أدب السيرة الذاتية أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة.. (الجزء الثاني (25 إلى 45)

-25-
- جائزة شومان

بعد عودتي من ألمانيا في العام ١٩٩١ أخذت أدرس مساقات الأدب الفلسطيني ومناهج النقد الأدبي ومذاهبه وموضوع في النقد الأدبي الحديث ، والمساق الأخير لطلبة الدراسات العليا ، حيث افتتح برنامج الماجستير .
في تلك الأعوام نشط قسم اللغة العربية بعقد مؤتمرات سنوية ، وكنت عضوا نشيطا وفعالا في لجنة المؤتمر ، وتمكنت والزميل عادل أبو عمشة ، الذي كان برأس قسم اللغة العربية في بداية تسعينيات القرن الماضي ، من عقد مؤتمرين ؛ أولهما عن الأدب الفلسطيني والانتفاضة وثانيهما تمحور حول ابراهيم طوقان ، تلاهما مؤتمر عن الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود أعد له الزميل خليل عودة الذي تسلم رئاسة القسم . ولما كنت عائدا حديثا من دولة غربية وكنت المتخصص في الأدب الفلسطيني والنقد ، فقد كانت مشاركتي ضرورية ، ولهذا كتبت ورقة لكل مؤتمر ، كانت قريبة الصلة من موضوع رسالتي الماجستير والدكتوراه .
ليست الرسائل العلمية التي نكتبها لنيل الشهادات هي نهاية الموضوع ، بل هي بداية - هكذا يفترض - يجب مواصلتها .
كان لما أنجزته في البحثين اللذين كتبتهما في الماجستير والدكتوراه تأثير كبير في المشهد الأدبي الفلسطيني وفي أبحاث زملاء وطلاب . وعلى سبيل المثال فإن أحد زملائي قرأ رسالة الدكتوراه وراق له منهحي وما كتبته عن رواية سميح القاسم " الصورة الأخيرة في الألبوم " فاستعار الرواية مني وتوسع فيما كتبته في رسالتي وسار على المنهج الذي اتبعته ونشر بحثا اعتمده لاحقا في تدريس مساقات الماجستير ، وأخذ يفتخر بما أنجز وبمنهجه في الكتابة .
صارت القصة القصيرة الفلسطينية موضوعا لطلاب الماجستير يكتبون فيها رسائلهم ، وغالبا ما كنت أقترح قاصا بعينه ، كنت درست نصوصه مع نصوص كتاب آخرين ، ليكتب عنه منفردا . وصار موضوع " الأنا والآخر " موضوعا حاضرا بقوة لم يقتصر في دراسته على نصوص من الأدب الحديث ، وإنما أخذ يخوض فيه الطلاب الذين يكتبون في الأدب العربي القديم ، فدرس طلاب الأنا والآخر لدى شعراء جاهليين وعباسيين وأندلسيين . وأكرر ثانية : لقد تركت رسالتا الماجستير والدكتوراه اللتان أنجزتهما ، وقد نشرتا في كتابين ، في ١٩٩٢ و١٩٩٣ ، ووزعتا في فلسطين ، لقد تركتا تأثيرا كبيرا في الحياة البحثية في فلسطين ، وربما يحتاج مدى تأثيرهما إلى دراسة إحصائية ، وقد تجاوز التأثير حدود جامعات الضفة وغزة إلى جامعات عرببة أخرى ، فكتب الشاعر المتوكل طه رسالة الدكتوراه الخاصة به " الآخر في الشعر الفلسطيني " في إحدى الجامعات المصرية ، وكتبت الزميلة أمل أبو حنيش رسالة الدكتوراه الخاصة بها ، في الجامعة الأردنية ، تحت عنوان " صورة اليهود في نماذج من الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين "، وكنت أشرفت على رسالتها في الماجستير .
الأبحاث التي كتبتها للمؤتمرات ورسالة الدكتوراه التي أنجزتها وطبعتها شجعتني للتقدم إلى جائزة المرحوم عبد الحميد شومان .
في العام ١٩٩٣ تقدمت لنيل الجائزة ، ولم تشترط قوانينها في حينه أن يكون صاحب الأبحاث والكتب حصل من خلالها على لقب علمي ، وإن اشترطت القوانين على أن تكون الأبحاث أنجزت في السنوات الثلاث الأخيرة .
نلت الجائزة مناصفة مع باحث آخر وكان من أعضاء لجنة التحكيم المفكر السوري المعروف طيب تيزيني ، ومما ورد في حيثيات الفوز أنني نلتها " لتميز أبحاثه في الأدب والنقد وأثرها في خدمة المجتمع " .
يومها كان رئيس الجامعة الأستاذ منذر صلاح ، وكان عميد كلية الآداب الأستاذ رامي الحمد لله ، واتصل الأول بالثاني وطلب منه أن أذهب بصحبته إلى مكتب الرئيس ليبارك لي ، وهو ما تم .
كانت العلاقة بيني وبين رئيس الجامعة علاقة رسمية ، فلم أكن أذهب إليه إلا عند الضرورة ، وكان يقدر في سلوكي العقلاني ، لدرجة أنه وقف إلى جانبي في وجه عميدة البحث العلمي حين شكوت سلوكها وتصرفاتها إزاء نشر أبحاثي . ولعلني آتي على علاقتي بعمداء البحث العلمي في حلقة خاصة .
وعلى الرغم من مباركة رئيس الجامعة لي ، لحصولي على جائزة شومان ، إلا أن هذا لم يمنعني من الوقوف في وجهه وتقديم شكوى ضده إلى أعضاء مجلس الأمناء بسبب الترقية ، ولعل حكايتي مع الترقية تستحق ان تكتب في حلقة خاصة .
وكان حصولي على الجائزة مفرحا لي وللجامعة على السواء ، فالجامعة التي لم يمض على تأسيسها سوى خمسة عشر عاما تحقق من خلال أعضاء هيئة تدريسها إنجازات بحثية ، ولم أكن أول من حصل عليها ، فقد سبقني إليها خمسة أو ستة من الزملاء ، ولكني كنت أول عضو هيئة تدريس في قسم اللغة العربية حصل عليها . وقد نلتها في وقت كنت أحاصر فيه علميا وبحثيا وشخصيا من جهات عديدة .
صارت الجامعة بعد شيوع فكرة تصنيف أفضل الجامعات في العالم تلتفت التفاتا حثيثا لنشاطات أعضاء هيئة التدريس فيها ، ولذلك صارت تدرج على موقعها الأبحاث والنشاطات والجوائر التي ينجزها ويحققها العاملون فيها . ببساطة متناهية صار الإنجاز العلمي الذي يحققه الأستاذ يخصه ويخص جامعته في الوقت نفسه .

نابلس
الخميس
٢٠ آذار ٢٠٢٠

***

-٢٦-
- الست كورونا والسيد الاجتياح والتعليم المصور

لولا الست كورونا لكتبت تحت عنوان آخر ، وكما أن الست كورونا استثناء فإن هذه الحلقة جاءت بسبب المسبب .
في أثناء التعليم الجامعي طلبت إدارة الجامعة من أعضاء هيئة التدريس فيها أن يسجلوا محاضراتهم على أشرطة مصورة لعل الطلاب يفيدون منها .
تكمن أهمية المحاضرات المصورة في أن الطلبة والمحاضرين يمكن أن يفيدوا منها ، ويمكن أن يفيد منها أطراف عديدة خارج أسوار الجامعة .
تفيد هذه المحاضرات المحاضرين في أنها تدفعهم إلى التحضير ومراعاة كل كلمة يتفوهون بها ، وتدفعهم إلى الالتزام بالمحاضرة نصا وروحا ووقتا ، ويمكن أن يعتمدوا عليها في التواصل مع طلبتهم إن اضطر المحاضر للمشاركة في مؤتمر أو إن ألم به مرض .
وتفيد الطلاب في أنهم ، إن اضطروا إلى الغياب ، أن يصغوا إليها ، وإن لم يصغوا جيدا إلى المحاضرة أن يستمعوا إلى المحاضرة المسجلة كما لو أنهم لم يغيبوا أو يتغيبوا عنها ، وللأسف فإن هذا لم يحدث ، كما أنها لم تفد المحاضرين بسبب بؤس إدارة الجامعة التي لم تتفهم ، في حينه ، ما سبق ، وكانت تصر على أن يلجأ الأستاذ ، إن شارك في مؤتمر ، على أن يعوض محاضراته ، وغالبا ما كان التعويض ضربا من " الهيلمة " وفيه قدر من التذاكي.
كيف يمكن أن تفيد هذه المحاضرات من هم خارج أسوار الجامعة ؟
غير مرة كتب إلي متحصصون وطلاب عرب ، من خارج فلسطين ، يسألونني عن النقد الأدبي الحديث ومناهجه ، وكنت أحيلهم إلى موقع جامعة النجاح الوطنية ومحاضراتي المصورة علهم يفيدون منها . ومنهم من سألني بعد مشاهدة المحاضرات.
وبخصوص تأثير المحاضرات في المجتمع فإن المثقفين المهتمين بموضوع ما يمكن أن يتابعوه من خلال مشاهدة المحاضرات . هنا يمكن أن أشير إلى تجربتي في برامج قدمتها في إذاعة جامعة النجاح الوطنية حول الأدب الفلسطيني . لقد حققت لي تلك البرامج شهرة واسعة في مدينة نابلس وغالبا ما كنت أسأل عنها وأعرف آراء بعض المستمعين إليها فيها . حتى بعض سواقي العمومي من حملة الشهادات الجامعية أو من حملة الدبلوم وممن علموا في دول الخليج وعادوا كانوا يبدون رأيهم فيها ويعبرون عن رضاهم عنها.
لماذا لم تهييء جامعة النجاح الوطنية والجامعات والمعاهد العليا في فلسطين نفسها لهذا اليوم ، هي التي مرت بانتفاضتين استمرت كل واحدة منها خمس أو ست سنوات ؟
لقد درسنا في الانتفاضتين ، وقبلهما في سنوات الاحتلال ، وكانت تلك السنوات سنوات عجافا ، لقد درسنا في ظروف أكثر صعوبة . في تلك السنوات كان التدريس ضربا من المقاومة ولا أريد أن أتفشخر .
وهنا أذكر من قال لي إن من يأكل في صحن لا يبصق فيه ، أذكره بسنوات الانتفاضتين وما قبلهما .
لم أمر بتجربة الانتفاضة الأولى ولكني مررت بتحربة الانتفاضة الثانية وكانت أمر وأقسى ، فلم تكن الانتفاضة الأولى دموية ، خلافا للانتفاضة الثانية التي كنا نتنقل فيها حاملين أرواحنا على أكفنا ، وفيها اضطر بعض أعضاء هيئة التدريس أن يتركوا بيوتهم وأسرهم ليقيموا في شقق وفرتها لهم الجامعة ، وأن يعيشوا حياة بائسة جدا ، إذ كان كل اثنين أو ثلاثة يحشرون في غرفة واحدة ، وأما من كان مثلي في مدينة نابلس فقد كان عليه أن يركب أربع حافلات حتى يصل إلى الجامعة ، وكم مرة نجونا من إصابات أو من موت محقق ، ولقد دونت هذا في النصوص التي كتبتها في تلك الأيام وأهمها " فسحة لدعابة ما " و " عين الكاميرا : نصوص من وحي الانتفاضة " .
في ألمانيا تمنح الجامعة من هو برتبة بروفيسور مبلغا شهريا من المال لتشغيل طالبين معه ينجزان له مهام مثل التصوير وإحضار الكتب له من المكتبة وتوزيع نصوص المحاضرات على الطلاب وتصوير النصوص المقترح دراستها أو قراءتها معا ، وأما في جامعاتنا فإن المشكلة التي كانت تواجهنا هي سوء تصرف الإدارة في هذا الجانب ، لدرجة أن بعض من يشغلون مهمة سكرتير أو سكرتيرة كانوا " يحملوننا جميلة " حين ينجزون لنا عملا هو في صميم وظيفتهم .
ماذا لو كان أساتذة الجامعات صوروا محاضراتهم كلها ؟ وماذا لو اشترطت إدارة الجامعة على كل طالب أن يمتلك " لابتوب " ؟
كان يمكن للعملية التعليمية أن تتواصل في ظروف مثل هذه بسهولة كبيرة . إنني أنجز شغلي مع الطلاب الذين أشرف عليهم من بيتي ، وأتواصل معهم عبر الماسنحر ، تماما كما صرت أتواصل مع عمادة البحث العلمي ، بيسر وسهولة ، عبر البريد الإلكتروني .
غالبا ما كنت أصاب بالدهشة لأن بعض المسؤولين في الجامعة درسوا في جامعات غربية ولكنهم لم يخرجوا من عقلية القرية أو الحارة كأنهم كانوا في جامعاتهم في الغرب مجرد أجساد لا تنظر إلا في المقررات الجامعية .
هل أقسو ؟
لو كانوا أفادوا من حياتهم هناك لما تعاملوا بعقلية ثأرية كيدية ولما رضوا لأنفسهم أن يكونوا دكتاتوريين متسلطين يحجزون المناصب ويتسابقون في حجز مواد التدريس ليدرسوا مواد إضافية و لأنفقوا سنوات التفرغ العلمي في البحث .
كما لو أن النساء لم تلد مثلهم ، وأما عن سنة التفرغ العلمي وكيف تقضى في الجامعات العربية فإن ذلك يحتاج إلى كتابة خاصة .

الخميس
٢٦ آذار ٢٠٢٠

***

-27-
- رئيس الجامعة وأنا

لا أتذكر بالضبط عدد رؤساء الجامعة الذين تعاقبوا على استلام المنصب منذ بداية عملي فيها . أتذكر منذر صلاح وبهجت صبري وشريف كناعنة وشوكت زيد الكيلاني ورامي الحمدالله ، وعرفت أكثرهم معرفة لا تتعدى حدود علاقة الأستاذ الجامعي برئيس جامعته ، وربما كانت العلاقة الأكثر ودية هي علاقتي بالدكتور رامي الحمدلله والدكتور شوكت زيد ، علما بأن علاقتي مع الرؤساء الآخرين لم تكن سيئة ، وإن ساءت لفترات قليلة عابرة فإنما كان الأمر يعود إلى خلاف غير لغوي . خلاف إداري .
منذ العام ١٩٨٢ حتى العام ١٩٩٨ رأس الجامعة أربعة ورأسها الدكتور رامي بعد العام المذكور حتى العام ٢٠١٩ - يعني واحدا وعشرين عاما ، وهذه الفترة أطول من فترات رئاسة الرؤساء الأربعة السابقين معا ، وهي تتجاوز القانون الذي يقصرها على أربع سنوات قابلة للتجديد مرة أخرى فقط .
عرفت الدكتور رامي وهو رئيس قسم اللغة الانجليزية وعميد كلية الآداب ونائبا لرئيس الجامعة الدكتور منذر صلاح ، وغالبا ما كنا نتبادل التحيات والسلام العابر ، وفي العام ١٩٩٣ حين كتبت نصي القصصي " ليل الضفة الطويل " وكدت أفصل من الجامعة بسببه تبنى الدكتور موقف عمه المرحوم وحيد الحمدلله الذي كان الوحيد من الأمناء الذي رفض فصلي .
كان المرحوم وحيد الحمدلله يحسب على فصيل الجبهة الديموقراطية وكنت اعتبرت ، إلى حد ما ، ممثلا لهذه الجبهة في نقابة العاملين في العامين ١٩٨٥ و١٩٨٦ ، حتى وإن لم اترشح باتفاق معها باسمها ، ووقف المرحوم إلى جانبي لصداقتي مع ابنه عاكف المحسوب على الجبهة - آمل أن أكون دقيقا - وهكذا لم أفصل.
عندما استلم الدكتور رامي رئاسة الجامعة ذهبت لكي أبارك له - وهذا سلوك لم أقم به من قبل ولم أسلكه من بعد ، فنادرا ما ذهبت في الأعياد ، بخلاف زملائي وأكثر أعضاء هيئة التدريس لأهنيء الرئيس - قال لي بالحرف الواحد :
- أنا مثل أبو عمار ، انتقدوا كما تريدون .
ولم يكمل عبارة أبو عمار " وأنا أفعل ما أريد " .
ولقد ظللت ، خلال رئاسة الدكتور رامي انتقد الجامعة بحدة ، وليس لمن يريد التأكد من هذا إلا مراجعة صفحاتي علي الفيس بوك . هل كان صمت الدكتور على ما أكتب يعود إلى تبنيه رأي أبو عمار أم أن هناك أسبابا أخرى جعلته يصمت؟
لا أريد أن اجتهد وأكتب عن أسباب أخمنها ولست متأكدا منها تماما ، ولكنني بقيت انتقد ، ومرة وجه إلي إنذارا باتخاذ اجراءات ضدي قد تصل إلى الفصل والحرمان من الحقوق المالية .
ليس خلافي مع رئاسة الجامعة خلافا شخصيا على الإطلاق ، ففي كل ما كتبت تجنبت الكتابة عن أمور شخصية ، وعندما فقد الدكتور رامي أفراد عائلته في حادث مروري ذهبت إلى بيت الأجر ، وعندما توفي عمه المرحوم وحيد الحمدلله ذهبت إلى الجنازة . كان خلافي مع رئاسة الجامعة وإدارتها خلافا على قضايا علمية وإدارية وقانونية .
غالبا ما كنت أكتب خربشات عن تجاوز قانون الجامعة بخصوص التمديد للدكتور رامي ، فلم تكن الآراء التي يرددها قسم من العاملين وأهمها أنه ليس هناك غيره من يشغل المنصب ، لم تكن الآراء تروق لي ، وحجتي في ذلك أن جامعة تخلو من عضو هيئة تدريس كفء لإدارتها تستحق أن تغلق ، وكنت أتساءل : هل سيخلد الرئيس ليظل يشغل منصبا فلا يوجد من هو كفء للمنصب غيره .
في الشعر العربي قال شاعر يمدح خليفة عباسيا تولى الخلافة :
" أتته الخلافة منقادة
إليه تجرر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له
ولم يك يصلح إلا لها "
وقد جاءت الرئاسة إليه منقادة ، علما بأنه لم يكن برتبة أستاذ دكتور ، وكانت هناك أسماء ثلاثة برتبة أستاذ دكتور مرشحة للمنصب هي الدكتور علي زيدان والدكتور عبد الفتاح أبو الشكر والدكتور محمد حنون .
في أثناء رئاسة الدكتور رامي شغلت منصب رئيس قسم اللغة العربية ولم أواصل ولهذا قصة قد آتي عليها لاحقا ، واستمرت العلاقة الودية بيننا وكان أحيانا يأخذ بآرائي ، فقد اقترحت عليه مرة ، حين دعا أعضاء هيئة التدريس في القسم ليأخذ رأيهم في فتح برنامج دكتوراه ، اقترحت عليه أن يعيد النظر في برنامج الماجستير لضعف الرسائل وضعف الإشراف ، وهو ما عمل به في حينه.
عندما قررت إدارة الجامعة رفع العبء التدريسي لمن هم برتبة أستاذ دكتور من تسع ساعات أسبوعية إلى اثنتي عشرة ساعة أسبوعية حدث الاختلاف مع رئاسة الجامعة ، وقد لجأت أنا والدكتور عبد الفتاح أبو الشكر والدكتور جمال جودة والدكتور عبد الستار قاسم والدكتورة أفنان دروزة إلى المحكمة لتعيد لنا حقوقنا ، وقد خسرنا الدعوة ، فقد كان غريمنا صار رئيس وزراء .
في أثناء حضور جلسات المحاكمة التقيت بزميل برتبة أستاذ دكتور شهد ضدنا ، والزميل صديق لي ، وقد سألته في المحكمة السؤال الآتي :
- كيف تشهد ضدنا؟ أنت تشهد ضد جدارتك باللقب الذي تحمله .
ابتسم الزميل وأجابني :
- لا استطيع إلا أن أشهد .
ويومها وجب علي أن أعيد قراءة روايات أمريكا اللاتينية .
خلال السنوات الست التي قضاها الدكتور رامي في منصب رئاسة الوزراء كتبت باستمرار احتج على جمعه منصبين بيد واحدة ، وحجتي أن هذا يسيء للشعب الفلسطيني قبل أن يسيء للدكتور نفسه ، وما زلت عند رأيي عموما . لقد حجز المنصب لست سنوات وكانت المفارقة أن الدكتور رامي لم يعد ليشغله ، بغض النظر عن شغله منصبا آخر قد يكون أرفع ، ولا أريد أن أخوض في تفاصيل عودته.
وأنا أراجع بشأن حقوقي المالية التقيت في مبنى رئاسة الجامعة بالدكتور وحوله مجموعة من الموظفين أو الحراس وتصافحنا وقال لي :
- وأخيرا عدنا إلى مكاننا .
وقد أجبت :
- والعود أحمد .
وواصلت طريقي ، وأخمن أن لعبارته دلالتها .
عندما عين الدكتور في منصب رئاسة الجامعة وخاض الخائضون في الأمر قلت لبعض معارفي إن المنصب لا يدوم وإن الدكتور رامي ، طال به العهد في الرئاسة أم قصر ، سيعود إلى مكتبه وإلى عمله مدرسا ، وأغلب الظن أن العبارة وصلت إليه ، وقد ألمح لي بها وهو رئيس جامعة ، وأرجح أن تلفظه بها في اللقاء الأخير كان أيضا تذكيرا مع غمز هو إنني عدت ولكن أقوى وأعلى وأما أنت فقد انتهى عملك .
شخصيا لم ألتفت أبدا لمغازي العبارة ودلالاتها ان كان لها مغزى أو قصد ، فأنا دائما ما أتذكر كلام صديق لي مفاده أن لا أحد اليوم يعرف من هو رئيس الجامعة المصرية أيام كان طه حسين عضو هيئة تدريس فيها ، ولكن أكثر المتعلمين والمثقفين يعرفون من هو طه حسين .
هل أنا ند لطه حسين لأكتب هذا ؟
رحم الله طه حسين ورحم الله امرءا عرف قدر نفسه !!؟؟

