكتابة المسمارية.. كان احساس ما يقول له: (اذا ما قرأت تلك الكتابة، سوف يحق لك ان يكون لك عمر الفراشة، ويقول له بصوت ما.. اذا شرحت تلك الكتابة ستعرف من الذي ارتكب أول جريمة بشرية... كان يقول له خيال طفولي: (اذا فسرنا تلك الكتابة..، سوف نكتشف عنصرا جديدا ما بين الريح والمطر.. ربما طفل عيونه مليئة بضوء ساطع ذي ظل أزرق، عيونه كانت تستقر فوق الحروف التي تمتزج بعض مرات وتبهت مرات اخرى، كأنها عملت فيها نقوشا بصورة مقصودة. كانت الحروف تتحول الى أسارب من الطيور التي تسافر سفرا أبديا عبر الظلام دون أن تتحرك أجنحتها، أو كان ينتابه الخوف والقلق على أن تكون هذه الحروف حربا بين الجمل والمعاني.. حربا أكثر دموية من أن تعطي معنى آخر للحياة، معنى تكون كل تفسيرات مستحيلة أمامه.
لم تكون وجودا للكينونة السؤال..، سؤال كأنما له وجود ما ويتلمس باليد، وليس مثل شبح في أبسط التعريف أن يذهب بسرعة الضوء ويوصد على نفسه أبواب الهجرة.
وصل الضابط من أقصى اليأس الى نتيجة بأن الحرب والموت شىء محقق وما تكون نهايتهما. أنه الظلام.. الظلام الذي كان الجنود دائما يطلبون هطوله، صرخة ما تترك خلفها سؤالا ما: (أين أنت أيتها الحياة..؟؟!).
- سيدي..!! لقد توقف المطر، والجنود لايكفون عن الغناء..
الضابط كان يحدق في القائد بعيون كأن البكاء بهتها، ثم كان يلاحظ صمتا في ملامحه.. صمتا كأن كل شيء بالمرئي واللامرئي في سكون أبدي.. سكوت كان يجب أن يرتكب جريمة ما لكي تغير الأشياء ايقاعها. الضابط كان يعلم بأنه لايجوز في الحرب أن تأخذ الأشياء مسارها بصورة اعتيادية ولاتكون في مواقعها لتتشوه. اغلب الأحيان كان يتخيل بأنه يجب القضاء على القائد ويتضرج في دمائه.. ليقارن بين دمه الحقيقي ودم ظله ليعرف ايهما ملامح حقيقية لانسان لايتخلى أحلامه الشريرة.
وكان من الممكن أن يبدد ذلك الصمت المخيف بسؤال ويقول: (أيها القائد.. كل الذين أحببتهم فقدوا تحت المطر المدرار..، هل تسمع تلك الاغنية من تحت التراب..؟. أنت أيها القائد الحبيب.. تريد أن تكتب خطط الحرب فوق اجنحة الريح، كنت تريد أن تملأ عيوننا بألوان النار، لكن المطر محا المسالك. انت أيها الأنسان العظيم.. تريد أن تقف الأرض بين النوم والموت عن دورانها.. لا أعتقد..، أنت جدير للقتل أيها القائد أكثر شفقة. سيدي الوقت متأخر للعودة، ها هي تقترب اصداء الأغاني.. الاغاني المختلطة بطقوس المساء تنسكب مثل المطر في أرواحنا، مهما حاولنا لامفر للخلاص.. نحن أقرب الناس اليها ولا ينجدنا أحد، أغلق الهاتف، فقد قتلتني الوحدة.
كانت الاغاني تقترب.. ثم أقرب، كانوا ينظرون الينا خلف النوافذ الصغيرة، لكثرة ما كانوا يغنون بألم، حين يصطدمون بأي شىء يتركون خلفهم قطرات من الدم.. لم يستغرق كثيرا ذكريات الطفولة والحروف المسمارية وجسد القائد والهاتف الذي أمامه، غرقت في الدم الذي يسقط منه الضوء، في هذه اللحظة المليئة بالقلق والخوف، كان القائد لايتوقف عن الكلام، الى أن تغرق الأشياء في الدماء أكثر وتختلط احاديثه.
أخيرا مثل رجل عار من العصور الحجرية يدافع عن بيته المظلم كان يسكب الحروف بالعيون.. كأن الجنود يمرون داخل أجسادنا كالظلال، مع كل عبور.. كانت الاغاني تترك ذكرياتها أو مثل حلم.. هادىء.. تبقى في أجسادنا ساكنة لكي تمنح معنى للحياة، وتقول لنا: ( أين أنت أيها العشق..؟!!).
* كاتب كردي من المواليد مدينة السليمانية، ومن اعماله المنشورة (غرفة دليا- مجموعة قصصية، آفات الكلمات- رواية قصيرة- من منشورات مؤسسة سردم للطباعة والنشر، حديقة الضفادع- مجموعة قصصية منشورات مؤسسة سردم، الكتاب الزجاجية- مجموعة قصصية ينشر قريبا من قبل دار النشر للطباعة والنشر، الجروح البيضاء- مجموعة قصصية قصص مترجمة- حاضر للطباعة. كما حصل الكاتب على جوائز الأدبية من قبل مركز كلاويز الأدبي، ومنظمة حقوق الأنسان الأمريكية...الخ. يعمل الآن في جريدة كردستاني نوى جريدة يومية ينشرها اتحاد الوطني الكردستاني