كنتُ مهزوما بجولتين للا شيء وفي طريقي إلى خسرانٍ أكيد في الثالثة. عقلي مشوّش وأفكاري مشتتة منذ واقعة الصباح. يوم الخسارات تظهر علاماته منذ الساعات الأولى. وفألي السيء جاءتني تباشيره على الريق هذا الصّباح... لا أدري كيف رميتُ "الجّوكيرْ"، أنا الذي توعّدتُ خصمي بأن أسُدّ عليه به. هزمني في جولتين متتاليتين وشرع في السرية مني، مكررا أنه سيُكْرمني الليلة أيضاً. توعّدته بأن أُذِلّه بإنهاء اللعبة بإهانته، بحيث تكون ورقة الجوكيرْ هي "السدّادة".
كنّا لوحدنا الليلة. باقتراح منه، بدّلنا المكان المعتاد الذي ألفنا اللعب فيه مع بقية "العصابة". حين وصلت لم أجد البطانية التي اعتدنا افتراشها ولا كثيرا من عناصر سهرتنا. حضرتُ قبلهم جميعا الليلة. أرسلتُ له رسالة قصيرة "ما كايْن حدّ ف الصالون". بعد لحظات، وصل التهامي. لم يعجبه المشهد. "ماذا نفعل هنا وحدنا وبدون مْلاية؟ ثم إن الأرض مسقيةٌ جيدا اليوم، صرنا لا نقدر على تحمّل برد الگازونْ حتى ونحن نفترش تلك البطانية الثقيلة، فكيف لنا بافتراش الأرض المعشوشبة المشبعة رطوبة! هيّا، قم لنذهب إلى مقهى أو أي مكان غير هذا". قال وهو يجول ببصره في أشجار الفضاء الأخضر ورياح الخريف تهزّ أوراقها. وجدتُ أن المقهى الذي اقترح أن نقصده بعيد. اتفقنا على الذهاب إلى هذا الـ"أي مكان آخر". قصدنا صديقنا عبد العزيز. حتى ورق اللعب لديه. بعد أن تبضّعنا بعض البيمواتْ والدّكتين وخمس سجائر طلبنا منه الرّامي، القلم والورقة، اللذين لم نحتجهما أصلا في ما بعد. فقد قرّرنا لعِب الـ"Simple"، الذي لا تقييدَ فيه، بل يكون الـ"Talage complet". في تلك الجولة لم أدر كيف اخترتُ "الجّوكْ" تحديدا من بين الـ14 ورقاً التي كانت في يدي وطوّحتُ به فوق أوراق "القاعة". عندما حاولتُ استرداده اعترض بشدّة، وهو يوقف يدي الممدودة نحو الرّايْ الأحمر:
-أُوهُو لّا، ما يْمكااانشّ! السّامپّلْ هادا، ما فيشّ يا مّا ارحميني، لحتيهْ، صافي!
قال ضاحكاً وهو يُتْبع سحابة دخان كثيفة نفثها بانتشاء من فمه ومن ثقبَي منخره بدكّة من كأس شاي صغير.
كانت مكالَمة "المدير" نقطة التحول في مجرى اللعبة. "ألو خويا الطيّبْ، واش بخير؟"، قال في اتصال غير متوقّع. تابع: "شوفْ.. عافاكْ إلى ما تأكّدْ ليّ واش هادشّي صحيحْ.. شي واحْد تِيراوْ فيه بالقرطاسْ واحد شوية هادي فْگِليزْ.. شوف، شوفْ ليّ فديكْ التّابليت ديالكْ وْردّ عْليّ لخبارْ، صافي؟".. قال وهو يلهث. سمعتُ منه، وقد بدأ قلبي يخفق بشدة، أنه ينتظر ردّي. وضعت الهاتف جانباً وأوقفتُ الموسيقى في الجهاز الآخر. كان موضوعا قرب ركبتي فوق حقيبته الأزلية. التفكير في شراء بديل لهذه الحقيبة صار يؤرقني منذ مدة. في بداية الصيف انتبهتُ للأمر. بدأت تتمزّق من أماكن متفرّقة. لكن أنا الآن بدون عمل قارّ منذ فترة طويلة؛ لن يكون اقتناء حقيبة، أصلية كما هذه، ضمن أولوياتي على الأقل في الوقت الراهن.
-اسمحْ ليّ، ما بْقات موسيقى الليلة، القضيّة فيها القْرطاس!
قلتُ له، وأنا أتابع في شاشة العْدسة إدراجات عن خبر إطلاق النار داخل مقهى في الحيّ الشتوي.
-أشنـُو؟ لاواه المنجنيقّ، ماشي القْرطاس، ياكْ ما سكرتِ بالقهوة الكْحلة أخّا الطيّب؟ واش تتهضر بْلمعقول؟!
-وْمالي مْوالف تنعربطْ عليك ألسي التهامي؟ واخّا گاع نشربْ الويسكي، ماشي غيرْ قهوة كحلة من عندْ عبد العزيز، تنبقى عارْف أش تنگول وْأش تندير، ما تْخمّمش من هاد الناحية.. حْنا عسكرْ وْلاّ بْگرْ!؟
تناولتُ إلى الهاتف. نقرتُ على بعض الحروف وأرسلتُ تأكيدا للخبر في كلمة واحدة إلى "المدير" وعدتُ إلى العْدسة. كانت الصور الأولى للضحية (هاكّاكْ، مْسكين، بوْجهو تيبانْ وْالدّمايات) بدأت تتوالى في شريط صفحتي في مملكة ساحْبي زُوقِرْبيرقْ. لا حديثَ إلا عن حادث إطلاق النار في الجهة الثانية لحاضرة سبعة رجال. معظم مواقع الخيشپريسّ والهيشپّريس والكُوم والهاكُوم والنّيتْ وقلّةْ النّيْةْ طاحتْ على "الهُوتة". السيدْ مْرمي فُوق كرسي، مْخرّم بالرصاصْ وْغارْق فدْماياتُو، ومَواقيعْ الكيلو كأنها لا تُصدّق "الهْمزة" التي جاءهم بها هذا المساءُ البارد من خريف المدينة الحمراء، أي نعم، حمراء نيتْ بالصحّ هاد الليلة؛ حْمرا دْماياتْ.. كم هي مملةٌ هذي المدينة المُدّعية في هذا الخريف غير المبشّر!
وطبعاً، فقد تتالت فيديوهات وصور إضافية، أقرب وأفظع لجسد الضحية. ثم، بعد فترة وجيزة، صور جسد شابّة في مقتبل العمر نالتْ منها، بدورها، رصاصة غادرة. أفظع من ذلك، رموا في جوف أسلاك الإلكترون شريطا يُظهرها مسجّاة في دمائها، تُحتضر. اللاهثون خلف الصّبق السّحافي والعاجيلْ والانفيرادْ يسابقون الزّمن لنهش لحم الخبر نيئاً وجثث الضحايا أيضاً. وضعوا أقنعة "الهالويّين" من حيث لا يدْرُون (ولن يدرُوا) وانصهروا في الدور حد القرف.
أريتُه، مشمئزا، بعض صور الشاب وهو مضرج في دمائه وتدوينات وعناوين في صفحات و"مواقع" (وا حسرتاه على المواقع!) تصف ما حدث. صورٌ أخرى ظهرت وفيديوهات للشابة المصابة بطلقة في بطنها. رغم محاولاتها المستميتة، حدستُ نهايتها المحتومة، وأنا أوقف الشريط المقرف قبل نهايته. لم أستطع متابعة مشاهدة هذه الفظاعة حتى نهايتها. صرتُ لا أفتح بقية الفيديوهات التي سوّدت الصفحة تباعا ما لم أتأكد من أنها مُجرّد شهادة واحد ممّن عاينوا الفاجعة. من أين للبعض بكل هذه السادية والمازوشية والبرود والنوايا المجرِمة الخسيسة ليصوّروا جسدا سُلبت منه الحياة غصبا قبل لحظات قليلة فقط؟ أيُّ قلب يخفق بين ضلوع هذا الذي يتهافت ليلتقط شريطا لجسد فتاة في مقتبل العمر وهو يغتسل بدمائه، مصدرا أنّاته الأخيرة؟ فقط حتى ينزله في موقعه الضّحل، الذي لا يمكن أن يعيش بغير المتاجرة في مآسي الناس وخيباتهم وطيبوبتهم.
تململتُ في جلستي للمرّة الألف بعد مكالَمة "المدير"، حينها فقط فهم أن الأمر جادّ وأن أمسيتنا الهادئة قد نُسفتْ. بنظرة واحدة وكلمات مقتضبة، اتفقنا على إنهاء الجلسة.
-باينْ ليّ غادي نوخّروها الليلة فليڤيرناج، ياكْ أ وْستاد؟
-غالباً يا صديقي.. هادشي بزّاف أخويا، واه القرطاسْ گاع ونكمّلو السّهرة بْالرامي!؟ ما ديالناشّ!...
أجبته وأنا أقوم. نفضنا الهيضورة وطويناها؛ هرق ما بقي في كأس الشاي. وبما بقي في كأس القهوة السوداء سقيتُ نبتة بجانب النّخلة الرومية الصّغيرة التي تتوسط حوضا قريبا وأعدنا الجميع لصاحبنا، مُولْ الحمّار. ودعناه متبادلين كلمات مقتضبة حول تلك النبتة العجيبة التي يشدد على أنه يتبّل بها مقراج القهوة التي يبيع كأسا صغيرا منها بدرهمين، والتي لم أفلح حتى في تذكّر اسمها.
عندما صرنا بين منازل السّيسان المقابلة لسور أگدال، أخرجتُ العْدسة ونحن نخطو نحو دارهم. من شرفة إقامتي الأثيرية في مملكة ساحْبي الأمريكي الأشقر المحظوظ أطللتُ على السّيرك المفتوح على كل جديد وفضيحة. أخبار متعجّلة صيغت بلغة بائسة ونُسبت إلى مصادر "مطّلعة"، دون أن يعرف كثيرون على ماذا "اطّلعتْ" ومتى وكيف. في العادة أكتفي بالعناوين. حتى بعض هذه العناوين صارت تثير الدّهشة في زمن التهافت. بسطحيتها وقلة صدقيتها وتشابهها المفضوح، تبعث على السخرية أكثر من أي شيء آخر. العْشا الزّين تتعطي ريحتُو من العصرْ؛ وإذا نقرتَ على رابط فذنوبْك عْلى راسْك! ما هذا الذي يقترفه البعض باسم صاحبة الجلالة، وهي منهم براء؟!
كما وجهِ الشاب القتيل، سيظهر وجه المصابة. سيستباح جسدها النازف ويتُاجَر برعشات تشبّثها اليائس بآخر خيوط الأمل في حياة لا تَدْري أيَّ قدَر ساق لها رصاصة طائشة لتحرمها منها. الهالُويّون صاروا بأقنعة موحَّدة، بوجوه ضباع. وكما تفعل بالفريسة تلك الوحوش المقرفة، وُزّعت حرمة الأجساد الميتة والمحتضَرة على قبائل الكتَبة الجوعى إلى وهمٍ سراب ليس إلا في أدمغتهم، التي عشّش فيها قملُ الأزمنة المولّية. مَن سمع أصلا بمواقعكم وصفحاتكم المثيرة للغثيان حتى يهتمّ بالبحث عمّا تقترفون!؟
ونحن نعبر الشارع نحو الجهة الأخرى للبحث عن تاكسي، بدت لي حركة غير عادية في الأرجاء. لمحتُ شخصاً فوق درّاجة نارية يتنقل بين سيارة وأخرى في محيط المقهى القريب. سمعتُه يتحدّث لسائقيها عن نوع محدّد من الدراجات بالاسم واللون. الكلام نفسه الذي قرأتُه قبل لحظات في صفحة الصديق يونس، الذي كنّا نمر من قبالة دارهم في تلك اللحظة، وكان في مدخل الزقاق. قلتُ له:
-سمعتيهْ أش گالْ لهادُوك مّالينْ الطونوبيلات؟ تّي ماكْس كْحلة!.. هادا ما يْكون غير شي مْقدّم أو بنّاد.. ياكْ ما المقدّم عبد العاطي هاداك؟ تّي ماكسْ.. هيَ عْلاش كانو راكبينْ هادوك اللي تيراوْ فالسيد وقتلوه.. حْتـّى الـدّراري فالفيسبوكْ هادشّي عْلاش هْضرُو، تّي ماكسْ كْحلة.
في التاكسي، وكان من النوع الجديد، يركب ثلاثة أشخاص، أحدهم في المقعد الأمامي قرب السائق واثنان خلفهما. بدا أحدهما متضايقاً وعلى عجلة من أمره. ابتعد متأففاً نحو المقعد الشاغر قرب صديقه ليفسح لنا المجال لطيّ الكرسي الذي كان يجلس فيه حتى نمر إلى المقعدين الخلفيين في جوف الناقلة. صاحب التاكسي ضبط مؤشر الموجات على محطة إذاعية "ناشْطة"، ما سايقة خْبار لقرطاسْ وَلا لموتْ. كشكول غنائي على إيقاعات مرحة يقطعها، بين الفينة والأخرى، صوتُ مذيع مْفرْوح وَلا هو هْنا.. الشخص المتأفف يبدو أنه علم بما جرى في ليڤيرناجْ. ظل يردّد كلمات من قبيل "لا حول ولا قوة إلا بالله" و"يا رْبّي السلامة"، فيما مرافقه يكتفي بالتأمين على كلامه بهزّ رأسه نحو الأعلى، وهو يشرد بنظره عبر الزجاج.
دخلت العربة بالكاد حدائق أگدال حين أخرجتُ عْدستي من محفظتها. في صفحات التواصل الاجتماعي انتشرتْ بكيفية رهيبة صور الضحية الرئيسي مسجّى فوق كرسيه وقد سالت من رأسه بركة من الدماء. أمام الجثة هاتفان محمولان، وُضع أحدهما فوق الآخر، برّادَا شاي وكأس عصير يبدو أن أحدهم قد أجهز عليه للتو، وما يشبه قطعة حلوى لم يمسسها أحد في أقصى يمين الطاولة. بينما واصلت مواقع "الكيلو" قصفها، بلا ذرّة حياء، "عاااجيل.. صور حصرية وفيديو جديد للضحية!".. "حسْريّ.. هذه هوية القتيل -فيديو".. "انفيييراد: شاهد كيف أصيبت شابة كانت رفقة الطالب القتيل!"... أغلقتُ الجهاز وبدأت أفكّر في أن أقترح على صاحبي أن نعود من حيث أتينا بمجرّد ما يتوقف بنا التاكسي. لكنْ كان له رأي آخر. ركبنا سيارة أجرة صغيرة وجدناها متوقفة في عرصة المْعاش؛ كأنها كانت تنتظرنا. حشرنا جسدينا في أحشائها وتحرّكت بنا نحو الحي الشتوي. عدتُ إلى العْدسة وألقيتُ نظرة على شريط صفحتي الفيسبوكية. صورٌ وأشرطة فيديو مقرفة تنهش أجساد الضحايا. انتابني إحساس فظيع بالخواء واللامعنى. أشياء كثيرة تعيش خريفها في غابتنا الفظيعة هذه. الخريف يطوّق كل شيء من حولنا. إلى أين نسير؟! أظلمت الرؤية أمام عينَيّ واستبدّ غمّ ثقيل بكل ذرة في كياني؛ والتاكسي يقترب من الحي الشتوي. فيما كل شيء من حولي يوحي بخواء فظيع، بخريف غير مبشر يتربّص بالمدينة المُدّعية.