***

-٢٨-
- إنذار وإجراءات

على الرغم من انشغال العالم كله الآن في جائحة الكورونا ، إلا أن ذالك لم يحل دون الالتفات إلى قضايا أخرى نجمت أساسا عنها ، مع أنه وجب أن يكون كثيرون ممن هم في القيادة التفتوا إليها ، ومن القضايا قضية التعليم عن بعد.
في أثناء سياسة العزل ، حتى لا تنتشر العدوى ، أغلقت الجامعات أبوابها ، وتوقف ملايين الطلاب في العالم عن حضور المحاضرات ، وكان لا بد من بديل ، فاقترح قسم من المهتمين بالعملية التربوية أن توظف الجامعات والمدارس التعليم الإلكتروني ، وهذا الاقتراح غدا موضع نقاش شغل الأساتذة والطلاب وإدارات الجامعات .
في الأيام الأخيرة انشغل مواطنو الضفة الغربية ومتابعو الفيس بوك بقضية الدكتور عدنان ملحم أستاذ التاريخ في جامعة النجاح الوطنية ، فقد أبدى رأيه في الموضوع ونشره على موقع الجامعة ، ما دفع إدارتها إلى توجيه إنذار له .
هل يستحق من يبدي رأيه في موضوع ، هو جزء منه ، أن ينذر ؟
وجهة نظر الجامعة تكمن في أن الدكتور ملحم استخدم موقع الجامعة واستغله ، وهذا من شأنه أن يبلبل الطلاب ويشوشهم ويسيء إلى المؤسسة.
في رد الدكتور على إدارة الجامعة نقل الموضوع من داخل أسوارها إلى العلن ، وناشد رئاسة السلطة الفلسطينية بالتدخل ، وتحدث عن تاريخه النضالي في خدمة الوطن والجامعة ، ومن حقه طبعا أن يبدي وجهة نظره ، ولكن لا أدري لماذا أشرك في القضية رئاسة السلطة وحركة فتح وأطرها وما شابه .
في بيان الدكتور عبارة استوقفتني وجعلتني أخوض في موضوع الإنذارات الأكاديمية ، وهي إن مثل هذا الإجراء يخالف ما عرف عن مؤسساتنا ويناقض سياساتها . كما لو أن الإنذار الموجه إلى الدكتور عدنان هو أول إنذار يوجه لعضو هيئة تدريس في جامعة النجاح الوطنية أو في المؤسسات الفلسطينية!
خلال مسيرتي الجامعية وجهت إلي إنذارات شفوية وأخرى كتابية ووصلت إلي معاتبات من رئاسة الجامعة بأن أخفف من كتابتي عنها ؛ كتابتي التي تراها سلبية ، ولمن لم يقرأ ما كنت أكتب أحيله إلى صفحات الفيس بوك الخاصة بي . ويبدو أن كتاباتي كانت وراء الإنذار الكتابي ، وإن لم تكن ظاهرة في العلن ، وأعتقد أن السبب المعلن للإنذار كان القشة التي قسمت ظهر البعير .
ما كان يؤرقني في أثناء عملي في الجامعة هو عدم وجود قاعات مناسبة للتعليم ، فهندسة الجامعة القديمة ، وعدد الطلاب الذين استقبلتهم ، وعدم وجود مبنى خاص لكلية الرياضة ، لفترة طويلة جدا ، كان يجعل من إعطاء محاضرات أمرا مزعجا جدا ، وقد حل الأمر عموما حين شيد مبنى كلية الرياضة قبل أعوام.
مرة درست مساقا لستة طلاب ماجستير في كافتيريا الجامعة ، وهذا ما لم يحدث من قبل ، ولم يحدث من بعد ، ولم تعترض الإدارة ، لا لأنها توافق على سلوك كهذا ، وإنما لأنها سحبت مني القاعة وأعطتها لأستاذ آخر ولم توفر لي قاعة بديلة.
شخصيا لم أعترض ولم احتج إطلاقا ، والسبب يعود إلى أنني ، وأنا أدرس في ألمانيا ، حضرت محاضرات ، مع المشرفة على رسالتي ، في مقهى رصيف . كنت أدرس موصوع السيرة الذاتية في الأدب العربي ، وكنا ثلاثة فقط ؛ مدرسة المساق ( فيلاندت ) ومساعدها السيد ( هارالد فونك ) وأنا . وكنت وأنا في الجامعة الأردنية شاهدت أحد أساتذة علم النفس العائدين من أميركا يعطي ، في الربيع ، محاضرة لطلابه في الهواء الطلق ، على مسطح العشب .
فما هي قصة الإنذار الذي كتب زورا وبهتانا ؟
كنت أشغل مكتبا مع الدكتور المرحوم ابراهيم الخواجة ، وغالبا ما كان يستاء من حديثي عن ترقيات أساتذة الجامعة ممن حصلوا عليها قبل العام ١٩٩٨ تقريبا ، وكان هو واحدا منهم ، ولم يرق له حديثي ، فأبحاثه التي ترقى عليها ، من وجهة نظري ، وقد اطلعت عليها وعلى مكان نشرها ، لا تستحق أن ينال عليها صاحبها رتبة أستاذ دكتور .
حديثي عن عدم استحقاق كثيرين من أعضاء هيئة التدريس قبل العام ١٩٩٨ كان يعتمد أيضا على محاضرة ألقاها الدكتور عبد الستار قاسم في الجامعة وضح فيها ، من خلال أدلة حصل عليها ، أن هناك ترقيات كثيرة مررت ولا يستحقها أصحابها ، وهو عموما كان محقا في ذلك ، وهو ما أدركته الإدارة لاحقا فوضعت معايير جديدة أفضل من معايير الترقية الأولى ، وهو ما دفعها لاحقا لرفع نصاب من هم برتبة أستاذ دكتور إلى ١٢ ساعة بدلا من ٩ ساعات ، دون أن تميز بين من نال الترقية عن جدارة ومن نالها في زمن بداية تأسيس الجامعة ، حين كانت الجامعة بحاجة إلى رتب علمية تفاخر بها ، وتحصل بناء عليها على فتح برامج دراسات عليا .
كنت أدرس في مكتبي ستة طلاب من طلاب الماجستير يأتون في الثانية ظهرا ، ويكون زميلي في المكتب في هذه الساعة ، غالبا ، خارج جدران الجامعة أو في محاضراته ، وذات يوم أردت أن أذهب إلى الإدارة للمراجعة في شأن ، ولما حضر الطلاب طلبت منهم أن ينتظروني في المكتب ، وكان زميلي فيه ، وعندما عدت من الإدارة وجدتهم في الممر ، لا في المكتب ، وقد أخبروني أن زميلي طردهم ، وهذا ما لم يرق لي وأصررت على أن نحلس في المكتب ونأخذ المحاضرة ، وقد دفع سلوكي زميلي إلى رفع شكوى ضدي أسفرت عن توجيه إنذار لي ونقلي إلى مكتب آخر ، ومما جاء في حيثيات الإنذار أنني أشكك في ترقيات زملائي .
غالبا ما كنت أنظر في التقييمات التي ترسلها إدارة الجامعة إلي نظرة عابرة ثم أمزقها ، إلا هذا الإنذار ، فما زلت أحتفظ بها . وكنت أعرف أنني سوف أدان قبل الجلسة النهائية ، فقد قرأت المكتوب من عنوانه - من أعضاء اللجنة المشكلة وأدركت أن تشكيلها سيؤدي إلى إدانتي .
لم ينته مفعول الإنذار إلى يومنا هذا فقد ربط باتخاذ اجراءات ... الخ .
قبل توجيه الإنذار هددت من المرحوم عبد الغني العنبتاوي " أبو مازن " - رئيس مجلس الأمناء في حينه - بدفع ثمن غال للكتاب الذي وجهته إلى مجلس الأمناء أشكو فيه رئيس الجامعة الدكتور منذر صلاح بسبب الترقية ، وقد أتوقف أمام هذا حين أكتب عن ترقياتي ، إن نجونا من الست كورونا .
هل الوقت الحالي مناسب للخوض في أمور كهذه والعالم كله لا يعرف " إلى أين المسير " في عسرة درب الست الكورونا ؟

***

-٢٩-
- حول الترقيات ، تجربة شخصية و ..

عندما غدوت عضو هيئة تدريس في الجامعة لم يكن مضى على تأسيسها خمس سنوات . يعني كانت الجامعة في أول عهدها ، ونظرا لأنها تقع في مدينة محتلة تسعى دولة إسرائيل إلى التخلص من سكانها ، لأنها تريد أرضا بلا شعب ، فقد كانت تتشدد في السماح لكفاءات علمية بالقدوم إلى الأراضي المحتلة ، ولم يكن أبناء هذه الأراضي من حملة الشهادات الجامعية العليا يستقرون فيها في مرحلة ازدهار النفط وانفتاح الأبواب على مصراعيها ، في دول الخليج ، لحملة الشهادات . هذا جعل الضفة الغربية تخلو من حاملي درجتي الماجستير والدكتوراه إلا ما ندر .
في أوضاع كهذه ، كما ذكرت من قبل ، فتحت الجامعة الناشئة أبوابها لحملة هذه الشهادات من فلسطينيي المنافي الذين تسمح لهم السلطات الإسرائيلية بالدخول . وكان قسم من هؤلاء ، وتحديدا من المتخصصين في العلوم الإنسانية ، حصلوا على شهاداتهم بالانتساب من جامعات عربية ، وكان أغلبهم مدرسي مدارس حملوا معهم روح معلم المدرسة لا روح الأستاذ الجامعي ، فهم ، عدا أنهم لم يدرسوا في جامعات ، حصلوا على شهاداتهم عن بعد وهكذا افتقدوا روح التعليم الجامعي وأخلاقياته الخاصة به .
ولأن التدريس الجامعي يتطلب من عضو هيئة التدريس أن يثقف نفسه وأن يكتب أبحاثا حتى يحصل على رتب أعلى ، فقد وجد قسم من هؤلاء أنفسهم مضطرين للكتابة .
كانت سياسة الترقيات في الجامعة تقوم أساسا على كتابة الأبحاث ، فلكي تترقى من رتبة أستاذ مساعد إلى رتبة أستاذ مشارك عليك أن تكتب ثلاثة أبحاث أصيلة ، ولكي تترقى من رتبة أستاذ مشارك إلى رتبة أستاذ دكتور عليك أن تكتب خمسة أبحاث أصيلة ، وقد ترقى كثير من هؤلاء الأساتذة ، لا لأنهم كتبوا أبحاثا أصيلة ونشروها في مجلات علمية محترمة ، وإنما لأن محكمي تلك الأبحاث كانوا ينظرون بعين العطف إلى جامعات الأرض المحتلة والعاملين فيها ، وهذا الرأي خلص إليه الدكتور عبد الستار قاسم في محاضرته بعد أن اطلع على تقارير ترقيات بعض المدرسين ، وهو ما قرأته أنا مرة في تحكيم بحث لي استأت جدا من محكمه لكتابة عبارة أوردها نصها " مراعاة لظروف صاحبه " وكان بإمكانه رفض البحث أصلا ، والبحث عموما بحث أصيل ويمكن أن أجادل المحكم في رأيه .
مما شاع في الجامعة حول الترقيات - وهذا كلام شائعات ولكنه قابل للتصديق - أن صاحب الأبحاث كان يعرف لمن أرسلت أبحاثه ، ما يدفعه للاتصال بالمحكم والتحدث معه ، وهناك من المحكمين من لم يرفض بحثا أرسل إليه من جامعات الأرض المحتلة ، هذا إذا غضضنا النظر عن ضعف بعض المحكمين . أما لماذا أرتأيت أن كلام الشائعات قابل للتصديق ، فلأنني خبرت الأمر شخصيا .
عندما أصبحت برتبة أستاذ دكتور وعهد إلي بتحكيم أبحاث كانت تأتي من خارج فلسطين ، كان بعض زملائي يوصونني خيرا بها ، وكنت أعرف أن أصحاب تلك الأبحاث اتصلوا بزملائي وأخبروهم بإرسال بحث إلى مجلة الجامعة لنشره ، وكان قسم من زملائي أعضاء في هيئة تحرير المجلة ، وغالبا ما اقترحوا اسمي لتحكيم البحث لأنني متخصص في موضوعه .
شخصيا لم أكن بعد تسليم بحثي لنشره أسأل إطلاقا لمن أرسل ، وكذلك فيما يخص الترقية إلى الرتبتين ؛ رتبة أستاذ مشارك ورتبة أستاذ دكتور ، وحين كنت أرقى كان الأساتذة الذين نظروا في ترقيتي يسألونني وأنا في عمان إن حصلت على الترقية ، وبعد أن أجيبهم يخبرونني بأنهم هم من رقوني .
في ترقيتي من رتبة أستاذ مساعد إلى رتبة أستاذ مشارك لعب معي رئيس الجامعة سيميائيا . كنت عرفت من النائب الأكاديمي الدكتور محمد حنون أن الردين إيجابيان ، وأن الأمر يحتاج إلى إقرار فقط ، ثم تراجعت لجنة الترقية وأخبرني الدكتور منذر صلاح أن هناك ردا إيجابيا وآخر سلبي . ولم يقل الحقيقة لأمر في نفسه .
يقولون إن النذالة لا حد لها ، وأعتقد جازما أن كثيرين ممن تعاملت معهم في حياتي وخلطوا الخاص بالعام كانوا أنذالا بكل ما تعنيه كلمة " نذل " . لي أصدقاء أنذال ، ولي أقارب أنذال ، ولي زملاء أنذال ، وكل من خلط الشخصي بالعام والأكاديمي كان نذلا ، ولذلك فإن الأنذال الذين تعاملت معهم يقاربون أعداد وفيات الكورونا في إيطاليا وإسبانيا معا . النذالة لا حد لها .
الطريف أنني عرفت ممن رقاني أو ممن كان على صلة به أن تقرير الترقية كان إيجابيا ، فلماذا لم أرق حتى كتبت بحثين آخرين ؟
قرأت التقرير الذي كتبه الدكتور عبد الرحمن ياغي ، ونص قراره أن أرقى على أن أكتب بحثا آخر ، وأما تقرير الدكتور محمود ابراهيم فقد أبلغني الدكتور حسام التميمي نتيجته . نص التقرير على ترقيتي ولكن الدكتور كتب ، سهوا ، يرقى إلى رتبة أستاذ مساعد لا إلى رتبة أستاذ مشارك ، وقد طلب الدكتور محمود من طالبه في حينه أن يسلم التقرير إلى مكتب ارتباط جامعة النجاح الوطنية في الجبيهة .
في أثناء ذهابه إلى مكتب الارتباط قرأ الكتور حسام التقرير ولاحظ الخطأ الذي وقع فيه أستاذه ولم يعد إليه لينبهه ، فالصيغة كانت حاسمة جازمة " يرقى صاحب الطلب " .
إن كنت شخصيا مستعدا لمسامحة بعض الناس في الإساءة إلي فإنني لن أسامح من أساء إلى غيري ممن لا دخل لهم في الموضوع .
تصوروا أن يلجأ رئيس جامعة إلى محاربة عضو هيئة تدريس بأمور شخصية ، كأن يطلب من قريبته أن ترسل إليه رسالة يظن الرئيس أنها ذات مغزى فلعله يسكته ؟ لقد حدث هذا معي لا في أسوار الجامعة وحسب ، لقد مارس هذا السلوك الدنيء كثر ومنهم أدباء كبار وشعراء صاروا عالميين .
غالبا ما كنت أقرأ قصيدة مظفر النواب " في الحانة القديمة " وأقف أمام أسطرها التي تتحدث عمن باع اليابس والأخضر ، وكيف أن الشاعر سيبول عليه ويسكر .
النذالة إن بدأت فلا حد لها ، وقمة النذالة كانت تتمثل في ربط الأكاديمي بالشخصي .

