علي أسعد وطفة - الوليمة الطوطمية في سيكولوجية فرويد: الأساس الأسطوري الأوديبي لنشاة الأخلاق والحضارة

"توجد عقدة أوديب في أصل الحضارة الغربية"
جاك لاكان


مقدمة :

يوظف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية بطابعها الأنتروبولوجي الاجتماعي، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة "الأوديبية" بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.​

ومما لا شك فيه أن جانبا كبيرا من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلة هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات.​

وفي هذه الصورة الفسيفسائية للتوليف الفرويدي، بين الأسطورة والرمز والواقع، تقع محاولتنا للتأمل في الكيفييات التي يوظف فيها فرويد المعاني والدلالات الرمزية التي في تفسيره لجوانب تاريخية وسيكولوجية قد تبدو عصية على الفهم والتحليل. ومهما يكن الأمر، فالرحلة في الإبداعات العبقرية الفرويدية تضع القارئ في دائرة الشعور بالرهبة والرغبة والشوق المفعم بالإثارة المعرفية والوجدانية. فالرموز المكتنزة في الأساطير تمتلك طاقة معرفية هائلة أحسن فرويد توظيفها واستثمارها في استكشاف جوانب مظلمة وغامضة من الحياة الإنسانية، وقد أجاد بحسه العبقري المعهود أن يوظف مقولات التابو والطوطم والسحر والدين والأسطورة في فهم الطبيعة البشرية واستجلاء غموضها، وأكد عبر تقصياته المذهله هذه أنه يجب على الإنسانية أن تستلهم الحكايات والمخطوطات والرموز والاساطير لاستكشاف المكنونات الدفينة للتاريخ الإنساني إرواءً للظمأ البشري المتقد إلى المعرفة.​

الوليمة الطوطمية:

يستلهم فرويد أسطورة القتل الأول (الوليمة الطوطمية)[1] في استكشاف المنشأ الأول للحضارة الإنسانية، وتفيد هذه الأسطورة أن جماعة من البدائيين في الغاب الأول، يحكمها أب ذكر قوي، كان قد استحوذ نساء القبيلة جميعهن، وفرض نظاما من التحريم الجنسي الصارم على أبنائه وأفراد العشيرة، وتحت تأثير القمع المستمر، والكبت الشديد لدوافع الأبناء وميولهم الجنسية، غضب الأبناء وثاروا على أبيهم فقتلوه والتهموه، وعلى الأثر، وقع الأبناء في صراع مميت على تركة الأب، فدبت الفوضى بينهم، ونشب الصراع المميت، فاقتتل الأخوة، وهدرت دماؤهم، في ظل غياب سلطة الأب وهيبته والنظام الذي وضعه.
يتناول فرويد هذه الأسطورة الولائمية بالدراسة والتحليل والتفكيك الرمزي لعناصرها على نحو سيكولوجي، فالأبناء كما يرى فرويد، كانوا يناصبون الأب المتسلط الكراهية والعداء نظرا للتحريم الجنسي الصارم الذي فرضه عليهم، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يدينون له بالحب والولاء والتقدير والإعجاب، إذ كان الأب لهم نموذجا وقدوة يتماهون به ويرغبون في أن يكونوا على صورته. وعندما وضعو نهاية مأساوية لوجوده، كابدهم الندم وعصرهم الحزن، وأشقاهم الألم، فأقاموا تحت تأثير هذا الندم والحزن طقوسا "طوطمية"[2] تكريما للأب، وتكفيرا عن إثمهم العظيم، وتأسيسا على هذا الموقف التكفيري أسسوا نظام التحريم، ثم شيدوا نظاما من المقدسات التي حظروا بوجبها على أنفسهم ما كان الأب قد حرّمه عليهم في سابق الأحوال، فنشأ التحريم والقانون ونظام التقديس وجرت العادات والتقاليد على تكريس هذه المبادئ التحريمية و"الطوطمية" فنشأت القيم وظهرت الأنظمة الأخلاقية في المجتمع[3].
يحاول فرويد عبر هذا التصور الأسطوري الأنتروبولوجي أن يفسر نشاة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية البدائية القديمة، حيث شكل قتل الأب وأكله مزيجا من التناقض الوجداني الهائل الذي تمثل في الثورة على الأب والندم على قتله واستباحة دمه، فتحول إحساس الأبناء القتلة بالذنب إلى عذاب مرير ترجموه إلى طقوس "طوطمية" اتخذت مع الزمن طابعا دينيا مقدسا، وتحولت تدريجيا إلى أنظمة أخلاقية تحريمية تحوّل فيها التوتم الأبوي إلى مقدس ديني، وقد أسس هذا المقدس لاحقا للعرف والقانون والأنا الأعلى الأخلاقي في المجتمع[7].