كنّا لوحدنا الليلة. باقتراح منه، بدّلنا المكان المعتاد الذي ألفنا اللعب فيه مع بقية "العصابة". حين وصلت لم أجد البطانية التي اعتدنا افتراشها ولا كثيرا من عناصر سهرتنا. حضرتُ قبلهم جميعا الليلة. أرسلتُ له رسالة قصيرة "ما كايْن حدّ ف الصالون". بعد لحظات، وصل التهامي. لم يعجبه المشهد. "ماذا نفعل هنا وحدنا وبدون مْلاية؟ ثم إن الأرض مسقيةٌ جيدا اليوم، صرنا لا نقدر على تحمّل برد الگازونْ حتى ونحن نفترش تلك البطانية الثقيلة، فكيف لنا بافتراش الأرض المعشوشبة المشبعة رطوبة! هيّا، قم لنذهب إلى مقهى أو أي مكان غير هذا". قال وهو يجول ببصره في أشجار الفضاء الأخضر ورياح الخريف تهزّ أوراقها. وجدتُ أن المقهى الذي اقترح أن نقصده بعيد. اتفقنا على الذهاب إلى هذا الـ"أي مكان آخر". قصدنا صديقنا عبد العزيز. حتى ورق اللعب لديه. بعد أن تبضّعنا بعض البيمواتْ والدّكتين وخمس سجائر طلبنا منه الرّامي، القلم والورقة، اللذين لم نحتجهما أصلا في ما بعد. فقد قرّرنا لعِب الـ"Simple"، الذي لا تقييدَ فيه، بل يكون الـ"Talage complet". في تلك الجولة لم أدر كيف اخترتُ "الجّوكْ" تحديدا من بين الـ14 ورقاً التي كانت في يدي وطوّحتُ به فوق أوراق "القاعة". عندما حاولتُ استرداده اعترض بشدّة، وهو يوقف يدي الممدودة نحو الرّايْ الأحمر:
-أُوهُو لّا، ما يْمكااانشّ! السّامپّلْ هادا، ما فيشّ يا مّا ارحميني، لحتيهْ، صافي!
قال ضاحكاً وهو يُتْبع سحابة دخان كثيفة نفثها بانتشاء من فمه ومن ثقبَي منخره بدكّة من كأس شاي صغير.
كانت مكالَمة "المدير" نقطة التحول في مجرى اللعبة. "ألو خويا الطيّبْ، واش بخير؟"، قال في اتصال غير متوقّع. تابع: "شوفْ.. عافاكْ إلى ما تأكّدْ ليّ واش هادشّي صحيحْ.. شي واحْد تِيراوْ فيه بالقرطاسْ واحد شوية هادي فْگِليزْ.. شوف، شوفْ ليّ فديكْ التّابليت ديالكْ وْردّ عْليّ لخبارْ، صافي؟".. قال وهو يلهث. سمعتُ منه، وقد بدأ قلبي يخفق بشدة، أنه ينتظر ردّي. وضعت الهاتف جانباً وأوقفتُ الموسيقى في الجهاز الآخر. كان موضوعا قرب ركبتي فوق حقيبته الأزلية. التفكير في شراء بديل لهذه الحقيبة صار يؤرقني منذ مدة. في بداية الصيف انتبهتُ للأمر. بدأت تتمزّق من أماكن متفرّقة. لكن أنا الآن بدون عمل قارّ منذ فترة طويلة؛ لن يكون اقتناء حقيبة، أصلية كما هذه، ضمن أولوياتي على الأقل في الوقت الراهن.
-اسمحْ ليّ، ما بْقات موسيقى الليلة، القضيّة فيها القْرطاس!
قلتُ له، وأنا أتابع في شاشة العْدسة إدراجات عن خبر إطلاق النار داخل مقهى في الحيّ الشتوي.
-أشنـُو؟ لاواه المنجنيقّ، ماشي القْرطاس، ياكْ ما سكرتِ بالقهوة الكْحلة أخّا الطيّب؟ واش تتهضر بْلمعقول؟!
-وْمالي مْوالف تنعربطْ عليك ألسي التهامي؟ واخّا گاع نشربْ الويسكي، ماشي غيرْ قهوة كحلة من عندْ عبد العزيز، تنبقى عارْف أش تنگول وْأش تندير، ما تْخمّمش من هاد الناحية.. حْنا عسكرْ وْلاّ بْگرْ!؟
تناولتُ إلى الهاتف. نقرتُ على بعض الحروف وأرسلتُ تأكيدا للخبر في كلمة واحدة إلى "المدير" وعدتُ إلى العْدسة. كانت الصور الأولى للضحية (هاكّاكْ، مْسكين، بوْجهو تيبانْ وْالدّمايات) بدأت تتوالى في شريط صفحتي في مملكة ساحْبي زُوقِرْبيرقْ. لا حديثَ إلا عن حادث إطلاق النار في الجهة الثانية لحاضرة سبعة رجال. معظم مواقع الخيشپريسّ والهيشپّريس والكُوم والهاكُوم والنّيتْ وقلّةْ النّيْةْ طاحتْ على "الهُوتة". السيدْ مْرمي فُوق كرسي، مْخرّم بالرصاصْ وْغارْق فدْماياتُو، ومَواقيعْ الكيلو كأنها لا تُصدّق "الهْمزة" التي جاءهم بها هذا المساءُ البارد من خريف المدينة الحمراء، أي نعم، حمراء نيتْ بالصحّ هاد الليلة؛ حْمرا دْماياتْ.. كم هي مملةٌ هذي المدينة المُدّعية في هذا الخريف غير المبشّر!
وطبعاً، فقد تتالت فيديوهات وصور إضافية، أقرب وأفظع لجسد الضحية. ثم، بعد فترة وجيزة، صور جسد شابّة في مقتبل العمر نالتْ منها، بدورها، رصاصة غادرة. أفظع من ذلك، رموا في جوف أسلاك الإلكترون شريطا يُظهرها مسجّاة في دمائها، تُحتضر. اللاهثون خلف الصّبق السّحافي والعاجيلْ والانفيرادْ يسابقون الزّمن لنهش لحم الخبر نيئاً وجثث الضحايا أيضاً. وضعوا أقنعة "الهالويّين" من حيث لا يدْرُون (ولن يدرُوا) وانصهروا في الدور حد القرف.
أريتُه، مشمئزا، بعض صور الشاب وهو مضرج في دمائه وتدوينات وعناوين في صفحات و"مواقع" (وا حسرتاه على المواقع!) تصف ما حدث. صورٌ أخرى ظهرت وفيديوهات للشابة المصابة بطلقة في بطنها. رغم محاولاتها المستميتة، حدستُ نهايتها المحتومة، وأنا أوقف الشريط المقرف قبل نهايته. لم أستطع متابعة مشاهدة هذه الفظاعة حتى نهايتها. صرتُ لا أفتح بقية الفيديوهات التي سوّدت الصفحة تباعا ما لم أتأكد من أنها مُجرّد شهادة واحد ممّن عاينوا الفاجعة. من أين للبعض بكل هذه السادية والمازوشية والبرود والنوايا المجرِمة الخسيسة ليصوّروا جسدا سُلبت منه الحياة غصبا قبل لحظات قليلة فقط؟ أيُّ قلب يخفق بين ضلوع هذا الذي يتهافت ليلتقط شريطا لجسد فتاة في مقتبل العمر وهو يغتسل بدمائه، مصدرا أنّاته الأخيرة؟ فقط حتى ينزله في موقعه الضّحل، الذي لا يمكن أن يعيش بغير المتاجرة في مآسي الناس وخيباتهم وطيبوبتهم.
تململتُ في جلستي للمرّة الألف بعد مكالَمة "المدير"، حينها فقط فهم أن الأمر جادّ وأن أمسيتنا الهادئة قد نُسفتْ. بنظرة واحدة وكلمات مقتضبة، اتفقنا على إنهاء الجلسة.
-باينْ ليّ غادي نوخّروها الليلة فليڤيرناج، ياكْ أ وْستاد؟
-غالباً يا صديقي.. هادشي بزّاف أخويا، واه القرطاسْ گاع ونكمّلو السّهرة بْالرامي!؟ ما ديالناشّ!...
أجبته وأنا أقوم. نفضنا الهيضورة وطويناها؛ هرق ما بقي في كأس الشاي. وبما بقي في كأس القهوة السوداء سقيتُ نبتة بجانب النّخلة الرومية الصّغيرة التي تتوسط حوضا قريبا وأعدنا الجميع لصاحبنا، مُولْ الحمّار. ودعناه متبادلين كلمات مقتضبة حول تلك النبتة العجيبة التي يشدد على أنه يتبّل بها مقراج القهوة التي يبيع كأسا صغيرا منها بدرهمين، والتي لم أفلح حتى في تذكّر اسمها.
عندما صرنا بين منازل السّيسان المقابلة لسور أگدال، أخرجتُ العْدسة ونحن نخطو نحو دارهم. من شرفة إقامتي الأثيرية في مملكة ساحْبي الأمريكي الأشقر المحظوظ أطللتُ على السّيرك المفتوح على كل جديد وفضيحة. أخبار متعجّلة صيغت بلغة بائسة ونُسبت إلى مصادر "مطّلعة"، دون أن يعرف كثيرون على ماذا "اطّلعتْ" ومتى وكيف. في العادة أكتفي بالعناوين. حتى بعض هذه العناوين صارت تثير الدّهشة في زمن التهافت. بسطحيتها وقلة صدقيتها وتشابهها المفضوح، تبعث على السخرية أكثر من أي شيء آخر. العْشا الزّين تتعطي ريحتُو من العصرْ؛ وإذا نقرتَ على رابط فذنوبْك عْلى راسْك! ما هذا الذي يقترفه البعض باسم صاحبة الجلالة، وهي منهم براء؟!
كما وجهِ الشاب القتيل، سيظهر وجه المصابة. سيستباح جسدها النازف ويتُاجَر برعشات تشبّثها اليائس بآخر خيوط الأمل في حياة لا تَدْري أيَّ قدَر ساق لها رصاصة طائشة لتحرمها منها. الهالُويّون صاروا بأقنعة موحَّدة، بوجوه ضباع. وكما تفعل بالفريسة تلك الوحوش المقرفة، وُزّعت حرمة الأجساد الميتة والمحتضَرة على قبائل الكتَبة الجوعى إلى وهمٍ سراب ليس إلا في أدمغتهم، التي عشّش فيها قملُ الأزمنة المولّية. مَن سمع أصلا بمواقعكم وصفحاتكم المثيرة للغثيان حتى يهتمّ بالبحث عمّا تقترفون!؟
ونحن نعبر الشارع نحو الجهة الأخرى للبحث عن تاكسي، بدت لي حركة غير عادية في الأرجاء. لمحتُ شخصاً فوق درّاجة نارية يتنقل بين سيارة وأخرى في محيط المقهى القريب. سمعتُه يتحدّث لسائقيها عن نوع محدّد من الدراجات بالاسم واللون. الكلام نفسه الذي قرأتُه قبل لحظات في صفحة الصديق يونس، الذي كنّا نمر من قبالة دارهم في تلك اللحظة، وكان في مدخل الزقاق. قلتُ له:
-سمعتيهْ أش گالْ لهادُوك مّالينْ الطونوبيلات؟ تّي ماكْس كْحلة!.. هادا ما يْكون غير شي مْقدّم أو بنّاد.. ياكْ ما المقدّم عبد العاطي هاداك؟ تّي ماكسْ.. هيَ عْلاش كانو راكبينْ هادوك اللي تيراوْ فالسيد وقتلوه.. حْتـّى الـدّراري فالفيسبوكْ هادشّي عْلاش هْضرُو، تّي ماكسْ كْحلة.
في التاكسي، وكان من النوع الجديد، يركب ثلاثة أشخاص، أحدهم في المقعد الأمامي قرب السائق واثنان خلفهما. بدا أحدهما متضايقاً وعلى عجلة من أمره. ابتعد متأففاً نحو المقعد الشاغر قرب صديقه ليفسح لنا المجال لطيّ الكرسي الذي كان يجلس فيه حتى نمر إلى المقعدين الخلفيين في جوف الناقلة. صاحب التاكسي ضبط مؤشر الموجات على محطة إذاعية "ناشْطة"، ما سايقة خْبار لقرطاسْ وَلا لموتْ. كشكول غنائي على إيقاعات مرحة يقطعها، بين الفينة والأخرى، صوتُ مذيع مْفرْوح وَلا هو هْنا.. الشخص المتأفف يبدو أنه علم بما جرى في ليڤيرناجْ. ظل يردّد كلمات من قبيل "لا حول ولا قوة إلا بالله" و"يا رْبّي السلامة"، فيما مرافقه يكتفي بالتأمين على كلامه بهزّ رأسه نحو الأعلى، وهو يشرد بنظره عبر الزجاج.
دخلت العربة بالكاد حدائق أگدال حين أخرجتُ عْدستي من محفظتها. في صفحات التواصل الاجتماعي انتشرتْ بكيفية رهيبة صور الضحية الرئيسي مسجّى فوق كرسيه وقد سالت من رأسه بركة من الدماء. أمام الجثة هاتفان محمولان، وُضع أحدهما فوق الآخر، برّادَا شاي وكأس عصير يبدو أن أحدهم قد أجهز عليه للتو، وما يشبه قطعة حلوى لم يمسسها أحد في أقصى يمين الطاولة. بينما واصلت مواقع "الكيلو" قصفها، بلا ذرّة حياء، "عاااجيل.. صور حصرية وفيديو جديد للضحية!".. "حسْريّ.. هذه هوية القتيل -فيديو".. "انفيييراد: شاهد كيف أصيبت شابة كانت رفقة الطالب القتيل!"... أغلقتُ الجهاز وبدأت أفكّر في أن أقترح على صاحبي أن نعود من حيث أتينا بمجرّد ما يتوقف بنا التاكسي. لكنْ كان له رأي آخر. ركبنا سيارة أجرة صغيرة وجدناها متوقفة في عرصة المْعاش؛ كأنها كانت تنتظرنا. حشرنا جسدينا في أحشائها وتحرّكت بنا نحو الحي الشتوي. عدتُ إلى العْدسة وألقيتُ نظرة على شريط صفحتي الفيسبوكية. صورٌ وأشرطة فيديو مقرفة تنهش أجساد الضحايا. انتابني إحساس فظيع بالخواء واللامعنى. أشياء كثيرة تعيش خريفها في غابتنا الفظيعة هذه. الخريف يطوّق كل شيء من حولنا. إلى أين نسير؟! أظلمت الرؤية أمام عينَيّ واستبدّ غمّ ثقيل بكل ذرة في كياني؛ والتاكسي يقترب من الحي الشتوي. فيما كل شيء من حولي يوحي بخواء فظيع، بخريف غير مبشر يتربّص بالمدينة المُدّعية.