- خرجت إلى ساحة الدار المكتظة بحزن السنين القادمة، يتلعثم الصمت في حنجرتها، ويلفها السكون وتتسكع الكثير من الأسئلة في زواياها الضيقة، تلك الأسئلة تغط في سبات عميق وسرعان ماتستيقظ حائرة، تبحث عما تلتهمه وهي تجول في محاجرها الصغيرة، أرهقها الخوف وفتت الترقب آمالها. كانت واقفة على عتبة الباب، صالبة طولها الذي بدأ يستسلم وهو يتجرع الهموم كل يوم من كؤوس الأوهام والهواجس، ينحني جسدها الهزيل احتراما واعترافا لها بما تطويه ضلوعها من ألم. وكأن الطبيعة البشرية جاءت سخية رغم أنها لا تفقه ذلك الألم الذي ينخر في نفسها. تتسلل نسمات الليل الباردة، تهب من الشمال محملة بالندى الذي تمتزج معه رائحة زهور الطلح المختلطة بروث البهائم الهاجعة في حظائرها الواقعة خلف البيوت.
كانت السماء مرصعة بالنجوم ولا تكترث لبرق لحظة كشفت عن غيوم ترتجف في أكمامها، ثم اختفت. والرياح بدورها تتجول في ساحة الدار وتحمل في طياتها أصواتاً تزمجر بفحيح ينم عن قلق وحذر وترقب. وكالعادة، يخيم الليل بصمت على أطرافها، وتسكن عيناها، وأجفانها محدقة في أشباحه حتى تتبخر مع الفجر، كل هذه المثيرات حولها لم تكن تتنبه لها (شقراء). لأن كل ما تشعر به هو أن العالم في تلك اللحظات مجرد احتمالات لاحصر لها. وحبال الأفكار التي تتدلى منذ يومين أو أكثر تشرب من زفرات صدرها.
كل مايستحوذ على اهتمامها هو أن تشحذ عزيمتها وتدرب يديها الصغيرتين على تمرير حد شفرة سكينها الصدئة على ظهر حجر مصقول. فمنذ عدة سنوات حين كانت ابنة الثلاثين ربيعا، كانت تشمئز من الهواجس ومباغتاتها، حينما تذكرها بلحظة تجر فيها الخروف بوبره الأسود وقرنيه البارزين، وكيف كانت تحاول ألا تقع عيناها على عينيه قبل أن تمد يدها لتذبحه، تربت على عنقه ثم تجز أوردته. كان كل همها كيف سيفصح النهار عما خبأته عدة ليال في صدرها، وكيف تطعم الأحد عشر دون أن يعلم بهم أحد.
آمنة الذروي