يحاول فرويد استكشاف الطاقة الرمزية المكتنزة في "الوليمة الطوطمية" فالوليمة (أكل الأب) تأخذ دلالة "الخطيئة الأصلية"، وهي الخطيئة الأزلية المتحولة إلى هاجس وجودي ما فتئ يقض مضاجع الإنسان في سعيه الدؤوب للتحرر من التبعات الأخلاقية للخطيئة الأزلية والتكفير عنها[8]. لقد قرر الأبناء في هذه التراجيديا الإنسانية التنازل التدريجي والمنظم عن إشباع ميولهم البدائية الوحشية لصالح النظام الاجتماعي، وقد شكل هذا التنازل - كما يرى فرويد- أساس النظام والعدالة والقانون والقيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية، وقد شكلت هذه الأنظمة – وفقا لهذه الرؤية -مهد الحضارة ومنطلقها الإنساني، وذلك لأن الحضارة لا تقوم إلا على مبدأ الإيثار ونكران الذات وتنظيم الاشباعات الغريزية تنظيما اجتماعيا أخلاقيا يراعي مبادئ العدالة والحق والخير والجمال.
حاول فرويد، في مسار التفكيك الرمزي للوليمة الطوطمية، استكشاف الأسباب التي تجعل أفراد القبيلة يستبيحون طوطمهم في أوقات معينة وطقوس محددة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ فرويد إلى تفسير هذه الظاهرة سيكولوجيا، إذ يعتقد بأن هذه الاستباحة الجديدة لرمز الأب هي استعادة لذكرى فعلتهم الإجرامية ضد الأب، وهي حادثة وجودية مؤلمة يجب أن تبقى في الذاكرة من أجل تعزيز الدورة الحيوية للقيم والأعراف المتصلة بالتحريم من جديد، ومن أجل تجديد الشعور بالندم والألم والاستغفار على نحو يجعلهم يرسخون إيمانهم من جديد بكل القيم التي أسست على مبدأ تحريم المحارم وتقديس الأب. فالإنسان هنا يكرر جريمته بقتل الأب من جديد والتهامه رمزيا (قتل الطوطم والتهامه) وهذا القتل الجديد يؤجج الشعور بالندم من جديد ومن ثم يحي الطاقة الحيوية للإنسان في التأصيل الأخلاقي للقيم والمحرم والتابوا من جديد.
وفي دائرة التفسير الرمزي لنشأة الأخلاق يركز فرويد على مفهوم "التابو" أي المحرم ويتمثل التابو في مشاعر الخوف من الأرواح والطبيعة. فالتابو يأخذ صورة طاقة لاواعية تتحرك في أعماق العقل الباطن وتعمل على ضبط التصرفات الغرائزية لدى الإنسان البدائي، وقد تجلى هذا التابو لدى البدائيين في نوعين من التحريم الأساسي: تحريم قتل "الطوطم" أكانا حيوانا او نباتا أو جمادا من جهة، ومن ثمّ تحريم العلاقات الجنسية بين الافراد الذين ينتمون الى طوطم واحد من جهة ثانية.
ويقدم فرويد إشارات واضحة إلى أهمية الأحلام ودورها في نشأة الدين والمحرم عند البدائيين فظهور الموتى في الاحلام كان عاملا كافيا لترسيخ فكرة خلود الارواح وقدرتها على التأثير. فعندما قتل الأب تجلى لأبنائهم في أحلامهم، وهذا التجلي أثار خوفهم وفضولهم، فبدؤوا بالصلاة للاموات من الآباء والأجداد خوفا من غضبهم وانتقامهم، ويتجلى هذا الخوف في سياق الملاحظات الأنتروبولوجية حول القبائل البدائية، إذ تبين بعض الدراسات الأنتروبولوجية أن محاربي "جزر التيمور" العائدين من انتصاراتهم على العدو، محملين برؤوس اعدائهم المقطوعة، يقومون بتقديم الاضاحي لتهدئة ارواح اعدائهم، فيطلبون منها الغفران في طقوس غريبة إذ يخاطبون فيها أرواح الضحايا قائلين "لا تغضبوا منا يا أخوتنا، تلك هي مشيئة الحرب والقتال، إنه القدر والمصادفة أن تكون رؤوسكم مقطوعة اليوم لا رؤوسنا، وكان يمكن أن نكون مكانكم، ولكن القدر شاء لنا أن ننتزع النصر عليكم، ولولا ذلك لكانت رؤؤسنا اليوم مكان رؤوسكم، وإننا نحتفي بكم اليوم ونقدم لكم هذه الاضاحي لتبقى أرواحكم في هدوء وسلام، فأقبلوا منا صولتنا وأضاحينا واجعلونا نعيش بهدوء وسلام." ثم يبدأ المحاربون بالبكاء على اعدائهم ويرددون "لماذا كنتم اعداءنا؟ ألم يكن بامكاننا البقاء اصدقاء؟ كي لا يهدر دمكم ولا تقطع رؤؤسكم؟"[10].



و«أوديب» Oedipe ملحمة أسطورية يونانية رواها سوفلكس تحت عنوان «الملك أوديب» عام، 496 قبل الميلاد، وتقول هذه الاسطورة إن العرّاف أنبأ لايوس Laius ملك طيبة Thebas أن ابنه الذي سيولد سيقتله حين يكبر، ومع ولادة ابنه المنتظر (أوديب) وتجنبا للخطر أمر الحراس بقتل الطفل، ولكن الحراس أبقوا على حياته ورموه بعد أن أوثقوا قدميه وجرحوا كعبيه، وتروي الأسطورة ـ أن أحد الرعاة وجده وحمله إلى ملك كورنيث الذي تبنّاه وأطلق عليه اسم "أوديب" كناية عن أقدامة المتورمة. وعاش الطفل في كنف أبيه المتبني دون أن يعرف شيئا عن قصته المحزنة وهو يعتقد بأنه الإبن الحقيقي للملك أي للملك كورنيث، وعندما كبُر أوديب وشبّ عن الطوق أنبأته العرافة أنه سيقتل أباه يوما ما، فأصيب بحالة من الدهشة والصدمة والخوف والاستهجان واعتقد باستحالة أن يقتل أباه الذي أحبه (ملك كورنيث) فقرر أن يصد القدر ويعاند النبؤة الإلهية، وخوفا على أبيه من نفسه، قرر أن يهجر كورنيث إلى الأبد كي يتجنب نبوءة القتل، فغادر المدينة، وشاءت الأقدار أنه في ترحاله التقى بأبيه الحقيقي فوقع شجار بينهما أضطر فيه الإبن إلى قتل أبيه دون أن يعرفه، ثم تابع طريقه إلى مدينة طيبة مدينة الأب الحقيقي ليتوج ملكا عليها مكافأة له بعد أن أنقذ المدينة من وحش أسطوري يدعى أبو الهول ثم يتزوج ملكتها يوكاسته Iocaste دون أن يعرف بأنها أمه الحقيقية أيضا. وحينما كشف أحد العرافين هذه الحقيقة فجع أوديب وعرف أن اللعنة الأبدية قد وقعت عليه فأذهله المصاب العظيم فلم يكم منه إلا أنه فقأ عينيه وهام على وجهه يندب حظه المخيف، فانطلق يجوب الدروب في البراري ندما وحزنا وتأسفا وتكفيرا، أما أمه فقد شنقت نفسها حتى الموت لما وقعت فيه من فظاعة الأمر وهول المصيبة الأخلاقية. وقد ورد ذكر مأساة أوديب في «الأوديسة» لهوميروس تلميحاً مختصراً جداً، وفيها أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه يوكاسته انتحرت شنقاً حين تكشفت لها الحقيقة؛ أما أوديب فقد ظل يحكم طيبة حتى مات. وقد وصفها أرسطو[ر] في كتابه «الشعر» Peri Poiētikēs بأنها أكمل نموذج لمأساة عرفها الإنسان.
ولا يقف فرويد عند حدود رمزية الأسطورة في بعدها التاريخي والاجتماعي بل يتجاوز هذا البعد التاريخي ليوظف هذه الرمزية في العملية التربوية برمتها مستخدما مفهوم "العقدة الأوديبية ". كمنطلق لنشأة الضمير والأخلاق لدى الطفل. والعقدة هي مجموعة من الأفكار والتصـورات اللاشعورية والمشحـونـة بشحنة وجـدانية قوية، والمتعارضة في مضمونها بحيث تشمل في آن واحد الحب والكـراهية نحـو موضوع واحد. وتتمثل هنا في الصراع الأبدي بين كراهية الأب وحبه بين الخوف منه والشعور بأنه مصدر الأمن في آن واحد.

الوضعية الأوديبية :

يفكك فرويد العقدة الأوديبية إلى رمزيتها السيكولوجية والتربوية، ويستخدم مفهوم الوضعية الأوديبية ليفسر لنا الصيرورة الأوديبية في المجال التربوي، وليتبناها منطلقا منهجيا في فهم الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من تكوينات وبنى وإشارات ورموز. والوضعية الأوديبية هي الحالة العاطفية للطفل التي تبدأ من الثالثة إلى الخامسة من العمر، حيث تظهر لدى الطفل الرغبات العاطفية الموجهة نحو الأب من الجنس المخالف له. ويقابل هذا حالة من العدوانية والغيرة تجاه الأب المماثل له في الجنس حيث تولد عند الطفل رغبة يتمنى عبرها موت أبيه من الجنس نفسه. وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، يرى فرويد أن عقدة أوديب هذه كامنة في الفطرة الإنسانية، فالطفل يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبوين وكل من الأبوين يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبناء (الطفل يحب الأم أكثر من الأب بينما تحب الطفلة الأنثى أباها أكثر من الأم وبالمقابل فإن الطفل يكره الأب المجانس له جنسيا بمعنى أن الطفلة تكره أمه وتحب أبيها كما أن الطفل يكره أباه ويحب أمه)[11].

وفي مواجهة الرغبات العدوانية والرغبات العاطفية المستهجنة عند الطفل، تعمل الأسرة على إصدار تهديدات وتوجيه عقوبات مختلفة القوة ضد الطفل الأوديبي وفقا للتقاليد الخاصة بالعائلة (التهديد بالخصاء مثلا عند فرويد ). وتوجد أمام الأسرة إمكانيات متعددة للخروج من هذا المأزق الوجودي الذي يتمثل في بنية هذا الصراع الأوديبي. فعلى سبيل المثال يكون التسلط والمنع قويا في العائلات الطهرية التقليدية في مواجهته هذه الرغبات الأوديبية. وعندما يواجه الطفل هذا التسلط والمنع يعمل على إخفاء كل ما يتعلق بالجنس(عنصر من عناصر العقلية الطهرية التي توجد في شكل طبيعي في هذه العائلات ). وقد شكلت رؤية فرويد لأهمية هذه المرحلة الأوديبية منطلقا منهجيا اعتمده علماء النفس في تحليل وتفسير مظاهر نفسية متعددة أهمها عقدة التمرد.
فالمتمرد هو شخص لا يستطيع أن يخرج من دائرة العقدة الأوديبية، ولذلك فهو لا يستطيع أن يواجه السلطة التي تأخذ طابعا أبويا كما أنه لا يستطيع أن يتوافق مع الحب الذي يأخذ طابعا أموميا أو صورة علاقات جنسية. فهو يعيش حالة حصار وقلق إزاء هاتين الحقيقتين وبالتالي فإن سلوكه يتميز بدرجة عالية من الآواليات الدفاعية. فالشخصية التمردية ترفض أية سلطة(الدولة - الرؤساء - المعلمون) والمتمرد يأخذ مكانه دائما إلى جانب جميع هؤلاء الذين يناضلون ضد الاستبداد، وهو يحاول أن يحقق ذاته بالانتماء إلى جماعات إنسانية هامشية.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية فإن نرجسيته تشكل عقبة كبرى في سياق علاقاته العميقة والمتعددة فهو يعيش في المجتمع، وينظر إليه كأم سيئة تطعم طفلها بقسوة وتكاد تخنق طفلها من كثرة الطعام. ولذلك فهو يدافع عن نفسه ضد هذا الطعام. ولذلك فإن الديموقراطية هي أم سيئة تصدر عنها أخلاق الاصطفاء والغدر التي لا تلبي لديه حاجات الأنا المركزية. وباختصار فإن طريقة خروج الطفل من العقدة الأوديبية يحدد له مواقفه اللاحقة من السلطة والحب والعلاقات الجنسية كما تحدد له إمكانياته في تأكيد ذاته وهويته.


وهنا تكمن التوظيفات الرمزية التي يستخدمها فرويد لتفسير تشكل الأخلاق عند الفرد في صورة الأنا الأعلى والضمير الأخلاقي، فالخوف من الأب والإعجاب به أيضا يقع في مرمى التشكيل الديني للفرد في مرحلة الطفولة، فهناك تشابه كبير بين صورة الله الذي يؤمن به الفرد وبين صورة الطفل المكتنزة عن أبيه في مرحلة الطفولة. فالأب بسلطته وجبروته يخيف الطفل ويرحمه ويحميه. ومن هذا المنطلق يرى فرويد وجود علاقة كبيرة بين التصورات الدينية وبين الفعاليات التربوية للطفولة الأولى عند الفرد ولا سيما في علاقة الأب بأبنائه التي تتسم بفعاليات الخوف والكراهية من جهة، والشعور بالولاء والمحبة من جهة أخرى. وهنا يتبنى فرويد الطاقة الرمزية لما يسميه "عقدة أوديب" التي تأخذ طابع عقدة نفسية يقع فيها الإبن بكراهية الأب والإبنة بكراهية الأم مع نزع من الحب يشد الطفل دائما إلى الجنس المقابل له بين الأبوين. والإبنة بحب أبيها حبا مفرطا مصحوبا بكراهية الإبن للأب وكراهية الإبنة للأم [12].
ويكمن جوهر نظرية "فرويد" في تصوره قوامه أن الطفل يرهب أباه وفي الوقت يحبه ويعجب به ويخشى فقدان حبه له، ولذا فإنه يتخلى ذاتيا عن تصوراته الغرائزية ويكبح رغباته ومخاوفه الأولية، ولكن هذه المخاوف والتصورات تبقى دفينة العقل الباطن الذي يبقى مسكونا بهواجس الكراهية والخوف البدائي من الأب، وترتسم هذه المخاوف والتصورات الآثمة في صورة "عقدة أوديب" التي تأخذ طابع عقدة نفسية ماثلة في أعماق العقل الباطن. ومن أجل الاستمرار في قهر الدوافع الوحشية الأولية وقهر الميول الوحشبة يلجأ الفرد إلى الدين والأخلاق كقوة جبارة تطرح نفسها بديلا لقوة الأب وجبروته. [13]. وعلى هذا النحو يشعر الفرد بالراحة والاستقرار لشعوره بإنتهاء الصراع بين التمرد على الأب والاستسلام له الذي يتجلة في هيئة تقلص الصراع بين الرغبة الغرائزية "عقدة اوديب" والمستوى الأخلاقي المطلوب اجتماعياً.

الأنا الأعلى :

يمثل الأنا الأعلى الضمير الأخلاقي الذي يتشمل في دوامات الصراع بين الميول الغرائزية والأوامر والنواهي والعادت والتقاليد في المجتمع. ويصف فرويد الضمير بأنه "الأنا الأعلى" وهو المنطقة الأكثر قدسية في الكيان السيكولوجي للفرد، فالأنا الأعلى هو المحكمة العليا في الكيان الإنساني، وهي محكمة معنيّة بإصدار الأحكام الأخلاقية، وتوجيه الفعل الإنساني توجيها أخلاقيا ينشد الخير والحق والجمال، ويرفض الباطل والشر والفساد. وإذا كان الأنا الأعلى هو الضمير الأخلاقي فإن فرويد يرى بأن " الهو" وهي منطقة الغرائز والميول في الكيان النفسي يمثل منطقة الشهوة حيث يعبر عن مطالب الجسد تلبية للرغبة والميول الطبيعية الغرائزية في الإنسان. وعلى هذا النحو يتجلى الأنا الأعلى في صوت الحق والضمير والقيمة الأخلاقية في الوقت الذي يعبر فيه " الهو" عن صوت الشهوة والرغبة والميل والعاطفة والهوى. والحياة الأخلاقية تكون بالصراع الأبدي ما بين الأنا الأعلى وما بين الهو منطقة الرغائب والميول والشهوات، إنه صراع الجسد والعقل بل هو صراع النور والظلام في كيان الفرد النفسي.
وفي هذا المقام، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، بأن الأسطورتين ليستا مجرد محض خيال جامح، إذ بينت دراسات ميثولوجية كثيرة أن الأساطير ذات منشأ واقعي في جوهرها، إذ تستقي مصدرها الحيوي من الواقع، وتقوم في الوقت نفسه بالإضاءة على هذا الواقع. وما الأسطورة في نهاية الأمر سوى حكايات قديمة نسجها العقل بالخيال فأحياها بطاقة رمزية تمتلك القدرة على إضاءة الواقع وتقديم تفسيرات وامضة للحياة بما تنطوي عليه من أسرار وخفايا وخبايا. فمقتل الأب الأول ليس حقيقة أنتروبولوجية فحسب بل هو حقيقية نشهدها في عالم الحيوانات وتجمعاتها الأساسية، ولاسيما عند بعض جماعات القرود والأسود وأفراس النهر، حيث تكون العلاقات الجنسية مقتصرة على الذكر الأقوى في الجماعة، ومحرمة على غيره من الذكور. وهذا الأمر ليس غريبا أيضا عن الحياة الاجتماعية للإنسان تاريخيا، ففي العهود الإقطاعية الحديثة نسبيا من تطور المجتمع الإنساني، كان الإقطاعيون في كثير من المقاطعات في أوروبا وغيرها يمتلكون الحق بمضاجعة أي امرأة في إقطاعياتهم، وكان لهم الحق- بل الواجب أحيانا - في فض بكارة أي عروس قبل زفافها النهائي وذلك تأكيدا للحق الأبوي في التملك والسلطة.
ويمكن القول في نهاية هذا المقال: إن فرويد قد أحسن توظيف الرموز المكتنزة في الأساطير واستثمرها في استكشاف جوانب خفية من الحياة الإنسانية على نحو يتصف بالرشاقة والجمال، ولا ريب في القول بأن امتلك قدرة مذهلة على الجمع بين الرموز والأساطير والواقع في تفسيره لنشأة الدين والقيم الأخلاقية والحضارة، وقد تميز التفسير السيكولوجي الذي قدمه لمسألة الأخلاق بطابعه الجمالي والفلسفي الذي كان وما زال مثار جدل وحوار على أشده منذ عهد فرويد حتى اللحظة الراهنة.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------​




هوامش الدراسة ومراجعها :

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى