بأرهاج مات
أحمد وحيد في غرفته، يشبك يديه إلى الخلف؛ كما يفعل "كولومبو" حين تحيّره جريمة بوليسية. وبذهول يرنو إلى أفقِ في داخله، متذكراً، عبر ومضات سريعة، حياة أخيه الكبير ("الأب الصغير" كما يحب أن يسميه).. مضى على موته الآن عامان. نخره مرض السرطان كما السوسة. أصابه في مقتل، ومات متأثراً به. ورغم الرِّحْلات الماراتونية إلى الرباط ، والأموال الطائلة التي أنفقت .. كل ذلك لم يفد في شيء .. السرطان كان قد استوطن، ولم ينفع معه لا مال، و لا عطار، ولا استعطاف زمن .. لم يدعه المرض الخبيث إلا بعد أن قضى وطره منه..كل شيء في البيت يذكره بأبيه الصغيرعلاّل .. صوره، ولوحاته التي رسمها بريشته، وفي ركن من المكتبة كانت تتبدى رواية "بطل من هذا الزمن" للشاعر الروسي الكبير ألكسندر ليرمونتوف، والتي كان يقرأ له منها بعض فصولها في ليالي الشتاء الطويلة، ولم يكن يملّ أبداً من تَكرار فصل بعينه، يتعلق برؤية البطل "بتشورين" للقدر .. "أتراه كان يحزر قدره؛ ولهذا السبب كان يكثر من قراءته؟!.."
أما اللوحة المعلقة في واجهة البيت فطالما ناقشه أحمد في تيمتها المتمثلة في زورق فارغ من الداخل، بدون مجدافين، وسط اللجة، تتلاطمه الأمواج .. كان يقول علال لأخيه:
" لو طلبوا مني أن ألخص عمري في رسم ما كنت لأختار غير زورق فارغ وسط البحر!"
علاّل كان يحسّ بأنه مريض بالسرطان. ويوم أخبره الأطباء في الرباط، امتقع لونه، ولم ينبس ببنت شفة مدةَ ثلاثة أيام. كان ذلك مأتماً حقيقياً لأمه، ولأحمد، وللأسرة كلها. وحين تعايش مع مرضه وبدأ يستجيب للعلاج لم يكن يدع أمه يوماً دون أن يقبّل رأسها، إلى درجة الشك في تصرفاته! كان يبدو أحياناً شخصاً آخر، يأتي بأفعال مريبة، ولكنه حين يتحدث يقول حكماً، وأحياناً نكتاً بدَلَ أن تضحك كانت العيون بالدمع تتداعى لها..
يوم أخبرهم الطبيب المعالج بالنبإ الصاعقة، ارتعدت فرائص أحمد .. فأنْ يصاب المرء بالسرطان معناه موتٌ محقق، رغم ما يقال عن تقدم الطب. وخلال قيام الطبيب الجرّاح بجولته، متفقداً مرضاه،سأله أحمد، والذعر بادٍ على محيّاه:
رجاء بروفيسور، اسمح لي بهذا السؤال: هل السرطان مرض وراثي؟..
الطبيب يتأمل أحمد مقدّراً حاله. يربت على كتفه. يسيران معاً كزميلين، ثم يجيبه بهدوء، لكنْ بثقة من يمنح معلومة ثمينة:
- "49% من المغاربة المصابين بالسرطان هم من أبناء منطقة الريف، وانتقال السرطان عبر الجينات الوراثية هو أكثر ما نخشاه .. وهذه الكثرة من مرضى السرطان بمنطقتكم لا يمكن تفسيرها إلا بهذا!..
أحمد يرخي أذنيه، احمرت وجنتاه، ومتلعثماً سأل:
- هل هذا معناه أني التالي في الإصابة بهذا المرض؟!
- الطبيب أراد أن يخفف من فزع أحمد، فقال له مبتسماً:
الأعمار بيد الله أسّي أحمد، ولكني أقول فقط إنّ السرطان في منطقة الريف له سببُه، وهذا ما يفسرانتقال هذا الداء بالوراثة من جيل لآخر!..
لماذا يتذكر أحمد كل هذه التفاصيل الآن؟ ولِـمَ تصحو الذكرى، ومعها هذا الكم من الألم كل يوم جمعة بالذات؟!
الجمعة!.. هو اليوم الذي سلم فيه علال روحه لباريها، فكيف لأحمد أن ينسى؟ و أي دواء يقيه سيول التفكير التي تعصف برأسه؟.. إنها التفاصيل التي تنبت في الشرايين، تنداح في جوفه كل يوم، وفي الجمعة تنتشر في كل الأوصال .. تتوالد في جسمه سرطانات تنهش لحمه،عقله، كِيانه... تتولى وظيفة الدم، تسري في عروقه لا ليحيا، بل ليموت ألف مرة كل لحظة، وفي الجمعة تحديداً يصبح مثل هيكل.. ورقة في مهب الريح، تسوقه الذكريات، كما الريح، أمامها، تهجم وتهجم، إلى أن يغرق في حصاد الذكرى، ولا تدع له مجالاً سوى لأنْ يسافر إلى الرباط. جسمه هنا في تمسمان، وروحه في الرباط!.. سيظل يتذكـر حتى لا ينسى... لم تفضل غير الذكرى..
كان قد تعوّد أحمد على أن يسافر مع أخيه "علال" إلى الرباط للعلاج، وكان قريباً منه في كل لحظة، وأفظعها يوم كان يُحتضَر .. حصل ذلك ليلاً من يوم الجمعة، ولم يكن في الغرفة أحد غيرهما. كان الوقت متأخراً، لكن الموت كان يستعجل علالاً. أمسك أحمد بيده. كانت باردة كما الثلج. بدا أصفر بشكل مخيف،ابتسم في وجهه وقال له:
"سامْحَيي أمِّينُو .. سامْحَمَيِي.
تربى أحمد في كنف أخيه بعد موت أبيه، ولم يُنادِه بـ (أمّينو)، وكانت أول مرة يسمعها منه هي لحظة الموت. الكلمة ستؤثر في أحمد كثيراً. وبسببها بدا كما لو كبر عاماً في لحظة... ساد الصمت. علال مسجى على سريره، وأحمد واقف أمامه، وبرباطة جأش يقبّله على جبهته، ويقرأ الفاتحة بصوت كانت له غنة وإرنان. وبعد ذلك، ينخرط في بكاء هستيري أيقظ وأثار كل من كان في عنبر المشفى...
"سامحيي أمينو ..
"سامْحَمَــيــي"!
تلك كانت آخر ما نطق به أخوه. ستظل العبارة تسكنه، يرددها في داخله. كلما مرت السنون، تنتعش في داخله أكثر .. ومن سيُسامح مَنْ؟... إنه السؤال الذي يجف في الحلق، ويكسر الصمت، ويلعلع في الأرض كرصاص عصابات المافيا..."سامْحَمَــيــي"!
أسرة أحمد ستسامح ابنها البار علاّلاً. لقد بكاه الحي بأكمله، ودفن في جنازة مهيبة، لكنهم لن يسامحوا أبداً من كان السبب في هذه " المأساة " الريفية... أحمد وغيره من أترابه باتوا مقتنعين بأن إصابات السرطان في منطقة الريف سببها "أرهاج"، الذي كانت تنفثه طائرات العدو انتقاماً من الهزيمة في معركة أنوال...
سيظل كلام البروفيسور يرن في أذني أحمد، لا يبرح تفكيره .. بات يحمل في داخله همّاً آخر. فكم منزل في الريف حصد منه السرطان بعض أفراده، وكم من شهيد مات، احتضنته تربة أرض لم ينبت بها زرع بسبب "أرهاج" إسبانيا، وما ارتوت ولا ارعوت، بل ستظل تقول: "هل من مزيد أيها الريفيون الذين يركبون رؤوسهم، ويجسرون على أسيادهم... اشربوا إذاً لقاء تمردكم .. اشربوا من نهر صنيعكم... فأيديكم أوكتت، وأفواهكم نفخت..."
أحمد رغب عن الزواج، رغم إلحاح والدته، ووهب نفسه لقضية تشغله باله كله .. لقد أصبح عضواً نشيطاً في "جمعية الدفاع عن ضحايا حرب الغازات السامة بالريف"، وآل على نفسه أن يربي أولاد أخيه علال، وأمه التي لا تكف عن دعوته للزواج كان يقبل رأسها، ويقول لها:
"حسبي أولاد أخي، أما عن نفسي فقد وهبتها لقضية ضحايا أرهاج"...
ويستمر السرطان في حصد أرواح أبناء الريف... ويستمر الصمت أيضاً، لكن ليس إلى الأبـــد!...
02/9/2012