****

-30-
البنت النشيطة والبنت الكسولة..

عندما كنت أعد رسالة الدكتوراه في مدينة ( بامبرغ ) الألمانية بذلت جهودا مضاعفة لتعلم اللغة الألمانية ، وقد أكون شخصيا غير موهوب في إتقان اللغات المتعلمة لا الموروثة ، ومن ضمن الجهود التي بذلتها قراءة مقالات في أهم مجلتين سياسيتين في ألمانيا الغربية وهما ( دير شبيغل ) و ( شتيرن ) والتحدث مع الناس في السوق وقراءة قصص الأطفال ، وهكذا اشتريت قصص الأخوين ( جريم ) ، وما حثني أيضا على قراءتها هو ضرورة أن أقصها على ابنتي روز وفائزة . كانت القصص ممتعة وكنت قرأت قسما منها بالعربية وعرفت عن الأخوين ( جريم ) من مجلة " فكر وفن " الألمانية التي كانت تصدر في ( ميونيخ).
من القصص التي قرأتها قصة " ليلى والذئب / ذات الرداء الأحمر " وقصة " البنت النشيطة والبنت الكسولة " وظلت الأخيرة تعيش معي فترة طويلة ، وغالبا ما ذكرتها ، وأعتقد أنني في حياتي كلها منذ الصبا كنت أنشط من البنت النشيطة ، في سلوكي اليومي وفي دراستي في مراحلها المختلفة .
كانت سياسة الترقيات في الجامعة ، كما ذكرت ، تقوم على أساس كتابة الأبحاث أساسا . يكتب عضو هيئة التدريس ثلاثة أبحاث فإن أجيزت يتقدم بها للترقية بعد خمس سنوات من حصوله على درجة الدكتوراه ، وقد يرقى إلى رتبةأستاذ مشارك ، فإن رقي ظل يحصل على العلاوة السنوية لمدة خمس سنوات أخرى ، وإن لم يترق تتوقف علاوته حتى يترقى ، ومثل الترقية إلى رتبة أستاذ مشارك الترقية إلى رتبة أستاذ دكتور ، مع فارق أن عدد الأبحاث يجب أن يصل إلى خمسة ، فإن لم يترق بعد خمس سنوات من حصوله على الرتبة السابقة تتوقف علاوته ، وحين يحصل على رتبة أستاذ دكتور تستمر علاوته السنوية حتى نهاية عمله الجامعي ويصبح نصابه التدريسي تسع ساعات أسبوعيا بدلا من اثنتي عشرة ساعة .
النظام السابق لم يرق للأساتذة الذين لا يكتبون أبحاثا ، خلافا لمن يكتبون ووجهة نظرهم أن الدكتوراه هي بداية الطريق لا نهايته . ولأن الأولين هم الأكثرية فقد كانت أصواتهم مهمة للتيارات السياسية التي تخوض انتخابات نقابة العاملين التي كان المرشحون لها يريدون أن يكسبوا المزيد من الأصوات.
لقد أدى الجدل بين النقابة وإدارة الجامعة إلى تمديد مدة إيقاف علاوة عضو هيئة التدريس ، ممن لا يكتبون أبحاثا ، من خمس سنوات إلى خمس عشرة سنة ، وهنا كانت الطامة الكبرى التي جنت على النتاج العلمي لأساتذة كثيرين ، فلم يكتبوا أي بحث ، وأنهوا عملهم في الجامعة بالرتبة التي عينوا عليها . لقد فقد كثير من هؤلاء الحافزية التي تحث على التطور العلمي والمادي معا ، وصار هؤلاء يعوضون توقف العلاوة بتدريس المساقات الإضافية ، فكان أن أنهكوا واستنفدوا ولم يكتب قسم منهم حتى مقالات أدبية .
كنت أتابع أعضاء هيئة التدريس في قسم اللغة الانجليزية وألاحظ ما هم عليه وأقارن ما صرت إليه . لم ينجز كثيرون ممن عينوا معي أو قبلي أي شيء يذكر ، وحتى رئيس الجامعة فقد حصل على رتبة الأستاذية لطبيعة وظيفته لا لأبحاثه ، وكان هذا الوضع مغايرا لحالات عرفتها بعض الجامعات العربية ، فأساتذة أقسام اللغة الانجليزية فيها ، ممن حصلوا على شهاداتهم من أوروبا أو أميركا ، كان لهم حضور لافت في إثراء الأدب العربي .
لا أعرف أساتذة درسوا الأدب الإنجليزي وأفادوا الأدب الفلسطيني إلا ما ندر ، فلا حنان عشراوي ولا غيرها قدم لنا فائدة تذكر ، وحتى أحمد حرب وهو أنشطهم لم يصدر حتى الآن أي كتاب نقدي له تأثيره ، وكان يمكن أن ينجز ذلك ، وربما ما حال دون إنجازه انصرافه إلى كتابة الرواية وانشغاله بقضايا حقوق الإنسان.
لقد صار أكثر أعضاء هيئة التدريس يشبهون البنت الكسولة في قصة الأخوين ( جريم ) . إنهم يريدون أن تمطر السماء / الإدارة عليهم ذهبا دون أن ينظفوا بيت الجدة.
لم تكتف الإدارة بخطوتها السابقة التي أثرت سلبا على الإنتاج العلمي ، وإنما عادت وارتكبت خطأ جسيما تمثل في رفع نصاب من هم برتبة أستاذ دكتور إلى اثنتي عشرة ساعة ، ليتساووا مع حملة الماجستير ومن هم برتبة أستاذ مساعد وأستاذ مشارك ، بل ولم تسمح لهم الجامعة بتدريس أكثر من ثلاث ساعات عمل إضافي ، في حين سمحت للرتب الأقل بتدريس ست ساعات ، وأحيانا تسع ساعات.
عندما تقدمت للحصول على رتبة أستاذ دكتور صارت الجامعة تشترط على المتقدم للحصول على الرتبة ستة أبحاث بدلا من خمسة ، ولم تراع أن يطبق القانون على من يكتب أبحاثا من تاريخ سنه ، وإنما طبقته علينا نحن الذين تقدمنا للرتبة ولم نحصل عليها . صار لزاما علي أن أحصل على ستين نقطة بدلا من خمسين ، وكنت عندما رقيت إلى رتبة أستاذ مشارك أضفت بحثين من أبحاث أعددتها للرتبة الجديدة ، فماذا علي أن أفعل ؟
بعد عودتي من البعثة أخذت أترجم الدراسات التي كتبها المستشرقون عن الأدب الفلسطيني وترجمت رسالة ماجستير عن السيرة الذاتية لفدوى طوقان ، ومن حسن حظي أن الترجمة صارت تراعى في أثناء التقدم للترقية ، وهكذا حصلت على العدد المطلوب من النقاط .
هل أدركت إدارة الجامعة أن تمديد دفع العلاوة لمن لم يترق كان خطأ ارتكبته ؟
ربما ، ولكنها بدلا من أن ترفع نصاب حملة الماجستير والدكتوراه ممن هم ليسوا برتبة أستاذ دكتور كافأت حملة الرتبة برفع نصابهم .
غالبا ما يكرر الناس في بلادنا ، حين يتساوى من ينجز ومن لا ينجز ، المثل " القاري والخاري واحد " وغالبا ما أتذكر مسرحية توفيق الحكيم " لكل مجتهد نصيب".

***

-٣١-
- حسنات وسيئات و" متعلمون صهاينة"

لجامعة النجاح الوطنية حسناتها العديدة ، وهذا أمر يجب أن أقر به . كانت العلاقات الاجتماعية السائدة في بداية تأسيس الجامعة علاقات شبه أسرية ، فالود والاحترام ، والقيام بالواجبات الاجتماعية في الأفراح والأتراح ، هو مما تميز به كادرها بشكل عام ، وبلغ الأمر بأعضاء هيئة التدريس والعاملين فيها أن أسسوا صندوقا للتكافل الاجتماعي ، وقد بقيت شخصيا مشاركا فيه حتى نهاية خدمتي.
على الصعيد العلمي هناك حسنات يجب أن تسجل أيضا للمؤسسة ، وأقول يجب أن تسجل مع قناعتي بأن حسن الإدارة هو ما تفرضه الوظيفة على الكادر الإداري ، فهم في مناصبهم هذه للرقي بالجامعة وتطويرها ، وهم يأخذون راتبا شهريا وعلاوة ، وعليه يجب عليهم أن لا يروا في حسن إدارتهم منة شخصية ، وللأسف فإن الأمر في العالم العربي ينظر إليه نظرة شخصية ، فيبجل المسؤول ويعظم ، علما بأن عليه حسن الإدارة لأنه تقلد منصبه لهذا .
من الأمور الجيدة التي تسجل للجامعة مواكبتها للتطورات التكنولوجية والإفادة منها في خدمة العملية التعليمية ، وهنا أشير إلى فريق قسم الحاسوب وجهوده الكبيرة في خدمة الجامعة وخدمة أعضاء هيئة التدريس أيضا في نشر أبحاثهم وكتاباتهم.
واظبت الجامعة على إنشاء منصات تواصل اجتماعي وعلمي وأكاديمي عديدة حققت لها التواصل مع المؤسسات العلمية والأكاديمية العالمية ومع المجتمع الجامعي والمجتمع المحلي أيضا ، ومن المواقع التي أنشأتها:
- زاوية " أدبيات"
- النجاح Blogs .
- النجاح Staff .
وعلى هذه المواقع نشرت كتاباتي وأبحاثي وكتبي ، فتحقق لي انتشار لم يتحقق من خلال دور النشر التي طبعت كتبي فيها ، وزادت من انتشار مقالاتي واسعة الانتشار في جريدة " الأيام " الفلسطينية وفي صحف ومواقع إليكترونية أخرى ، وسهلت عملية تواصلي مع الطلاب الذين أدرسهم ومع القراء خارج المؤسسة الجامعية ومع زملاء عرب وباحثين كثر ، إذ غالبا ما صرت ، بسهولة ، أحيل إلى تلك الكتابات.
أذكر أن قراء زاوية " أدبيات" تجاوز خلال ثلاثة أعوام ال ٥٠٠٠ قاريء ، وأن قراء كتابي " أدب العائدين : تساؤلات وقراءات " بلغوا خلال أيام قليلة من إدراجه ال ٤٠٠ قاريء.
وأذكر أن ال Blogs الخاصة بي حققت لأبحاثي ، مثل " القدس في الشعر العربي الحديث" و " القدس في كتابات كتاب القصة القصيرة الفلسطينية" انتشارا واسعا.
على أن ما ينبغي ألا يغيب عن الذهن هو أن منشورات أعضاء هيئة التدريس حققت للجامعة سمعة طيبة تفتخر بها الجامعة كل عام حين تتصدر موقعا متقدما بين الجامعات العربية والعالمية والفلسطينية أيضا .
كل ما سبق لا يعني أن الأمور كانت إيجابية بالمطلق ، ولعل عاهة مؤسساتنا في العالم العربي تكمن في خلط الخاص بالعام ، وحسبك أن تعرف أن حاملي الشهادات العليا لا يعينون في الجامعات العربية إلا بعد حصولهم على شهادة حسن سيرة وسلوك من أجهزة المخابرات ، والحمد لله أن الجامعة تأسست قبل قيام دولتنا العتيدة ، ولم تكن سلطات الاحتلال تتدخل في تعيين أعضاء هيئة التدريس من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة ، وإن لم تسمح لفلسطينيي المنفى بالعودة إلى فلسطين للعمل في جامعاتها إلا بعد اقتناعها بأنهم مسالمون ولا يسيرون في ركب منظمةالتحرير الفلسطينية يوم كانت المنظمة ترفع شعارات التحرير والكفاح المسلح.
عندما كنت أدرج كتبي على مواقع الجامعة كنت أحرص على أن تكون خالية من أي خطأ نحوي أو خطأ في الطباعة ، فقد كنت أراجعها باستمرار كوني أعلم الأدب العربي وكوني أيضا أحاسب طلاب قسم اللغة العربية الذين أدرسهم على أخطائهم التي يرتكبونها ، وفيما يخص الأبحاث والدراسات المنشورة في مجلات الجامعات المحكمة فإنها تكون خالية منها إلا ما وقع سهوا وهو قليل جدا ولا يكاد يذكر .
من ضمن الكتب التي أدرجتها على موقع الجامعة Blogs أولا كتابي " جدل الشعر والسياسة والذائفة : دراسة في ظاهرة الحذف والتغيير في أشعار محمود درويش " ، وهو في الأصل ثلات دراسات محكمة نشرتها في ثلاث مجلات محكمة ، وكانت خالية ، إلا ما ندر ، من الأخطاء النحوية والإملائية والطباعية ، وقد جمعتها معا لأنشرها في كتاب كان حظه في النشر سيئا جدا لسطوة محمود درويش واسمه على دور النشر . أرسلت نسخة من الكتاب إلى دار " الأسوار " في عكا ولم تصدره ، واحتفظت بصورة عنها ، وقد فكرت في نشرها لولا أن حرف الطباعة لم يرق لي ، ولولا أن أحد موظفي الجامعة سألني إن كنت أراجع كتبي المنشورة على موقع الجامعة.
عندما قررت نشر الكتاب استخرجت نسخة من موقع الجامعة ودققتها ، فقد تذكرت سؤال الموظف لي ، وفجعت بما رأيت . لقد لاحظت أن هناك ما لا يقل عن ٧٩ خطأ لم تكن موجودة في الأبحاث المنشورة ، ودفعني الأمر إلى كتابة مقالة عنوانها " متعلمون صهاينة " أرسلتها إلى جريدة الايام الفلسطينية ، فلم تنشرها ، ما دفعني إلى نشرها في صفحة الفيس بوك الخاصة بي.
لي زملاء كثر ، وهذا ما سوف أكتب عنه ، لم يفصلوا في تعاملي معهم بين الشخصي والعلمي ، ولأن علاقتي بإدارة الجامعة كانت تتراوح بين الود والعداء ، فلم تفصل هي أيضا بين الشخصي والعلمي ، وأعتقد ، بل أكاد أجزم ، أن العبث بكتابي كان محاولة للحد من انتقادي المتواصل لما أشاهده وأراه و ...
أحيانا يقولون إنني حاد في كتاباتي ، ولكنها مهما بلغت من الحدة فإن حدتها لا تذكر بما قاموا به من تشويه علمي يعود في النهاية أيضا على المؤسسة نفسها ، فأبحاثي بمقدار ما حققت لي من سمعة علمية حققت للجامعة نفسها السمعة الطيبة وما زالت تحقق . أنا أنهيت عملي في الجامعة والجامعة باقية وما زالت أبحاثي مدرجة على موقعها يفيد منها الطلاب والدارسون ويسجلون للجامعة المزيد والمزيد من الدخول إلى موقعها.

***

-٣٢-
- بؤس قاعات التدريس :

درست اللغة الألمانية في معهد ( غوتة ) في مدينة ( فرايبورغ ) وكان المعهد وسط المدينة قرب محطة القطارات . لم يترك الموقع تأثيرا سلبيا على قاعات التدريس ، فالألمان جهزوا المعهد ليكون هادئا لا يؤثر فيه ضجيج السيارات ولا أصوات القطارات ، وغالبا ما يلجأون إلى تركيب زجاج مزدوج للنوافذ يحول دون سماع الصوت الخارجي . ودرست في جامعة ( بامبرغ ) ، في المباني القديمة التي تقع وسط المدينة ، وبناؤها يعود إلى قرون تقريبا ، وكانت قاعات التدريس فيها قاعات يتوفر فيها الهدوء التام ، حيث يعطي المحاضر محاضرته دون أن يزعجه أحد ، وهذا ما افتقدته في جامعة النجاح الوطنية ، منذ تعييني فيها وإلى آخر محاضرة ألقيتها في ٣٠ أيلول ٢٠١٩ .
تطورت جامعة النجاح الوطنية من مدرسة إلى معهد لتأهيل المعلمين فإلى جامعة.
كانت البناية الأولى للمدرسة قريبة من البلدة القديمة ، وفي حينه - أي في ١٩١٨ - كانت تقع في حي جديد ، وقد نعت الشارع الذي تقع فيه باسم المدرسة وصار اسم الشارع شارع النجاح القديمة ، وصار اسم المبنى ، في ستينيات القرن العشرين ، مدرسة " ابن الهيثم " ، وأقيم مبنى جديد للمدرسة والمعهد معا غربي المدينة في حي يقطنه أثرياء نابلس ورموزها الاقتصادية والسياسية ممن بنوا " فيللا " أشبه بالقصور ، صار ، الآن ، قسم منها مهجورا يثير الأسى ويبعث الحزن ، وتحديدا بيت رئيس بلدية سابق للمدينة من آل سرور .
كان المبنى الجديد للنجاح نواة الجامعة ، وقد أقيم على أرضه مبنى جديد على طراز عمراني قديم يعزز أجواء الأسرة الواحدة ، وقد صممه المهندس جعفر ابراهيم طوقان وحصل التصميم على جائزة . المبنى الذي صممه طوقان يصلح لأن يكون مدرسة أو معهدا أو جامعة لبرنامج موحد تبدأ فيه الحصص في الوقت نفسه وتنتهي في الوقت نفسه ويدخل الطلاب كلهم معا إلى القاعات ويخرجون كلهم منها معا ، ولكنه إطلاقا لا يناسب جامعة تعتمد نظاما تدريسيا كالذي تتبعه جامعة النجاح الوطنية - أي نظام الساعات المعتمدة الذي يتيح للطالب اختيار الوقت المناسب له والمحاضرات التي يرغب في دراستها . إن هذا النظام يقوم على عدم انتظام الطلاب كلهم في حضور المحاضرات كلها في الوقت نفسه ، وهكذا يكون قسم من الطلاب في المحاضرات وقسم منهم خارجها ، عدا أن الملعب الرياضي للجامعة ، قبل إقامة مبنى كلية الرياضة خلال السنوات القليلة المنصرمة ، كان قريبا من قاعات التدريس ، فكان أساتذة قسم الرياضة يعطون محاضراتهم فيه ، وأحيانا كانت تجري مباريات بين فرق الجامعة أو بين فريق الجامعة وفرق جامعات أخرى يرافقها صياح جنوني ، دون أن يلتفت الأساتذة والطلاب إلى أن هناك قاعات تدريس يحاضر الأساتذة فيها . أحيانا كنت أخرج عن طوري وأوقف التدريس لأتحدث مع الأساتذة وأذكرهم أننا نعطي محاضرات ، وأن عليهم الانتباه إلى هذا ، ولطالما تخاصمت مع زملاء لي من قسم الرياضة أجلهم وأحترمهم وكانت بيني وبينهم صداقات حقيقية ، ولم تحل هذه المشكلة إلا بعد انتقال كلية الرياضة إلى مبناها الخاص ، وعادت علاقتي مع زملائي هؤلاء إلى سابق عهدها .
المشكلة التي خفت حدتها إلى حد كبير بسبب انتقال كلية الرياضة لم تنته كليا ، فأحيانا كان بعض الطلبة يحصلون على طابات ويلعبون في الملعب ، ما يترك أثرا سلبيا على إعطاء المحاضرات ، فيتشتت ذهني وتتشتت أذهان الطلاب ، ولطالما شكوت الأمر إلى رؤساء القسم المتعاقبين وإلى العمداء الذين تناوبوا العمادة ، علهم يبلغون الإدارة بالمشكلة لتجد حلا لها ، ولكن :
" لقد أعييت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي " .
إلى جانب الملعب كانت هناك الممرات الداخلية للبناء ، ففي هذه الممرات يجلس الطلاب وترتفع أصواتهم ، دون أدنى مراعاة للمحاضرات التي تعطى ، وغالبا ما كنت أخرج من قاعة المحاضرة وأطلب من الطلاب التزام الصمت أو الانصراف إلى الكافتيريا أو المكتبة ، ونظرا لأنني كنت أعرف أكثر هؤلاء الطلاب فقد كانوا يطيعون بلا جدال وينصرفون بأدب جم .
إن المبنى القديم للجامعة ترك أثرا سلبيا على العملية التدريسية وترك أثرا سلبيا علي شخصيا ، على الرغم من انتمائي لعالم الجامعة وعلى حبي مهنة التدريس .
الآن انتهيت من إعطاء المحاضرات ولو كانت هناك نصيحة يطلب مني تقديمها لإدارة الجامعة لفضلت أن تتعلق بتوفير الهدوء لقاعات التدريس ، إما من خلال تركيب نوافذ مزدوجة الزجاج ، حيث يعزل الفراغ الأصوات ، على الطريقة الألمانية ، أو من خلال حث الحراس على الالتزام بتوفير الهدوء ، كأن يتجولوا في الممرات ويمنعوا الطلاب ، وقت المحاضرات ، من البقاء فيها ، وكأن يظل حارس واحد في الملعب يمنع الطلاب من اللعب فيه في أثناء التدريس .

٧ آيار ٢٠٢٠

***

-٣٣-
- أنا والجامعة: سنة التفرغ العلمي

أنفقت في الجامعة سبعة وثلاثين عاما قضيت أربعة منها في ألمانيا الغربية أعد أطروحة الدكتوراه ، وعندما أنهيت عملي في الجامعة وأراد طلاب قسم اللغة العربية تكريمي كتبوا في شهادة التكريم إنني أنفقت في الوظيفة سبعة عشر عاما فقط ، وما أكثر الأخطاء التي وقع فيها مانحو شهاداتي ومقيمو أبحاثي للترقية !!
أنا عضو هيئة تدريس حصل على شهاداته الثلاثة بالالتحاق لا بالانتساب ، فقد كنت متفرغا تفرغا كليا في البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ، وهذا من حسن حظي ، ومن حسن حظي أيضا أنني كنت أحصل على بعثات دراسية ، فلم أنفق على تعليمي إلا القليل جدا ولم أكلف أهلي أي قرش ، وعلى العكس من ذلك فقد كنت أوفر من مستحقات البعثة وأرسل إلى أبي مما أوفره ، وفي ظل الانتفاضة الأولى كان زميلي المرحوم محمود عطالله يعطي أبي مني مائة دينار شهريا ، وقد كتبت هذا من قبل .
ومع أنني تفرغت للحصول على شهاداتي إلا أنني ، في أثناء عملي في الجامعة ، لم أحصل على سنة تفرغ علمي ، لا لأن الجامعة منعتها عني ، وإنما لأنني لم أتقدم لها أصلا ، خلافا لزملائي في القسم فقد حصلوا كلهم ، إلا واحدا ، على سنة التفرغ .
وأنا أنظر مثلا في حصول المرحوم الدكتور إحسان عباس على سنة التفرغ العلمي وما أنجزه فيها وأين قضاها ، ومثله الدكتور محمود السمرة ، وهما متخصصان في الأدب العربي ، وأقارن حالتهما بما فعله زملائي أكثرهم ، إن لم يكن كلهم ، أقول إن الجامعة أهدرت أموالا لا لخدمة البحث العلمي ، وإنما لمساعدة أعضاء هيئة تدريسها في شراء شقق أو أراض أو أنها ساعدتهم لتزويج أبنائهم ليس أكثر ، فما أنتجه هؤلاء من أبحاث يمكن إنجازه دون تفرغ .
لدي كتابان للدكتور إحسان عباس هما " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " و " ملامح يونانية في الأدب العربي " ، وغالبا ما أعود إليهما وأفيد منهما ، وحين عقد قسم اللغة العربية في جامعة بير زيت مؤتمرا لتكريم الدكتور عباس في ذكراه شاركت بورقة عن الكتاب الثاني . كان الدكتور ينفق سنوات تفرغه في جامعات عالمية يدرس فيها ويكتب مستفيدا من مكتباتها وبعد إنجازه كتبه يتقدم بالشكر لها .
وأما الدكتور السمرة الذي أشرف على رسالة الماجستير التي أنجزتها - و كان شغل منصب نائب رئيس الجامعة الأردنية لفترة طويلة - فقد كان ينفق سنة التفرغ العلمي في البيت وفي مكتبة الجامعة الأردنية ليؤلف كتبا . وغالبا ما كنت ألتقي به في مكتبة الجامعة ، فنتجاذب أطراف الحديث ويخبرني عما أنجز .
أنفق أكثر أعضاء قسم اللغة العربية الذين زاملتهم سنة التفرغ في التدريس في جامعات محلية لا ترقى إلى مستوى جامعة النجاح ، وهكذا لم يحصلوا على خبرات تدريسية من جامعة عالمية ولم يستفيدوا أيضا من مكتبتها ، وشخصيا لم أعرف أن أيا منهم أنجز بحثا أثار ضجة في الأوساط الأكاديمية ، بل إن الجامعة لم تطلب منهم أن يتحدثوا ، أمام المحاضرين في كلية الآداب ، عن تجربتهم في سنة التفرغ لكي يفيد زملاؤهم ويثروا معرفتهم . كان الحاصلون على سنة التفرغ يذهبون على استحياء ويعودون كذلك ، وقد ارتفع رصيدهم المالي .
ربما يسأل سائل :
- وماذا في ذلك ؟
ويضيف :
- فشروط الحصول على سنة التفرغ انطبقت عليهم ، وهي شروط تسمح لهم بالتدريس فقط إن أرادوا وليس بالضرورة أن يكتبوا أبحاثا .
فيما أعرفه فإن إدارة الجامعة كانت تلاحظ ما كتبته آنفا ، ولذلك صارت تجري تعديلات على شروط الحصول على التفرغ منها مثلا أن ينفق الحاصل عليها سنته في جامعة من غير جامعات الأرض المحتلة .
أما لماذا لم أتقدم شخصيا للحصول على سنة التفرغ ، فلذلك أسباب خاصة عديدة .
مرة وأنا أشارك في مؤتمر " محمود درويش بين الرؤية والأداة " ( جامعة بير زيت ١١ آذار ٢٠٠٩ ) تجاذبت الحديث العابر مع رئيس قسم اللغة العربية هناك الدكتور مهدي عرار حول سنة التفرغ ، وسألته عن إمكانية قضائها في قسمهم ، فألمح إلى إمكانية ذلك ولكن بتدريس اثنتي عشرة ساعة وراتب يعادل ٧٠ بالمائة من راتبي ، وغضضت النظر عن الموضوع ، فقد أستأت من زميلي الدكتور يحيى جبر الذي وافق من قبل على هذين الشرطين في جامعة الخليل .
كانت رغبتي الملحة هي أن أنفق سنة التفرغ العلمي في الجامعة الأميركية في بيروت فقط . لقد كانت صورة الجامعة في ذهني وردية وكان مثالي الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد يوسف نجم ، عدا أن بيروت عاصمة ثقافية كانت وما زالت .
في العام ٢٠١١ أو ٢٠٠٩ شاركت في مؤتمر في الجامعة الأردنية ، وعلى هامشه التقيت بالدكتور فواز طوقان الذي درسني مساق " المكتبة العربية " في الجامعة الأردنية في العام ١٩٧٣ ، وكان قادما من بيروت التي يدرس في الجامعة الأميركية فيها ، وسألته عن إمكانية التدريس لمدة عام في قسم اللغة العربية هناك . يومها أخبرني أن القسم قد يتيح لي إمكانية ذلك إن افتتح برنامج دكتوراه في القسم ، ويبدو أن ذلك لم يتحقق ، وهكذا أنهيت عملي في الجامعة دون أن أحصل على سنة تفرغ علمي .
طبعا لم أسع إلى الحصول عليها لكي أنفقها في جامعة الخليل أو في جامعة القدس أو في جامعة الاستقلال أو في الجامعة العربية الأميركية في جنين . لقد كنت أتمنى أن أنفقها حقا في الجامعة الأميركية في بيروت فقط ، وربما يتساءل سائل :
- ولماذا لم تنفقها في ألمانيا مثلا أو في جامعة بريطانية أو أميركية أو في السوربون ؟
لقد اعتدت أن أحاضر في الجامعة باللغة العربية ، ولا أستطيع أن أحاضر بأية لغة أخرى ألم بها كما أحاضر بالعربية ، ومرة سافر زميل لي إلى أميركا ليدرس لمدة عام هناك ، ولم يكمل المدة وعاد ، وقيل لي إن سبب عودته يعود إلى عدم تمكنه من الإنجليزية لإلقاء محاضرات فيها ، ولم أسأل زميلي عن سبب عدم إكمال العام هناك .

نابلس
١٤ أيار ٢٠٢٠


***

-٣٤-
- الأدب المقارن وتعبئة الفراغات

يعد مساق الأدب المقارن مساقا طارئا على كثير من أقسام اللغة العربية ، فلا أذكر أنني درسته في مرحلتي البكالوريوس والماجستير في الجامعة الأردنية ، ولا أذكر أنه كان يطرح أصلا ، فالمساق يتطلب إتقان الطالب لغتين ؛ لغته الأم ولغة أجنبية ، وهذا ما لا يتيسر لطلاب قسم اللغة العربية في الجامعات العربية إلا ما ندر .
وحين عينت في قسم اللغة العربية لم يكن المساق يطرح في القسم ، علما بأن مساق اللغة العبرية يعلم منذ تأسيس الجامعة ، وإن كان ما يعلم على مدار فصلين لا يكفي لقراءة نص أدبي يتجاوز خمس صفحات ، وأكتب هذا عن تجربة ، فقد واظبت على تعلم العبرية لفصلين كاملين مكررين ، عدا جهودي الذاتية المتمثلة في متابعة التلفاز الإسرائيلي وما كان يعرضه من أفلام عربية كل يوم جمعة مترجمة إلى العبرية .
عندما حصلت على منحة الدكتوراه عرفت المستشرقة الألمانية ( انجليكا نويفرت ) على زميلي في القسم معلم اللغة العبرية ، وساعدته في الحصول على منحة ، مع أنه يحمل جوائز السفر الإسرائيلي ، وقد حصل على إجازة من الجامعة لمدة ثلاث سنوات ليدرس الأدب المقارن ، فيعود إلى الجامعة أستاذا لهذا التخصص .
كتب زميلي أطروحته في الترجمة من العربية إلى العبرية ومن العبرية إلى العربية ، وعاد إلى وظيفته .
في هذه الأثناء صار القسم يطرح مساق الأدب المقارن ، وقد أوكل مهمة تدريسه لصاحب التخصص ، والطريف أنه ما استمر في تدريسه لأكثر من ثلاثة فصول ؛ درسه فصلين لطلبة البكالولوريوس ومرة ، إن لم تخني الذاكرة ، لطلبة الدراسات العليا ، ولسوء حظه أو لحسن حظه أن انتفاضة الأقصى كانت في ذروتها ، ما جعل تدريس المساق أمرا مشكلا .
إحدى طالبات قسم اللغة العربية ، وقد أشرفت عليها في الماجستير ، قالت لي إننا لم ندرس أكثر من ست محاضرات من أصل خمس عشرة محاضرة ، فالأستاذ ، بسبب الحواجز الإسرائيلية المقامة على الطرق ، لا يتمكن من الحضور ، وعليه فإننا لم ندرس الأدب المقارن .
لا أعرف ما السبب الذي جعل الأستاذ المفترض أنه متخصص في الموضوع يعكف عن تدريس المساق ، فعندما صار القسم يطرح المساق صار تدريسه يعزى إلي ولأستاذ متخصص في الصوفية ولأستاذ الأدب الحديث ، والأخيران ، فيما أعرف ، لا يتقنان أية لغة أجنبية .
عاد الأستاذ المتخصص يعلم اللغة العبرية فقط ، وكفى الله المتخصصين شر التحضير والتثقيف وما شابه .
عندما كنت رئيس قسم اللغة العربية لم تسمح لي الجامعة بتدريس أكثر من ثلاث ساعات إضافية ، وهذا من حقها ، وكنت أتمنى لو التزمت به التزاما صارما ولم تتغير مواقفها بين فترة وأخرى .
مرة احتاج الطلاب إلى مساق اختياري لدراسته فطرح القسم مساق الأدب المقارن ، وعرض تدريسه على المتخصص فاعتذر ، وكان يفترض أن يوكل تدريسه إلي ، فلي غير دراسة في الموضوع ، ولأن إدارة الجامعة في ذلك الوقت كانت حاسمة في تطبيق قراراتها ، فقد أوعزت تدريس المساق لأستاذ لا صلة له في الموضوع نهائيا . وقد يعترض على رأيي أستاذ جامعي واسع الاطلاع ويذكرني بتجربة الدكتور إحسان عباس الذي درس الأدب الأندلسي دون أن يكون كتب شيئا فيه ، وصار بعد ذلك من أبرز ، إن لم يكن أبرز ، المتخصصين فيه .
ذهب الدكتور إحسان عباس ليدرس في جامعة الخرطوم ، وأوعز القسم إليه تدريس مساق الأدب الأندلسي ولم يكن كتب فيه أو درسه وقبل الأمر على مضض ، ثم جد واجتهد وكتب وحقق وصار ما صار إليه في هذا التخصص فعلام أعترض إذن ؟
كنت أتمنى لو سار كثير من الأساتذة الجامعيين على نهج الدكتور عباس ، فأكثر الذين يدرسون مساقات لا تدخل في صلب تخصصهم يدرسون كتابا ولا يتثقفون في الموضوع ، فلا يكتبون أبحاثا ولا يقرأون الجديد من الأبحاث .
عندما درست مساق " الأدب في مصر والشام " ولم يكن في صلب تخصصي لم أترك كتابا في أدب تلك الحقبة وقعت عليه عيني دون أن أشتريه ، وعندما عين القسم زميلا متخصصا في الموضوع أعطيته ما لدي من كتب .
أحد الزملاء درس مرة مساق " النقد الأدبي القديم عند العرب " وهو مساق كنت أدرسه وأنا محاضر قبل أن أسافر للحصول على الدكتوراه ، وظل هذا الأستاذ - رحمه الله - يدرس الكتاب الذي استعاره مني حتى نهاية خدمته .
هل يوجد في جامعاتنا كلها أستاذ واحد على شاكلة الدكتور إحسان عباس ؟
لطالما أعجبت بتجربة هذا الأكاديمي الذي أخذت العلم من كتبه ، فأنا لم أحضر له إلا محاضرة واحدة ألقاها في الجامعة الأردنية قادما من الجامعة الأميركية في بيروت ، ليتحدث عن الوزير المغربي .
عندما انتهى عملي في الجامعة توزعت أكثر المساقات التي أنجزت في موضوعاتها عشرات الأبحاث والكتب ومئات المقالات إلى زملاء صلتهم بالموضوع مثل صلتي باللغة الصينية ، ولم يكن أمامي إلا أن أكرر " كله عند العرب صابون " فالمهم تعبئة الفراغات ولست بنادم .
الخميس
٢١ / ٥ / ٢٠٢٠

***

- ٣٥ -
- أنا والجامعة وآفة التدريس الإضافي

يرتبط بما كتبته عن تعبئة الفراغات في تدريس المساقات وإجازة التفرغ العلمي عناوين أخرى مثل البحث العلمي والتدريس الإضافي ، فثمة صلة وطيدة بين الأجزاء كما يقول البنيويون .
من العناوين عنوان " التدريس الإضافي " سواء في الجامعة نفسها أو في جامعة أخرى في الوقت نفسه .
والتدريس الإضافي آفة بكل ما تعنيه المفردة من معنى ، ذلك أنها تدفع عضو هيئة التدريس إلى العمل والعمل والعمل دون أن يطور نفسه ويثقفها ويريح جسده وذهنه معا ، فما يحصله الأكاديمي في المراحل الثلاثة التي نال فيها شهاداته من الجامعات أشبه برصيد ثابت في مصرف إن لم تضف إليه كما غزيرا من المعلومات ينفد ، ويصبح الأستاذ الجامعي أشبه بمعلم الصفوف الابتدائية الأولى بعد مرور خمس سنوات على تعليمه .
من خلال عملي في الجامعة بدأت أدرس مواد إضافية فوق العبء التدريسي ، وفي حينه كان العبء اثنتي عشرة ساعة ، منذ عينت . كانت الجامعة في طور تأسيسها تعاني من نقص الكادر التعليمي ، وكانت الضفة الغربية وقطاع غزة يعانيان من قلة حملة الشهادات العليا التي تؤهل أصحابها العمل في جامعة ، وكان يومها لا مفر من " تعبئة الفراغات " وتعليم مساقات ليست من صلب تخصص المدرس .
في العام ١٩٨٢ مثلا كنا ندرس ثماني عشرة ساعة - أي ست ساعات إضافية ، وبلغ الأمر في رئيس القسم أن درس تسع ساعات إضافية أيضا . وكنا نفرح يوم توزيع مكافآت العمل الإضافي فرحنا باستلام رواتبنا الأساسية .
في سنوات التسعينيات والسنوات التي تلتها توسعت الجامعة وازداد عدد طلاب قسم اللغة العربية وكثرت شعب مساق اللغة العربية ، ما جعل العمل الإضافي جزءا أساسيا من برنامج كل عضو من أعضاء هيئة التدريس ، ومثله أيضا التدريس في الفصل الصيفي ، علما بأنه كثر عدد الحاصلين على شهادات عليا الباحثين عن فرصة عمل ، خلافا لما كان في سبعينيات القرن العشرين.
حتى العام ٢٠٠٠ كنت أرفض تدريس ساعات إضافية بخاصة في فصل الصيف ، ما جعلني أنشط علميا وأنجز ثلاثة كتب هي :
- أدب المقاومة ... من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات
- الصوت والصدى .. مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة .
- أرض القصيدة .. جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره .
بالإضافة إلى كتابة دراسات جمعتها في ثلاثة كتب هي :
- قضايا وظواهر نقدية في الرواية الفلسطينية.
- في مرآة الآخر : استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانيا .
- جدل الذات والآخر ، صورة اليهود في الرواية العربية .
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى صرت أدرس في الصيف وتراجع نتاجي العلمي قليلا وأدركت هذا .
حين أنظر فيما أنتجه زملاء لي في جامعتي وفي جامعات أخرى ألاحظ فارقا كبيرا في الإنتاج العلمي وأتساءل :
- أيعود السبب لأنهم درسوا ساعات إضافية ؟
هناك سبب آخر مرتبط بالتدريس الإضافي وهو الأسرة الممتدة في العالم العربي ، فلحسن حظي أو لسوئه أنني لم أوفق في حياتي الأسرية ، ما جعلني أنفق العمر أقرأ وأكتب ، مثل الدكتور عبد العزيز الأهواني صاحب كتاب " ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر " .
في الأسر الممتدة يكون الأب مسؤولا عن زوجته وأولاده وأحفاده أيضا ، فيضطر إلى العمل المضاعف من أجل أن يزوج هذا ويبني لذاك ، وهكذا تجده ينفق وقته في تدريس إضافي وفي تكثير أمواله ، فيبيع الأراضي ويبني الشقق ويعمل في ثلاث جامعات ، وربما يعمل موجها في مدارس ثانوية - حصل هذا تماما ، ولم أنصرف شخصيا لأي عمل خارج الجامعة سوى الكتابة في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ، وما كتبته كان وثيق الصلة بتخصصي وبما أدرسه . وقد كنت أحيانا موضع تندر من زملائي الذين أثرى قسم منهم من سنة التفرغ وشراء العقار وبيعه .
غالبا ما كنت أكرر :
- إما عالم أو تاجر ، واخترت العلم ، ومنه أثريت علميا وماديا أيضا .
سبب العمل الإضافي لإدارة الجامعة صداعا كبيرا ، إذ غالبا ما كان الباحثون عنه يكيدون لبعضهم ويتذاكون في الحصول على ساعات إضافية ، وسلك قسم منهم سلوكات لا تليق بالشهادة التي يحملونها - إن كانت الشهادة والحصول عليها تغير في السلوك ، وصار قسم منهم على استعداد لأن يدرس أي مساق حتى لو يكن في تخصصه أو دائرة اهتمامه ، فانحدرت الأخلاق الأكاديمية إلى مستوى لافت .
ومع أن إدارة الجامعة اجتهدت مرارا في تنظيم العمل الإضافي وحصره بساعات محددة ومنعت من هو عميد أو رئيس قسم أو من هو برتبة أستاذ دكتور من تدريس أكثر من ثلاث ساعات إضافية بما فيها ساعات الإشراف على رسائل الماجستير ، إلا أن القوانين التي كانت تسنها سرعان ما كانت تتجاوز ، وقد كان عدم الصرامة في تطبيقها سبب استقالتي من رئاسة قسم اللغة العربية ، ولعلني أوضح هذا في مكانه .
وغالبا ما كنت أنصح زملائي من قسم اللغة الانجليزية ألا يبالغوا في تدريس ساعات إضافية ، فقد كانوا يدرسون تسع ساعات إضافية كل فصل ، وكنت أطلب منهم أن يكتبوا الأبحاث وينشروها ، فهذا أجدى لهم مع مرور الأيام ؛ علميا وماديا ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصيحتي ، وكانت النتيجة أن قسما منهم ظل برتبة أستاذ مساعد ولم ينجز أي كتاب يفيد فيه حركتنا الأدبية ، كما أن راتبه توقف عند حد معين ، خلافا لراتبي ، ويوم حصلنا على مكافآت نهاية الخدمة كانت مكافأة نهاية خدمتي أكبر بكثير مما حصلواعليه ، وهكذا - أكرر - ربحت علميا وماديا وصارت لي سمعة علمية لم يحققها كثيرون .

الخميس
٢٨ أيار ٢٠٢٠

***

-٣٦-
- أبحاث فقيرة

يفضي ما كتبته عن تدريس المساقات من غير المتخصصين بها ، وسنة التفرغ العلمي ، والتدريس الإضافي ، يفضي إلى الكتابة عن الفقر البحثي لدى كثير من أعضاء هيئة التدريس.
ولكي أكون موضوعيا فإن كتابتي هنا لا يمكن تعميمها على الكليات العلمية التي صلتي بأساتذتها وأبحاثهم ضعيفة ، لأنها ليست من مجال اختصاصي ، ولأن إلمامي بها إلمام قليل جدا ، وما أصغي إليه من زملاء لي في الكليات العلمية لا يمكنني من الكتابة كتابة خبير مطلع اطلاعا واسعا . إن ما يصدر عني من رأي هنا يكاد ينحصر بأساتذة كلية الآداب وكليات أخرى قريبة منها اطلعت أحيانا على نتاج قسم منهم.
لقد اطلعت على أبحاث زملاء عديدين وحكمت أبحاثا كثيرة جدا لمتخصصين في الأدب العربي ، وهالني ما فيها من ضعف في المنهج وفي جدة الموضوعات وفي الأسلوب.
أكثر أساتذة الأدب العربي يعانون من فقر شديد بالمناهج النقدية القديمة والحديثة ، وغالبا ما تصدر أبحاثهم متضمنة إشارة إلى منهج لا صلة للبحث به ، ونادرا ما قرأت بحثا أفاد فيه كاتبه من منهج محدد ألم الدارس به إلماما عاديا ، ولذلك فإنهم حين يذكرون المنهج يكتبون إنهم اتبعوا المنهج الوصفي التحليلي ، وبالكاد تجد دراسة واحدة طبق فيها المنهج الوضعي أو المنهج التاريخي أو المنهج الاجتماعي الماركسي أو المنهج النفسي أو المنهج البنيوي ، أو مقولة من مقولات هذه المناهج يتكيء الباحث عليها وهو يدرس أديبا ما أو موضوعا ما.
إن استيعاب المناهج النقدية وتمثل مقولاتها وجودة تطبيقها لا يقتصر على الأساتذة . إنه ينتقل منهم إلى طلابهم الذين يشرفون على رسائلهم ، وهذا ما لمسته وأنا أناقش رسائل الماجستير التي يشرفون عليها.
مرة ناقشت رسالة ماجستير كتب الطالب فيها إنه طبق المنهج التكاملي ، وعندما طلبت منه أن يعرف هذا المنهج ويبين لي مواضع تطبيقه لم يبن ولم يفصح جيدا . وثانية ناقشت طالبا ثانيا ذهب إلى أنه طبق المنهج التاريخي ، فلما سألته عن أصحاب هذا المنهج من الأوروبيين ومن طبقه من الدارسين العرب ، أجابني بصراحة مطلقة:
- والله يا أستاذ ذكرت المنهج دون أن أعرف عنه شيئا.
والملوم طبعا في هذه الحالة هو الأستاذ المشرف ، وعندما تعرف أن صلة الأخير بالمناهج ضعيفة تكرر " فاقد الشيء لا يعطيه".
لقد تعلمت ، في أثناء التدريس ، من ( ديكارت ) شيئا مهما هو ألا أكتب إلا عما أعرف ، وهذا ما أنصح به طلابي الذين أشرف عليهم . ولذلك أتوقف أمام المقدمة التي كتبها الطالب لدراسته مطولا ، وأناقشه فيما كتبه عن المنهج .
الفقر في الموضوعات يبدو في أبحاث الأساتذة أوضح ما يكون ، فهم لا يقرأون لتتشكل لديهم موضوعات جديدة ، عدا ما كتبته عن النقطة الأولى .
إن افتقارهم للمناهج النقدية يحول ببنهم وبين مقاربة الموضوعات المطروقة ، من قبل ، مقاربة مختلفة ، وهكذا لا يسد الإلمام المنهجي بالمناهج الحديثة الفقر المعرفي الناجم عن قلة القراءة.
إن قسما من رسائل الدكتوراه التي أنجزها بعض الأساتذة ليست إلا تكرارا لرسائل دكتوراه سابقة يهمل ذكرها لكي لا ينبه الدارس المشرف أو المناقش إليها.
وقد يسأل سائل :
- وكيف عرفت أنت بهذا ؟
والجواب هو أنني في أثناء تحكيمي الكثير عن الأبحاث كنت أبحث عن دراسات سابقة في الموضوع ، فأعرف.
كتب أستاذ دراسة دكتوراه في الأدب العباسي وأغفل الإشارة إلى رسالة دكتوراه أنجزت في الموضوع في جامعة مصرية ، وكان يفترض أن يشير إليها وإلى اختلاف دراسته عنها . وكتب أستاذ آخر بحثين ؛ واحدا عن الشاعر المصري أمل دنقل وثانيا عن القدس في روايات جبرا ابراهيم جبرا ، والموضوعان كتب فيهما ، ولم يذكر صاحب البحثين الدراسات السابقة ولم يأت بجديد ، بل إن ما كتبه لم يضف جديدا ولم يرق إلى ما كتب ، وكثير من أبحاث هذا الدارس لا تتكون من قراءاته وإنما من قراءة أبحاث غيره .
وقد يفاجأ قراء كثيرون أن عددا من الأبحاث التي ترقى عليها بعض الأساتذة هي أبحاث كتبوها وهم يدرسون الدكتوراه . لقد أعادوا نشرها في المجلات العلمية ليترقوا عليها دون أن يضيفوا إليها شيئا . إن ما قام به هؤلاء الدارسون قد يحتمل تفسيرات عديدة منها أن أبحاثهم وهم طلاب جيدة . هذا الاحتمال سرعان ما يتهاوى إذا عرفنا أن بعض محكمي الأبحاث ضعيفون وأنهم قد يكونون أصدقاء لصاحب البحث ، أو أنهم لا يقرأون البحث قراءة جيدة ، فمثلا في الأشهر الأخيرة حكمت بحثا حكمه محكم آخر ، وطلب فيه من صاحب البحث أن يجري تعديلات عليه ، وعندما أجرى قليلا من التعديلات أرسل البحث إلي ثانية لأنظر فيه ، وقد أرفق به رأي المحكم الثاني ، وهالني ما قرأت .
يذكر المحكم الثاني أن صاحب البحث لم يذكر المنهج الذي سار عليه صاحبه ، وصاحبه كتب في مقدمة دراسته أنه اتبع المنهج الوصفي التحليلي - المنهج الذي يكاد ، كما ذكرت ، لا يذكر في الدراسات منهج آخر غيره . لقد تيقنت أن المحكم الثاني لم يقرأ البحث جيدا.
ومن أطرف ما قرأت من دراسات دراسة كتبها صاحبها عن الشاعر علي الخليلي الذي تابعت نتاجه الأدبي منذ بداياته . وأنا أقرأ في الدراسة التي نشرت في موسوعة عن الأدب الفلسطيني لاحظت دراسة ديوان شعري لشاعر آخر تحتلف أشعاره كليا عن أشعار الخليلي ، ولما تشككت في الأمر ، فقد يكون الأمر غاب عن ذهني ، بحثت وتقصيت لأكتشف أن الديوان هو للشاعر علي الصح ، لا للشاعر الخليلي . وهنا يمكن الإتيان على سمة من سمات الباحثين وهي التسرع وعدم الدقة واللفلفلة . لفلفة في كتابة رسائلهم العلمية وفي كتابة أبحاثهم وفي إشرافهم أيضا.
هنا آتي على الموضوع الثالث وهو اللغة والأسلوب .
يفترض في دارس الأدب العربي المتخصص فيه أن يتقن العربية نحوا وصرفا وأسلوبا ، وللأسف فإن هناك قسما من الدارسين تحفل كتاباتهم بالركاكة في الأسلوب وبأخطاء نحوية وصرفية ، عدا عدم إتقانهم وضع علامات الترقيم جيدا ، وغالبا ما أقوم بتصحيح الأخطاء في هذه الدراسات .
مرة كتبت إن محكم البحث والمشرف على الرسالة - إن كان تحكيمه ممتازا وإشرافه كذلك - له من البحث والرسالة ما لا يقل عن عشرين بالمائة منها .
وغالبا ما أتساءل:
- كيف سيشرف كثير من الأساتذة على رسائل الدكتوراه ، وهم بحاجة إلى إعادة دكترة . لقد كتبت مرارا إن كثيرا من الدكاترة يحتاجون بالفعل إلى إعادة دكترة ، وحين كنت في ألمانيا الغربية أصغيت إلى محاضرة ألقتها ( فيبكة فالتر ) ، وهي مستشرقة جاءت إلى ألمانيا الغربية من ألمانيا الشرقية ، ليشهد لها زملاؤها بأن درجة الأستاذية التي نالتها من ألمانيا الشرقية درجة جديرة بحاملها تؤهله لأن يحاضر في جامعات ألمانيا الغربية.

٤ حزيران ٢٠٢٠

***

-٣٧-
أنا والجامعة : خطط رسائل الماجستير

لم أشغل في الجامعة أي منصب إداري إلا مرة واحدة غدوت فيها رئيس قسم اللغة العربية ولم أكمل في المنصب عاما ثانيا إذ استقلت لخلاف بين عميد كلية الآداب والنائب الأكاديمي ، وسبب الخلاف هو أن الأخير طلب مني ، بناء على قرار اتخذته الجامعة بخصوص العمل الإضافي لا يسمح فيه لمن يشغل منصب عميد بتدريس أي مساق إضافي ، طلب مني ألا أطرح للعميد مساقا إضافيا ، في حين أن العميد أراد أن يتجاوز القرار .
كانت وجهة نظري أن قرار الإدارة هو الصحيح ، فهي تخفف العبء لمن يشغلون مناصب إدارية ، ليتفرغوا لإدارة العمادة أو القسم أو ما يتطلبه المنصب الإداري ، وبين إصرار العميد ، مسؤولي المباشر ، على تنفيذ ما طلب ، وإصرار النائب الأكاديمي على عدم تجاوز قرار الجامعة ، قدمت استقالتي لأنني لم أرغب في ألا يكون لي رأي ، وكان رأيي إلى جانب قرار الإدارة - أي عدم طرح مساق إضافي للعميد . وللأسف فإن رئيس القسم الذي عين بعدي مباشرة سمح له بتدريس إحدى عشرة ساعة إضافية ، لا ثلاث ساعات فقط ، وكان تقلب الإدارة في مواقفها وعدم ثباتها على قرار سببا لخلافي المتواصل معها ، ولدي في هذا أدلة كثيرة.
لقد آثرت التدريس والإشراف على رسائل الماجستير فقط ، ولما كان علي أن أشارك في لجان القسم ، فقد اخترت أن أكون عضوا في لجنة خطط الماجستير ، وكنت واحدا من ثلاثة أولهما بالطبع من يشغل منصب رئاسة القسم .
الخطط التي كان طلبة الدراسات العليا يتقدمون بها ، طبعا بعد موافقة المشرف عليها ، كان قسم لا بأس به منها ضعيفا جدا وقسم آخر كان كتب فيه من قبل ولم يوضح صاحبه فيه إن كان اطلع على الدراسات السابقة ، وإن كان سيضيف إلى ما كتب ، أو إن كان سيطبق منهجا جديدا يختلف عن المناهج السابقة التي طبقت ، من قبل ، في دراسة الموضوع .
غالبا ما كنت أحاجج الطلاب والأساتذة في الخطط ، وكنت أطلب توضيحات وتعديلات ، كما كنت أرفض العديد منها وآتي بأدلة ، وأحيانا كنت استدعي صاحب الخطة إلى الجلوس مع لجنة الخطة لتناقشه فيها .
أكثر الخطط عموما تشير إلى فقر معرفي من المشرف والطالب معا وإلى قلة اطلاعهما على الدراسات السابقة في الموضوع . ما إن تخطر فكرة في ذهن الطالب حتى يوافق المشرف عليها.
لقد أشرفت في أثناء تدريسي على تسع وعشرين رسالة ماجستير ، ثلاثة عناوين فقط منها اختارها الطلاب أنفسهم ، واخترت للطلاب الآخرين موضوعاتهم ، وكنت أركز فيها على الأدب الفلسطيني مما لم يكتب فيه أو على أعمال أدبية روائية عربية صادرة حديثا لم يكتب فيها.
الحزم الذي أبديته تجاه الخطط لم يرق لأحد العمداء ولآخرين ممن رفضت خطط طلابهم ، وهكذا اقترح العميد ان يكون عضوا في لجنة الخطط ، وتمت إضافة عضو خامس ، بالتنسيق معه ، وهكذا صرت صوتا ضائعا في المهرجان ، فإذا ما رفضت خطة يتم التصويت عليها ، وهكذا تجاز .
كان بعض الطلاب مثلا يقررون مع أستاذهم أن يكتبوا في موضوع الموت في شعر شاعر أو في مرحلة ما ، وحين كنت أنظر في المنهج المقترح أدرك أن الكتابة لن تسفر عن نتائج تستحق ، وعندما أطلب تعديلات وأناقش المشرف فيها كان يوافق على رأيي نظريا . كنت أتساءل مثلا كيف يمكن أن يكتب طالب في موضوع الموت دون أن يقرأ الفلسفة الوجودية ، وأصر على أن يقرأ الطالب مادة فلسفية يتكيء عليها لمعالجة موضوعه ، وبعد سنتين أو ثلاثة حين أسأل الطالب إن كان قرأ شيئا في الموضوع وطبق المنهج الوجودي في دراسة الأدب يجيب بابتسامة توحي أنه لم يأخذ بالتعديلات.
غير مرة تقدم طلاب للكتابة عن أشعار محمود درويش وكنت أرفض خططهم لأنهم لم يقرأوا الدراسات السابقة التي أنجزت عن أشعاره ، وغير مرة رفضت خططا في موضوعات الأدب الشعبي الفلسطيني لأنها لن تأتي بجديد ، وكنت أحيل المشرف والطالب معا إلى ما كتب ، فقد كنت أول من درس الأدب الشعبي في القسم وجمعت دراسات عديدة أنجزت فيه.
إن كانت هناك سمة أخرى ، يمكن أن أستخدمها تضاف إلى ظاهرة الفقر المعرفي ، فهي سمة " اللفلفة " ، وهذه السمة تجسدت في جانبين ؛ أولهما توسيع عدد أعضاء اللجنة ، وثانيهما الموافقة الشكلية على التعديلات .
وما كان يلفت نظري في بعض الأحيان أن بعض أعضاء هيئة التدريس كانوا يكتبون الخطط لطلابهم ، فتكون أعلى من مستوى الطلاب وفيها من الإشارات ما يشير إلى ذلك ، فمن ذلك خطة كتبها مشرف لطالب اتكأ فيها على مراجع بالانكليزية كان المشرف اعتمد عليها في بعض أبحاثه ولم يرها الطالب وأورد الطالب في خطته فصلا لمناقشة المستشرقين في آرائهم وهو غير كفء لذلك ، عدا عدم إلمامه بالانجليزية إلماما يمكنه من ذلك . ومن ذلك أن طالبة اعتمدت على مراجع باللغة الفرنسية ، وهي لا تعرفها ، وكان مشرفها وهو من فلسطين المحتلة في العام ١٩٤٨ يريد أن يقول إن مستوى خريجي الجامعات العبرية والمدارس في إسرائيل أفضل منه في جامعات الأرض المحتلة في العام ١٩٦٧ . لقد سألت الطالبة إن كانت الخطة من وضعها فأكدت ذلك ، ولما سألتها عن إتقانها الفرنسية أخبرتني أن مشرفها ساعدها.
ولعل الكتابة عن لجان مناقشة الرسائل تستحق تفصيلا وكتابة مستقلة .

****

أنا والجامعة : لجان مناقشة الرسائل العلمية ٣٨

ضعف خطط رسائل الماجستير و" لفلفتها " يقود إلى الكتابة عن تشكيل لجان مناقشتها ، فهل يختلف الأمر أم أنه يتشابه تماما؟
ما عليك إن أردت أن تتأكد من الأمر إلا أن تنجز دراسة إحصائية للرسائل المناقشة وصلة المناقشين بها ، وستكتشف العجب العجاب في هذا الجانب ، إذ غالبا ما يتم اختيار المناقش على أسس لا تمت لتخصصه بصلة.
إن ما يتحكم في اختيار أعضاء المناقشة هو الموقف من حزم المناقش وعدم حزمه - أي هل سيوافق المناقش على الرسالة ولا يكشف ضعف المشرف ، فالرسالة هي في النهاية للطالب والمشرف معا ، والمشرف غير معني بمناقش قد يرفض الرسالة أو قد يظهر ضعفها ، فإن فعل المناقش هذا ، فهذا يعني أنه يوجه اتهاما للمشرف أولا ، إذ كيف وافق على تقديم رسالة بهذا المستوى للمناقشة.
ووجهة نظري يلخصها المثل الشعبي الفلسطيني " أعط خبزك لخبازه لو حرق نصفه" وغالبا ما لا يحدث هذا . وتكاد لجان المناقشة لكثير من الأساتذة محددة سلفا ، ما دفع الجامعة - هنا جامعة النجاح الوطنية - إلى اتخاذ قرار بتغيير أعضاء المناقشة بين مناقشة ومناقشة.
إن العلاقات الشخصية لا العلمية ، للأسف ، تتحكم في كثير منا في اتخاذ القرار ، وإن كان لا بد من إعطاء مثال مما حدث معي شخصيا ، في أثناء دراستي ، فإن من ناقشني في رسالة الماجستير لم يكن متخصصا في موضوعها ، وصلته بالموضوع تكاد تكون شبه معدومة . لم يختر المشرف الأستاذ المناقش المتخصص في الموضوع لأن علاقتهما معا كانت سيئة جدا.
ما حدث معي في جامعة عربية ينسحب على جامعاتنا في الأرض المحتلة .
إن المناقش المتساهل ، والمتساهل جدا ، هو المنشود ، حتى لو كانت الرسالة تطفح بالأخطاء المعرفية ، والأخطاء المعرفية يمكن للمناقش المتخصص في موضوعها تبيانها والإشارة إليها ، وهي غالبا ما تغيب عن ذهن المناقش غير المتخصص ، حتى لو كان برتبة أستاذ دكتور في تخصصه .
ولقد صرت شخصيا مناقشا غير مرغوب فيه ، وثمة جامعات لم أناقش فيها أية رسالة لتشددي في قبول الرسالة أو رفضها.
ماذا يعني أن يناقش أستاذ رسالة لم يكتب هو شخصيا أية دراسة في موضوعها ، في حين أن هناك أستاذا آخر كتب كتابا في الموضوع ؟ لو كان غير المتخصص تخصصا دقيقا موجودا لتقبل الأمر .
إن النظر في أعضاء لجنة المناقشة والأستاذ المشرف وصلتهم بالموضوع وحزمهم ودقتهم يمنح الرسالة قيمة عليا وقد يدفع دور النشر إلى نشرها ، وحين يتقدم صاحب الرسالة هذه إلى منصب في جامعة محترمة علميا ، فقد يوفر له فرصة عالية للحصول على الشاغر .
حين أحدد لجنة مناقشة رسالة ما ، فإنني غالبا ما أنظر إلى أعضاء هيئة التدريس وما كتبوه في موضوعها أو في موضوع قريب منها ، وأنظر أيضا في سويتهم العلمية قبل كل شيء ؛ سعة اطلاع ومنهجية ودقة ، فما يغيب عن ذهني يمكن أن يشيروا إليه ، وتأتي استشارة الطالب وأخذ رأيه فيما بعد ، وغالبا ما آخذ رأي الطالب بالحسبان ، فاسأله وأستشيره وأقترح عليه وأوضح له الأمر .
في الفترة الأخيرة ، على سبيل المثال ، أنهى طالب رسالة ماجستير يرتكز موضوعها على " رثاء الأقارب والذات في الشعر الفلسطيني : فدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور ومريد البرغوثي نموذجا " فاقترحت عليه أسماء مناقشين ذوي صلة بالرسالة وشرحت له مدى صلتهم بموضوع رسالته وعرضت عليه أن يختار مناقشين منهما ، فرأي الطالب في المناقشين قد يشعره بالارتياح ، ولكن رأيه ، كما ذكرت ، يأتي ثانيا .
ولو كانت الأوضاع السياسية في الضفة والقطاع تسمح باختيار مناقشين مناسبين من العالم العربي لما ترددت في اختيار المناقش المتخصص ، وحاولت أكثر من مرة تجريب المناقشة عبر وسيلة " الفيديو كونفرنس " ولكني لم أنجح ، فمرة رأيت أن يناقش الدكتور الجزائري عبد الملك مرتاض رسالة عنوانها " الرواية الفلسطينية وتأثرها بالرواية الجزائرية : يوسف العيلة وأحلام مستغانمي مثالا " ومرة ثانية اقترحت على الأستاذة يمنى العيد أن تناقش دراسة عنوانها " التناص في رواية الياس خوري " باب الشمس " ، والياس خوري كاتب لبناني ، ولقد اتصل الطلاب بالأستاذين الكريمين ؛ مرتاض والعيد ، وتعذر الأمر تكنولوجيا ، ومرة ثالثة اقترحت على طالب ، كتب رسالة عن رواية واسيني الأعرج " البيت الأندلسي " ، أن تناقشه الأستاذة رزان ابراهيم كونها أبرز متخصص في أعمال الروائي ، ولكن تعذر ، في حينه ، حضورها إلى الأرض المحتلة.
ما سبق عموما ، بهذا الشأن ، غيض من فيض ، وهو جانب مهم جدا في الدراسات العليا.
كيف يمكن لمشرف ضعيف ومناقش ضعيف أن يخرجا طالبا وباحثا سيصبح ، بدوره ، باحثا ومشرفا؟

***

أنا والجامعة : بدايات برنامج الدكتوراه ٣٩ :

افتتح برنامج الدكتوراه في قسم اللغة العربية قبل عامين تقريبا ، ولكن فكرة إنشائه تعود إلى سنوات خلت تقارب عقدا من الزمن ، فقد دعا رئيس الجامعة ، في حينه ، الدكتور رامي الحمدلله قسم اللغة العربية إلى مكتبه ليتباحث مع أعضائه في موضوعات تخص القسم متعدد المشاكل الذي أزعج إدارة الجامعة لسنوات طويلة كما لم يزعجها قسم آخر ، وكان التدريس الإضافي سببا من أسباب مشاكل القسم ، وغالبا ما اختلف الزملاء فيما بينهم حول اقتسام الساعات الفائضة عن نصابهم .
كان أعضاء هيئة التدريس غالبا ما يترددون على مكتب النائب الأكاديمي لشرح وجهات نظرهم وإبداء رأيهم فيما يجري ، حتى فاض الكيل مع رئاسة الجامعة فدعت إلى اجتماع لتدارس الأوضاع .
في الاجتماع طرح رئيس الجامعة فكرة افتتاح برنامج دكتوراه في تخصص القسم ، ووجهة نظره أن القسم يضم بين أعضاء أسرته تسعة من المحاضرين برتبة أستاذ دكتور ، وهو بذلك أكثر قسم في الجامعة مهيأ لمنح درجة الدكتوراه.
سأل رئيس الجامعة عميد كلية الآداب أولا ، وكان في حينه من قسم اللغة العربية ، ثم طلب الاستماع إلى رئيس القسم ، وأصغى إلى الأساتذة أستاذا أستاذا ، وجميعهم رحبوا بالفكرة ، وعندما طلب مني إبداء وجهة نظري ، جاءت إجابتي مخالفة وربما غير متوقعة إلا للرئيس ، فقد قلت له ، بعد أن ألمحت له بعيني بالرفض ، إنني كنت أتوقع أن تسألنا عن رأينا في برنامج الماجستير ، فالبرنامج يعاني من ضعف لافت .
لقد وقع كلامي على سمع زملائي وقع العاصفة ، فأنا الأصغر سنا من حملة درجة الأستاذية والأحدث حصولا عليها . وعندما طلب مني إبداء وجهة نظري وضعت النقاط على الحروف وأشرت إلى موضوعات رسائل ماجستير ضعيفة جدا تشير إلى فقر معرفي ، وما فاجأ الجميع أنني كنت جريئا أكثر من المتوقع . ذكرت مثلا عناوين رسائل ماجستير يمكن أن ينجزها الحاسوب بنصف ساعة وبدقة متناهية ، وهي تلك الرسائل الخاصة بالمعجم العربي ، وأتيت على رسالة طالبة في الأدب الفلسطيني أعدتها إليها مرتين ، رافضا مناقشتها إلا بعد أن تجري عليها تعديلات جوهرية ، وأعتقد أن قصة هذه الرسالة كانت وراء الاجتماع.
عندما اقترح اسمي مناقشا داخليا لفحص الرسالة وإبداء رأيي فيها ، قرأتها وكتبت إنها غير صالحة للنقاش ما لم تجر عليها تعديلات جوهرية . غابت الطالبة وأجرت تعديلات معينة ثم قدمت رسالتها ثانية ، فقرأتها ثانية ولم يختلف رأيي الجديد عن رأيي السابق . سلمت الرسالة وعليها ملاحظات كثيرة إلى عميد الدراسات العليا مباشرة ، ويبدو أنه عرضها على رئيس الجامعة فدعانا إلى الاجتماع ، وفيه حددت الأسماء ، مما أشعر زملائي بالاستياء الشديد ، وهو ما لم أشعر ، شخصيا ، بسببه بندم ما ، أو بخجل ما ، أو بإحراج ما ، فزملائي أكثرهم انتهكوا خصوصيات ودحشوا أنوفهم في أمور شخصية مسيئين أضعاف أضعاف ما اعتقدوا أنه إساءة إليهم ، علما بأن الموضوع علمي تماما وكل ما في الأمر أن صاحب الرأي لم يجامل .
إن المجاملات السائدة بين الزملاء أضرت القسم كثيرا ، وللأسف فإن كثيرين من أعضاء هيئة التدريس لا يميزون بين الناحية العلمية والأمور الاجتماعية والشخصية ، وغالبا ما تختلط هذه بتلك ، ما يؤثر على مجمل العملية التعليمية.
تراجعت ، بعد الإجتماع لدى رئيس الجامعة ، فكرة افتتاح برنامج الدكتوراه وغابت عقدا من الزمان ، إلى أن عادت من جديد ، ولعودتها قصة .
صباح الخير
٢٥ حزيران ٢٠٢٠

***

أنا والجامعة: برنامج الدكتوراه ثانية ٤٠

تأجل افتتاح برنامج الدكتوراه في القسم عشر سنوات وأكثر ، تقاعد خلالها ما لا يقل عن خمسة من الأساتذة ، ولكنهم ظلوا يحاضرون كأعضاء هيئة تدريس غير متفرغين.
خلال هذه السنوات العشر اقترح أحد أعضاء القسم ، في اجتماع لرئيس الجامعة مع مدرسي كلية الآداب ، افتتاح برنامج دكتوراه لغة عربية ، ما دفعني للاعتراض ثانية ، مكررا وجهة نظري القديمة وهي أنه ينبغي إعادة النظر في برنامج الماجستير .
إن فكرة إعادة النظر في برامج دراسات عليا طبقتها جامعات عربية في بلدان مجاورة لاحظ مدرسوها ضعف برنامجهم وخريجيهم ، فأوقفوا العمل في البرنامج لعام أو عامين ، ثم استانفوا البرنامج بعد وضع شروط جديدة.
الفكرة السابقة نفسها عرفت فكرة قريبة منها وأنا أدرس في ألمانيا ، فقد أخذ قسم ممن هم برتبة أستاذ دكتور ( بروفسور ) في ألمانيا الشرقية يهربون من بلدهم ، ملتجئين إلى ألمانيا الغربية ، ولم تعترف هذه برتبهم إلا بعد أن يعاد أستذتهم ( Rehabilitation ) ، وقد حضرت بنفسي محاضرة أستاذة هاجرت من ألمانيا الشرقية ودرست في جامعتي ( Bamberg ) لتمنح درجة الأستاذية من جديد . إنها الأستاذة ( Wiebke Walter ) التي كتبت مؤلفات عن " المرأة في الإسلام " و " ألف ليلة وليلة " وكنت أحيانا أقرأ معها بعض النصوص العربية حين تشكل عليها بعض المفردات المكتوبة بحروف عربية وهي ليست عربية.
قبل أعوام قليلة اشترطت وزارة التربية والتعليم / التعليم العالي على الجامعات ، إن كنت دقيقا ، ألا يتم افتتاح أكثر من برنامج دكتوراه في الجامعات - يعني لا يجوز أن يفتتح في الأرض المحتلة برنامجا دكتوراه في تخصص اللغة العربية في جامعتين مختلفتين ، وإن لم تعارض الوزارة التنسيق بين جامعتين لافتتاح برنامج دكتوراه موحد.
كانت إدارة الجامعة على علم وطيد بهذا ، فرئيس الجامعة له صلة وثيقة بوزارة التعليم العالي ، كونه رئيس جامعة ورئيس وزراء أيضا.
أخذ رئيس الجامعة القرار السابق بالحسبان ، وخشي أن تسبق جامعة أخرى غير جامعة النجاح جامعته التي ظل محتفظا برئاستها ، إلى جانب كونه رئيس وزراء ، فقرر افتتاح برنامج الدكتوراه في النجاح ليخصها به حتى يكون لها السبق ، فتفاخر باختلافها عن غيرها وبتميزها ووجود برامج دكتوراه فيها .
والحق إن فكرة المنافسة بين الجامعات فكرة لم ترق لي إطلاقا ، وما زالت لا تروق لي ، وهذا شيء آخر .
عندما عرض موضوع برنامج الدكتوراه على القسم وافق جميع أعضاء هيئة التدريس إلا أنا ، وكنت ما زلت أطالب بإعادة النظر في برنامج الماجستير الذي بدأ قويا ثم ترهل لأسباب عديدة كثيرة قد تكون وردت فيما سبق ، ويضاف إليها تدني مستوى قسم من الطلبة المقبولين الجدد . كانت الجامعة تقبل عددا محدودا من المتقدمين للبرنامج بتقدير جيد جدا على الأقل ، ثم صارت تقبل كل من يتقدم للدراسة ، وصار امتحان القبول شكليا ، ولم تفرمل سياسة القبول إلا بعد احتجاجات على مستوى طلاب من جامعات أخرى.
طلب مني أن أشارك في وضع مخطط برنامج الدكتوراه ، فلم أوافق ، وعندما طالبت الإدارة تبيان الأسباب بكتاب خطي ، كتبت وجهة نظري ، والكتاب فيما أعتقد ما زال موجودا.
تلخصت وجهة نظري في أمور عديدة منها أن أكثر حملة درجة الأستاذية غير مؤهلين للإشراف والتدريس ، وأن من هم برتبة أستاذ مشارك لا يختلفون عنهم أيضا . ومنها أن نصاب من هم برتبة أستاذ دكتور اثنتا عشرة ساعة تدريس ، عدا تدريسهم مساقات إضافية ، وتدريسهم في جامعات أخرى .
اشترطت شخصيا ، لكي أدرس الدكتوراه أن يكون نصابي التدريسي تسع ساعات فقط ، وألا أحضر إلى الجامعة إلا ثلاثة أيام ، فالحضور اليومي دون مبرر يستنزف الطاقة ، ومن الأسباب أيضا عدم قبول عدد كبير من الطلاب ، وهذا ما لم توافق عليه الإدارة.
رفضت الإدارة تخفيف العبء التدريسي ، ولم توافق على الدوام ثلاثة أيام فقط ، وقبلت في الدفعة الأولى خمسة عشر طالبا أضيف إليهم لاحقا عشرة طلاب آخرون ، ولا أظن أن هناك أساتذة أكفاء يشرفون على هذا العدد ، أساتذة لديهم مناهج دراسية نقدية أفادوها من الجامعات التي درسوا فيها . طبعا حين أدرج مساق دكتوراه تحت اسمي لم أعترض ؛ لأنني ما زلت عضو هيئة تدريس تجبره القوانين على ذلك ، وحين سحب المساق لم أكترث ولم أشعر بأسى أو حزن ، وحين سئلت بعد إنهاء عملي أن أدرس مساقا واحدا في البرنامج كررت شروطي لمواصلة التدريس : تسع ساعات أسبوعيا فقط وبعقد سنوي ودون أن أسأل من أي طرف ، لا من رئيس القسم ولا من العميد ولا من رئاسة الجامعة . هكذا كنت أثمن نفسي عموما.
ما سبق لا يعني أن برامج الدكتوراه في كثير من الجامعات العربية أفضل ، فأكثر أعضاء هيئة التدريس في القسم هم من خريجي تلك الجامعات ، وكثير من أبحاثهم لا قيمة كبيرة لها ، وكثير من الرسائل التي أشرفوا عليها ليست لها قيمة علمية كبرى ، والاقتباسات العلمية من هذه الرسائل يمكن أن يقول بالدليل ما أذهب إليه.
حين غادر الدكتور وليد سيف الجامعة الأردنية مستقيلا كتب في سيرته " الشاهد المشهود " شيئا مقاربا لما أكتب ، وربما فصل أكثر حين كتب عن زملائه ، وإن لم تخني الذاكرة فإنه لم يشعر بالندم ، إذ استشهد بأبيات شعرية هي :
" نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
إن تقبلوا نعانق
أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق " .
حين أعطيت محاضرتي الأخيرة في الجامعة ، يوم الثلاثين من أيلول ، أعطيتها بفرح كما أعطيت محاضرتي الأولى.

٢ تموز ٢٠٢٠

***

أنا والجامعة : جامعة الحصار والانتصار (٤١)

لم تكن الظروف التي مرت بها جامعات الأرض المحتلة بعامة ظروفا سهلة وميسرة ، فقد عانت من الاحتلال حيث كانت الحواجز في أيام كثيرة قبل العام ١٩٩٤ تحول دون سير الدراسة بانتظام ، فكلما تظاهر الطلاب معبرين عن موقف سياسي يدعو إلى إنهاء الاحتلال ويؤيد سياسات منظمة التحرير الفلسطينية كانت الحواجز تقام على الطرق المؤدية إلى الجامعة . مجرد دورية فيها خمسة جنود تحول دون وصول سبعة آلاف طالب إلى قاعات تدريسهم وتعيدهم من حيث أتوا ، غير آبهة بما يعانونه ويكابدونه من مشقة الوصول ومن التكاليف التي يدفعها أولياء الأمور من دم القلب ، وهكذا لم تنتظم العملية التعليمية ولم ينتظم العام الدراسي ، فلم تكن تعرف متى يبدأ العام الدراسي ومتى ينتهي ، خلافا للجامعات في دول العالم كله .
ومن المؤكد أن الأمور لم تكن غالبا تمر بانتظام ، فأحيانا كان الطلاب يشتبكون بالحجارة مع قوات الاحتلال وقد ينجم عن ذلك جرحى وقتلى ، بل إنه نجم ولكني للأسف لا أملك إحصائية ولا قائمة بأسماء الطلاب الذين جرحوا أو استشهدوا ، ولا أظن أن الجامعة لا تملك مثل هذه الإحصائية ، ولكن عددا من الطلاب الذين علمتهم في الجامعة أو في المدرسة استشهدوا في مقاومة الاحتلال.
مرة كتبت قصة عنوانها " أين ذهب فيصل ؟ " وفيصل فيها هو أحد طلابي الذين استشهدوا في مقاومة الاحتلال . لم يكن فيصل الوحيد فهناك غيره عديدون ولكنه الوجيد الذي خصصته بقصة قبل استشهاده.
في صيف العام ١٩٩٢ حوصرت الجامعة لمدة يومين ، ولحسن الحظ أو لسوئه أنني قبل أن تحكم عليها السيطرة غادرتها بساعة لأسافر إلى القدس وأحرر صفحة "الشعب الثقافي " في جريدة " الشعب " المقدسية ، وكنت أغامر بالذهاب إلى القدس ، فلم يكن يسمح لنا بدخولها إلا بتصريح يصعب الحصول عليه . عدت بعد عودتي من ألمانيا إلى المشاركة في العمل الثقافي وإلى المساهمة في العمل الصحفي وتحديدا في الجريدة نفسها مع اختلاف ظروف العمل واختلاف ظروف علاقة سلطات الاحتلال بالمدينة المقدسة ودخول أهل الضفة الغربية وقطاع غزة إليها .
حوصرت الجامعة في صيف ذلك العام لمدة أيام عانى فيها آلاف الطلبة من قنابل الغاز المسيل للدموع ومن قلة النوم والطعام معاناة كبيرة ، وإن لا تكا تذكر قياسا لمعاناة الفلسطينيين بعامة في عام النكبة وحرب أيلول والحرب الأهلية في لبنان وحروب غزة ولاحقا معاناة أهل مخيم اليرموك والمخيمات الفلسطينية في سوريا .
أطلق على الجامعة منذ ذلك اليوم اسم " جامعة الحصار والانتصار " وصار الاسم يتكرر باستمرار كما لو أنه لازمة مضافة إلى اسم الجامعة أو عنوان فرعي لها.
حقا إن الجامعة حوصرت وفك حصارها ولكني غالبا ما كنت أرى في إطلاق هذا الوصف عليها ضربا من المبالغة التي لا ضرورة لها ، فالجامعة إن حوصرت ، وقد حوصرت لأيام ، فعلام انتصرت وما هو الانتصار الذي حققته.
أحيانا كثيرة نستخدم مفردات كبيرة لإنجازات صغيرة جدا ، ونطرب لهذه المفردات ويبدو أنها تعبر عن خلل في تفكيرنا أو أنها ضرب من التعويض عما نفتقده .
مرة كتب الشاعر الشهيد علي فودة :
" بقلبي أريحا
وكنا نحن ولو مرة
لانتصار "
ومن قبله كتب شاعر أندلسي :
" مما يزهدني بأرض أندلس
ألفاظ مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا هيئة الأسد "
وأعتقد أن إطلاق هذا الوصف على الجامعة لحصار استمر بضغة أيام كان في غير موضعه ، وغالبا ما كنت أعبر عن امتعاضي وأنا أصغي إلى مذيعي إذاعة الجامعة وبعض مسؤوليها وبعض الدكاترة يرددونه دون أن يفكروا فيه حقا وفي حصار لا يكاد يذكر إذا ما نظرنا إلى حصار بيروت في ١٩٨٢ أو إلى حصار غزة بعد العام ٢٠٠٧ وفي أثناء الحروب عليها .
حكايات الجامعة كثيرة وعديدة وحكايات الإعلام فيها تحتاج إلى إمعان نظر فيها أيضا .
مرة خاطبت مذيعة الشباب والشابات في الجامعة وقالت للأولين يا شباب إذا أردتم أن تتشبشبوا ف... واعترضت على لغتها وكتب على الفيس ، فما كان من المذيعة والعاملين معها إلا أن هاجموني مرارا بحجة أنني ألحقت بها ضررا كان يمكن أن يؤدي إلى فصلها من عملها .
وكنت أتساءل:
- لماذا لا يتعب إعلاميونا على أنفسهم ؟ لماذا لا يهتمون بلغتهم ؟ لماذا لا يثقفون أنفسهم ؟
ومن مآخذي عموما على الجامعة وجامعات الأرض المحتلة أنها غالبا ما تلجأ إلى سياسة مديح الذات والافتخار بإنجازاتها كما لو أنها تسلك سلوك شعراء النقائض في الشعر العربي ؛ مبالغة في مدح الذات وهجاء مبطن يقلل من قدرات الجامعات الأخرى ، وفيما عرفته فإن افتتاح برنامج الدكتوراه في جامعة النجاح الوطنية قصد من ورائه السبق للتفاخر بأن الجامعة فيها برامج دكتوراه ، مختلفة بذلك عن غيرها ومتميزة عنها أيضا .

***

- أنا والجامعة : أقساط أبناء العاملين (٤٢)


رزقني الله بابنتين تعلمتا في الجامعة الأردنية تعليما موازيا ، مع أنهما حصلتا في امتحان التوجيهية على معدل ٩١ فما فوق ، ولم ترغبا في الدراسة في جامعة النجاح الوطنية ، لأنهما تقيمان ، مع أمهما في عمان ، ولأن " ابنك هو من تربيه" و" البعيد عن العين بعيد عن القلب" ولم تغب عن ذهني قصة النبي سليمان ومسرحية ( برتولد بريخت) " دائرة الطباشير القوقازية" ورواية غسان كنفاني " عائد إلى حيفا" ومآل خلدون فيها.
لو درست ابنتاي في جامعة النجاح الوطنية لوفرتا علي الأقساط الجامعية التي دفعتها ، وبلغت تقريبا ٢٧ ألف دينار أردني ، فسعر الساعة المعتمدة في الجامعة الأردنية هو ثلاثة أضعاف سعرها للطالب الأردني والفلسطيني الحاصل على هوية أردنية ، وأنا فلسطيني وابنتاي تتبعان جنسيتي قبل أن تحصلا مؤخرا على الجنسية الأردنية.
ما كنت لأكتب الكلام السابق لولا صلته بموضوع يخص جامعة النجاح الوطنية ، ولا أعرف إن كانت جامعات أخرى غيرها تطبقه ، وهو إعفاء أبناء العاملين من الرسوم الجامعية ، ويتبعه زيادة عشر علامات على معدل التوجيهي لتسهيل دخولهم إلى الجامعة.
في اللقاءات بين إدارة الجامعة ونقابة العاملين ، وكنت أحضر اجتماعا عاما ، وبعد جدل بين الطرفين تمت موافقة إدارة الجامعة على القرار ، وكنت ضده لأسباب عديدة ، علما بأنني كنت ذات يوم ولدورتين نقابيتين منتخبا في مجلس النقابة ، وعلما بأنني بقيت عضوا في النقابة وفي صندوق الإخاء الذي أسسته حتى آخر يوم عمل.
وجهة نظري كانت وما زالت هي إلغاء الامتيازات في التعيين والقبول ، والتعامل مع أبناء الشعب الفلسطيني على قدر المساواة وحسب الكفاءة ، وفوق ما سبق أن العاملين في الجامعة يتقاضون رواتب ممتازة تمكنهم من دفع أقساط أبنائهم بيسر ودون معاناة ، وأن معلمي الحكومة مثلا ، والعمال وغيرهم يدفعون الرسوم ودخلهم الشهري أقل بكثير من دخل أساتذة الجامعات . ولو استثني أبناء الموظفين ممن دخلهم أقل من ٦٠٠ دينار شهريا لربما تقبل الأمر ووجد المرء للقرار مخرجا.
" اللي بصنع العسل بذوقه " أو " اللي بصنع السم بذوقه .. " ، وهذا مثل سمعته ممن اقترح على الإدارة إعفاء أبناء العاملين من الرسوم الجامعية ، وأظن أنه لا يتناسب والتفكير العلمي الذي يفترض أن يسود في الجامعات .
الكتابة عن أقساط أبناء العاملين تحيل إلى الكتابة عن التعيينات ، وهنا أخص بالذكر التعيينات الإدارية ، فالعديد ممن عينوا عينوا لأسباب عائلية ترتبط بمؤسسي الجامعة ومجلس أمنائها ورؤسائها المختلفين ، ومرة خربشت على صفحة " الفيس بوك " الخاصة بي أتساءل:
- ماذا لو فتحنا ملف التعيينات الإدارية في جامعاتنا؟
وحتى لا أرجم بالغيب أتحدث عن تجربة شخصية مررت بها.
في العام ١٩٨٠ أعلنت الجامعة عن حاجتها لموظفين إداريين للعمل في مكتبة الجامعة ، وقد تقدمت للوظائف المعلن عنها وتقدم معي ٦٣ آخرون ، وأجري للمتقدمين كلهم امتحانان ؛ امتحان ثقافة عامة وامتحان في علوم المكتبات ، وقد حصلت على العلامة الأعلى ، واختارت الإدارة ٨ أسماء هي التي حصلت على أعلى العلامات ، لتجري معهم مقابلة تختار منهم ٤ ، ولم أعين يومها ، لا لخلل في تكويني الشخصي ، فواحد ممن عينوا لم يتقدم للامتحانين ، وعين لصلة القرابة برئيس مجلس الأمناء.
لسوء حظ الإدارة أنني احتفظت بإعلان الجريدة وما زلت أحتفظ به.
طبعا ما سبق لا يعني أن جامعة النجاح الوطنية أسوأ الجامعات ، فالجامعات العربية كلها تقريبا تتشابه في هذا ، بل إن جامعات بعض الدول العربية بلغت حدا من السوء لا يجارى ، وما عليك إلا أن تقرأ رواية خالد خليفة " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " لترى بؤس الجامعات في الأنظمة الشمولية ، ولا تختلف عنها جامعات الدول الملكية ، فلكي يوافق على تعيينك في الجامعة يجب أن تحصل على شهادة حسن سيرة وسلوك من جهاز المخابرات.
عندما كان الدكتور رامي الحمدلله رئيسا للوزراء سئل عن سياسة حكومته في التعيينات ، وإن كانت تراعي النزاهة والشفافية ، وما زلت أذكر تقريبا رده . يومها أجاب بأننا مثل بقية شعوب العالم الثالث - يعني إن النزاهة والشفافية ليست متوفرة كليا وأن هناك استثناءات.
ترى لو درست ابنتاي في جامعة النجاح الوطنية وأعفيتا من الأقساط الجامعية ، ترى هل كنت سأكتب في هذا الموضوع؟
ربما تجدر الكتابة عن تجديد عقود بعض من أنهوا عملهم لبلوغهم الخامسة والستين وعدم تجديد عقود آخرين منهم!!

***

أنا والجامعة : تجديد عقود العمل لمن بلغوا سن التقاعد (٤٣)

مرة كتبت مقالة عنوانها " مثل غريغوري ، هكذا أنا في الخامسة والستين " استوحيتها من مآل زميل لي بلغ الخامسة والستين من عمره ، وأنهت الجامعة عمله فيها ولم تجدد له عقده ، واتفق أن كان مريضا ، فتذكرت قصة( فرانز كافكا ) " المسخ / التحول " وبطلها ( جريجوري).
كان ( جريجوري ) قويا فاحترمه صاحب العمل ووالده ووالدته ولما تحول إلى حشرة ، وهذا له مدلول رمزي ، فقد تخلى عنه الجميع ؛ صاحب العمل ووالده ووالدته ، فأنت بمقدار ما تعطي تأخذ وحين تعجز عن العطاء لا يلتفت إليك .
طبعا من حق إدارة الجامعة أن تتعامل بقانون الأخذ والعطاء ، ولكن السن وحدها ليست المحدد الرئيس ، فهناك القدرة على العطاء وعدمها ، وكم من شخص بلغ الخامسة والستين وهو في قمة عطائه ، وكم من شخص لا يعطي أبدا وإن كان في الثلاثين من العمر . هنا لا أقلل شخصيا من عامل السن وأن الشباب هم الأكثر قدرة على العمل والانتباه وربما قوة الذاكرة والتركيز ، وإن كان ثمة من حقل يمكن أن يشذ عن القاعدة فهو الحقل الأكاديمي ، ولهذا فإن الجامعات تسمح لأعضاء هيئة التدريس بمواصلة عملهم حتى السبعين ، وأحيانا حتى سن الخامسة والسبعين ، إن كانت صحتهم جيدة.
في الجانب الأكاديمي هناك الخبرة والتأليف والكفاءة - هكذا يفترض - وهناك برامج الدراسات العليا من ماجستير ودكتوراه ، وهذه البرامج تحتاج إلى من هم برتبة أستاذ دكتور ليدرسوا وليشرفوا على الرسائل العلمية وليناقشوها .
في الأسبوع الأخير تناقلت وسائل الإعلام خبرا مفاده أن الجامعة الأردنية فصلت ٢١ عضو هيئة التدريس ممن لم يكتبوا خلال السنوات الأخيرة أبحاثا ، وإن صح الخبر فإن الجامعة تسير في الطريق الصحيح ، لأن عضو هيئة تدريس لا يكتب أبحاثا لا يستحق أن يظل على رأس عمله في جامعة ، ولا أظن أن جامعة من جامعات الأرض المحتلة قامت بفصل أحد أعضاء هيئة تدريسها لهذا السبب ، لأنها لو فعلت هذا فإنها ستفصل العديدين وأولهم بعض رؤساء الجامعات.
في جامعة النجاح الوطنية لا أعرف معيارا علميا صارما اعتمد عليه في التعامل مع من بلغوا سن الخامسة والستين ، فهناك من بلغه ومدد عقد عمله ، وهناك من بلغه ولم يجدد له ، ما جعلني مرارا أكتب " محمد يرث ومحمد لا يرث " وكنت أصغي إلى حكايات التمديد والتجديد التي لا تصب في صالح إدارة الجامعة.
لكي يكون كلامي السابق مقنعا فإنني هنا سأتحدث عن تجربتي وتجربة قسمي وقسم اللغة الإنجليزية.
ليس هناك برنامج دكتوراه في قسم اللغة الإنجليزية ، ومع ذلك فقد مدد مرة عقد عمل أستاذة تمديدا كاملا لسنوات ، وكانت الحجة أن القسم بحاجة إلى تخصصها ، وهذا سبب مقنع ، وفيما بعد صارت الجامعة تمدد لأعضاء هيئة التدريس في القسم ، علما بأن قسما منهم لم يكتب خلال عقود أي بحث ، وظل يدرس ما يقارب ال ١٨ ساعة أسبوعيا . كان حملة الدكتوراه في القسم قليلين عددا ، وكانت بعض المساقات تتطلب أن يدرسها حملة الدكتوراه ، ومع مرور الأيام كثر حملة الدكتوراه ، ومع ذلك فإن الجيل المؤسس ظل يدرس ويدرس ونادرا ما كتب أبحاثا . لقد تعين برتبة أستاذ مساعد ونادرا ما بلغ رتبة أستاذ مشارك ، وحين بلغ الخامسة والستين مددت له إدارة الجامعة عقد عمله.
اختلف الأمر في قسم اللغة العربية ، فمع أن اكثر أعضاء هيئة التدريس فيه ترقوا وحصلوا على رتبة أستاذ دكتور ، إلا أن إدارة الجامعة لم تمدد لأي من حملة هذه الدرجة عقده ، وخيرته بين إنهاء عمله أو التدريس الإضافي ، وظل الأمر على هذا الحال حين افتتح برنامج الدكتوراه.
ثمة في الأمر مفارقة لا شك ، إذ أن الذي يفترض أن تتمسك إدارة الجامعة بحملة درجة الأستاذية للتدريس والإشراف في برنامجي الماجستير والدكتوراه.
حسب ما أعرف فإن عدد طلاب برنامج الدكتوراه هو ٢٥ طالبا ، وهؤلاء يحتاجون إلى مشرفين متمرسين أكفاء ، ولا أظن أن القسم بمن تبقى من أعضاء هيئة التدريس فيه قادر على القيام بهذه المهمة ، ولطالما كتبت عن المستوى العلمي لبعض مدرسيه تحت عنوان " إعادة دكترة الدكاترة" ، فلا ثقافتهم تمكنهم من التدريس والإشراف ولا منهجيتهم أيضا ، بالإضافة إلى فقر نتاجهم العلمي.
ولكي أكون أكثر إقناعا فإنني أحيل إلى أبحاثهم ورسائل الماجستير التي أشرفوا عليها أو ناقشوها أو ناقشتها مع قسم منهم وإلى الأبحاث الكثيرة التي أرسلت إلي لتحكيمها . إنها تدل على هزال معرفي وفقر منهجي وتكرار في الكتابة أو الموضوعات.
الطريف طبعا أن إدارة الجامعة مددت عقد زميل لم يحصل على أية رتبة منذ عين - أي منذ سبعة وثلاثين عاما ، وذهب ليدرس الأدب المقارن ، وحين عاد لم يدرس المساق إلا مرات قليلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
عندنا مثل شعبي يقول " لاقيني ولا تغديني " وأظن أن الإدارة عملت بمثل قريب منه يقول " قرد موالف ولا غزال مخالف" ، فلكي ترضى عنك الإدارة وتمدد عقدك عليك أن تكون قردا موالفا ، وعليك ألا تنتقد سياستها ، وعليك أن تصفق لرأيها السديد دائما وتمدح إنجازاتها مهما كانت وكيف كانت .
في الحلقة السابقة عقب قاريء على ما كتبته متسائلا:
- لماذا يا دكتور لم تكتب هذا قبل أن تنهي عملك؟
وكنت استمعت إلى الرأي نفسه من الصديق المدير المالي رشيد الكخن Rashid Kukhun وصرت كلما قرأت في ذاكرة الفيس بوك نقدا لإدارة الجامعة كتبته خلال السنوات السبع الأخيرة ، صرت أرسله إليه . وأما من عقب متسائلا فأجبته بأنني وأربعة من زملائي تجرأنا ورفعنا قضية ضد قرار رئيس الجامعة ، حين كان الرئيس رئيس وزراء.
ما أود أن أخلص إليه في هذه الحلقة التي قد تكون الأخيرة هو أن إدارة الجامعة في سياسة تمديد العقود ما كانت تعتمد معايير علمية مقنعة . إن الولاء والولاء فقط هو المعيار ، وقد كتبت من قبل إن إدارة الجامعة لا تريد كفاءات قدر ما تريد ولاءات.
في العام الأخير - أي بعد تقاعدي - عرفت أن الجامعة لن تجدد عقد أي ممن بلغوا سن الخامسة والستين ، وأن هناك استثناء واحدا فقط ، ولست متأكدا من الاستثناء - ، فهل هي مصيبة في قرارها؟
أنا واحد ممن كانوا ينادون بذلك لفسح المجال أمام الأجيال الجديدة حتى تأخذ فرصتها ، علما بأنني كثيرا ما انتقدت ممن بلغ هذا السن ، حيث كانوا ينادون بالعمل بمبدأ الكفاءة المهنية والخبرة وأن هناك مهنا يمكن أن يظل أصحابها يعملون بكفاءة حتى سن متأخرة.
هل كانت خربشاتي التي كنت أنتقد فيها ما أراه سلبيات أشبه بما نادى به غسان كنفاني في روايته " رجال في الشمس " على لسان بطله " أبو الخيزران " - أي الدق على جدران الخزان " لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟ لماذا لم تدقوا جدران الخزان ؟ " .

***

أنا والجامعة : الأبحاث وجودتها ونوعيتها وعقدة الخواجا ( Impact Factor) (٤٤)

عندما تقدمت بأبحاثي للحصول على الترقية لم تكن الجامعة تشترط التنويع في مكان النشر ؛ خارج الوطن أو داخله ، أو في العالم العربي أو في العالم غير العربي ، ولم أكن سمعت بمصطلح ( Impact Factor ) .
لقد نشرت أبحاثي كلها في مجلة جامعة النجاح الوطنية ، وكانت الجامعة ترسل الأبحاث العلمية المقدمة للنشر فيها إلى أعضاء هيئة تدريس في العالم العربي ، وغالبا ما كانوا من الجامعات الأردنية ، والسبب يعود إلى أن الجامعات الفلسطينية في حينه كانت تخلو من أساتذة برتب علمية عالية . هل تختلف قيمة بحث يحكمه أستاذ في جامعة عربية - إن نشر في مجلة جامعة النجاح الوطنية - عن قيمته إن نشر في مجلة الجامعة الأردنية مثلا ، ومحكمه هو عضو هيئة تدريس في الأخيرة ؟
حين نادت الجامعة بضرورة التنويع في مجلات النشر أبديت رأيي السابق ، ذاهبا إلى أن أكثر أبحاثنا - وإن نشرت في جامعة النجاح الوطنية - قرأها محكمون من جامعات عربية . إن ما اشترطته جامعة النجاح لم يكن مقنعا عموما ، وما زال غير مقنع ، والأكثر إقناعا هو أن يرسل البحث لصاحب الاختصاص فيه وللمتمكن علميا ، وبعد ذلك لا أهمية لمكان نشره حتى لو نشر في صحيفة أو لم ينشر أصلا .
حصلت على الترقية على أبحاث نشرتها كلها في مجلة جامعة النجاح ؛ أبحاث حكم أكثرها في الأردن وأقلها في جامعات الأرض المحتلة ، ولم أنشر أي بحث في أي مجلة عالمية ، وإن كانت أبحاثي الأكثر اقتباسا ، منها ، من باحثين أجانب ، وإن كنت الأكثر مرجعية للدارسين في دراسة الأدب الفلسطيني .
من باب التشديد والصرامة صارت الجامعة تطلب من المتقدمين بأبحاثهم للحصول على الترقية أن يكونوا نشروا في مجلات " Impact Factor " ، وهذه مجلات غالبا ما تنشر الأبحاث فيها باللغة الانجليزية ، وأكثر أعضاء هيئة التدريس في أقسام اللغة العربية وبعض أقسام أخرى في كلية الآداب لا يتقنون الإنجليزية ، وهذا يعني استحالة ترقيتهم إلا إذا كتبوا أبحاثا مشتركة مع مدرسي قسم اللغة الإنجليزية . يكتب المتخصص في الأدب العربي البحث ويترجمه المتخصص في قسم اللغة الإنجليزية ، وينشران البحث معا على أنه بحث مشترك .
والحقيقة أنني كنت أسخر من قرار الإدارة بهذا الخصوص ، إذ ليس بالضرورة أن " كل افرنجي ابرنجي " و " ليس كل ما يأتي من الغرب يسر القلب " ، علما بأنني درست في الغرب وأفدت من دراستي هناك الكثير الكثير ، وعلما بأنني أشدد وأكرر على أنه ما كان لي أن أفيد من المناهج الوضعية والاجتماعية والبنيوية لو لم أدرس في ألمانيا ، وأنه ما كان يمكن لي أن أكتب العديد من الأبحاث بالطريقة التي كتبتها لو لم أفد من بعض القواميس والمعاجم المتخصصة المكتوبة بالألمانية .
وعلما أيضا بأنني ترجمت بعض الدراسات التي كتبها مستشرقون ألمان عن الأدب الفلسطيني وكان لي عليها بعض المآخذ ، وقد أتيت على هذا في كتابي " في مرآة الآخر : الاستشراق الألماني والأدب الفلسطيني " .
كانت مجلة الجامعة تعهد إلي بتحكيم بعض الأبحاث العلمية المكتوبة باللغة الإنجليزية وتتناول أعمالا أدبية فلسطينية ، ولم أكن أعتذر عن التحكيم ، فيمكن فهم أكثر ما هو مكتوب ، ومرة عهد إلي بتحكيم بحث في الأدب المقارن يركز على شاعرة فلسطينية وروائية عبرية / إسرائيلية ، ولحسن الحظ أنني قرأت للأخيرة ، بالألمانية ، بعض كتبها وترجمت رسالة ماجستير عن الأولى ، وكان رأيي أن البحث يحتاج إلى تعديلات جوهرية ، فالباحث الذي كتب عن الشاعرة الفلسطينية ، وهو فلسطيني ، اعتمد على ترجمات قصائدها إلى الإنجليزية ، ولم يعد إلى النص الأصلي بالعربية ، كما أنه اعتمد على مراجع ثانوية درست سيرة الشاعرة ، ولم يعد إلى السيرة نفسها ، وفوق ذلك أغفل يوميات الروائية العبرية المكتوبة أصلا بالإنجليزية .
لقد طلبت من كاتب البحث إجراء التعديلات ، وحين لم يجرها رفضته ، وكان أن أرسله إلى مجلة أجنبية وهي مصنفة على أنها ( Impact Factor ) وأجيز ، مع أنه يحفل بأخطاء منهجية .
ومرة حكمت ترقية لعضو هيئة تدريس في جامعة أردنية ، وكان من بين الأبحاث بحث منشور باللغة الانجليزية ، وقد حفل البحث بأخطاء معرفية ومنهجية جمة ، علما بأنه أجيز في مجلة عالمية . ويخيل إلي أن صلة محكمي البحثين بالأدب العربي صلة عابرة جدا .
غالبا ما أستشهد بالمثل الشعبي " أعط خبزك لخبازه لو حرق نصفه " ، ولهذا لا أثق شخصيا بسبعين بالمائة من الأبحاث المحكمة ورسائل الماجستير والدكتوراه في عالمنا العربي ، لضعف المشرفين عليها ولضعف لجان مناقشتها وهو ما كتبت عنه من قبل .
كنت ذهبت إلى أن الحلقة ٤٣ قد تكون الأخيرة ، وأحيانا لا بد من استدراكات .

***

أنا والجامعة : طلاب الدراسات العليا وبعض ادعاءات فارغة (٤٥)

بدأت الجامعة تفتتح أقسام الدراسات العليا في النصف الأول من ٩٠ القرن ٢٠ ، ولم تكن أعداد الطلاب في البداية تزيد على اثني عشر طالبا وطالبة ، ومع مرور الأيام وصل عدد الطلاب المقبولين إلى ثلاثين ، علما بأن عدد أعضاء هيئة التدريس لم يتضاعف تضاعف عدد الطلاب.
كانت حلقات الدرس في البداية تعقد في مكاتب أعضاء هيئة التدريس ثم صارت تعقد في قاعات الدراسة المخصصة لبرنامج البكالوريوس ، وصار الأستاذ يحاضر في طلبة الماجستير كما يحاضر في طلبة البكالوريوس . صار يتخلى عن الطلب من الطلاب كتابة الأبحاث ومناقشتها معهم في قاعات الدراسة ويجري امتحانات عوضا عن ذلك ، فمن غير المعقول مناقشة ثلاثين بحثا في عشر لقاءات.
مع مرور الأيام خف إقبال الطلاب على برنامج الماجستير ، فلم يجن الطلبة الحاصلون على الشهادة ثمارا تعادل ما توقعوه أو ما بذلوه من جهد.
ثمة طلاب كتبوا رسائل علمية ممتازة ، وثمة آخرون كتبوا رسائل عادية وأخرى مستواها ضعيف ، وهذا لا شك يحدث في جامعات عديدة.
غير أن اللافت في الدراسة مع مرور الأيام هو تقارب الدراسة الجامعية مع الدراسة في المدارس ، فالمعروف أن علامات طلاب الأخيرة ، قياسا الى سنوات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين ، ارتفعت ارتفاعا لا يصدق . فمثلا حين تقدمت في العام ١٩٧٢ إلى امتحان التوجيهي حصلت على معدل ٦ , ٨٤ وكنت الرابع على الضفة الغربية والتاسع بين الذكور في المملكة الأردنية الهاشمية ، ومعدلي هذا في هذه السنوات يجعلني في المرتبة ٣٠٠٠ ، إن لم يكن في المرتبة ٦٠٠٠.
غالبا ما كان الطلاب يشكون من تشددي في العلامات ويذكرونني بمعدلاتهم في امتحان التوجيهي ، وهنا آتي على قصة أحد الطلاب المتميزين ممن حصلوا في امتحان التوجيهي على معدل ٩٩.
تعرفت إلى هذا الطالب في مكتب زميل لي ، وكان يراجع علامة له ، وأظنها كانت ٢٠ من ٢٥.
لم ترق العلامة للطالب الذي شكا وتذمر وكان حزينا جدا ، فما كان مني إلا التوضيح له أن الدراسة الجامعية تحتلف عن الدراسة في المدرسة ، وأنني أنا لو تقدمت بامتحان في تخصصي لربما حصلت على ٢٠ من ٢٥ علامة .
عندما درست الطالب العديد من المساقات كان يحصل على علامات مرتفعة ولكن ليس كما يتمنى أو يتوقع ، وكنت بعد أن أسلمه ورقة إجابته اصطحبه معي وأوضح له الخلل في إجابته وإنني راعيته في التصحيح لنشاطه في المحاضرات ، ولقد أخذت بيده وشجعته على كتابة الأبحاث في مرحلتي البكالوريوس والماجستير ، وكان أن فاز بجائزة على بحث كتبه في مساق " مناهج البحث العلمي " ونشر في مجلة محكمة بحثا كتبه في مساق الأدب العربي الحديث في الماجستير .
هذا الطالب خلوق ومهذب ولكنه أصيب ، لمجاملة المحاضرين له ، بقدر من الغرور ، لدرجة أنه كتب على صفحة الفيس بوك الخاصة به فقرة " بوست " ذهب فيه إلى أن العلم لا يؤخذ عن أستاذ . كما لو أنه لم يفد شيئا من دراسته الجامعية ، والطريف أن أيا من أساتذة القسم لم يعترض على الفقرة " البوست" وعندما التقيت بالطالب في مكتب رئيس القسم قلت له إن ما كتبه يعني أننا لا ندرس وأن على الجامعة أن تمنحه الدكتوراه فورا ، وأن عليه هو أن يعلمنا ، وأخذت أوجه له العديد من الأسئلة حول ما علمناه إياه في القسم ، وإن كان سمع به من قبل ، وكاد يذوب خجلا ، وحين غادر عمل على حذف ما كتب.
عندما سجل هذا الطالب ، وهو من الطلاب الممتازين عموما ، رسالة الماجستير مع أستاذ اختاره ، لم يتفق مع أستاذه الذي تبناه ، وصار في حيص بيص بخصوص الموضوع الذي سيكتب رسالته فيه . ماذا سيفعل؟
لم أكن أعرف المآل الذي آل إليه مع أستاذه ، حين اتصل بي ، وكنت أنهيت عملي في الجامعة ، يسألني عن روايات وظف كتابها فيها الموروث ، وكنت يوم درسته في الماجستير درسته رواية يحضر فيها الموروث.
لقد اختار الطالب موضوعا جديدا صلته به قليلة مع مشرف لا صلة له بالموضوع ، وبالتالي توجه إلي يسألني ، فاقترحت عليه كاتبة محددة حضر الموروث في رواياتها.
لم يخبرني الطالب أنه سأل عن الروايات ليسجل رسالة ماجستير في الموضوع ، وقد عرفت لاحقا بالأمر ، وعندما التقيت به في السوق ابتسمت وسألته :
- حقا أما زلت عند رأيك بأن العلم لا يؤخذ من الأساتذة؟
كنت من قبل أتيت على فكرة موضوعات رسائل الماجستير واختيارها ودور الطلاب في الاختيار .
الآن أتساءل من جديد :
- كيف ستحل مشكلة كتابة رسائل الدكتوراه في قسم أكثر أعضاء هيئته التدريسية غير مؤهلين لتدريس الدكتوراه والإشراف على رسائل دكتوراه ، قسم قبل للبرنامج ٢٨ طالبا والعدد في ازدياد؟
إن قصة هذا الطالب قصة ربما لا تعرفها إدارة الجامعة ، أو ربما لا تعرفها الفصائل السياسية الفلسطينية التي أحيانا تروج أن بعض الطلاب الذين ينتمون إليها كتبوا لأساتذتهم أبحاثهم ، ومرة كتبت أن من يكتب لي أبحاثي هو أنثى ، فأخذ المجتمع كله يبحث عنها ، وأنهيت عملي في الجامعة دون أن يعرفوا من هي . أحيانا يكون الغباء عاما طاما .
أتمنى أن أكون مخطئا !!

***

الجزء الأول ( من ا إلى 24)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى