جوتيار تمر - كف عن العناد

كف عن العناد
قبل زمن ليس بقصير وأنا أحاول جهدي لجمع بقايا الذكريات التي هزت كياني في كل لحظاتها، وعندما وصلت إلى أماكن الجرح النازف الذي لم يلتئم بعد ..خط قلمي همسات قلبي واعترافات لم تسجل قبل الآن اعترافات ظلت طوال هذه السنين قيد المجهول وتحت سوط القدر الجبار مكبلة بالسلاسل والقيود..لم تلامس أطرافها لحظةً ضوء الشمس ،وهي قد بدأت أسطراً قليلة لتخرج بعد ذلك صفحات ملونة بشتى ألوان الحب والهجر..الشوق والعذاب..!
بدأت بكتابة قصتنا..تلك القصة التي هي في نظري ستخلد أبد الدهر ،و إن طوى القدر أعمارنا وأجسادنا وضيق علينا أنفاسنا فهي ستظل جسرا توصل ما عانينا إلى الأجيال من بعدنا..! .
أمسكت قلمي وهيأت أوراقي وابتدأت برسم حروف اسمك في وسط الصفحة لتستقيم أسطرها، انتهيت من السطر الأول لأصل إلى الثاني ولم أكد أنتهي منه حتى توقف قلمي وتحركت الأسطر من بين يدي..علمت حينئذ بأن الكلمات عاجزة غير قادرة على وصف مدى حبي لك..وهي نفسها عاجزة غير قادرة على وصف لهفاتك وحبك لي..وأدركت بعدها أني ما بدأت بكلماتي هذه الا لتقرأها أنت وحدك.
شغفت قلبي وعقلي فبل أن تراك عيناي فأحببتك قبل أن أعلم واكتشف بأن قلبي صار مسكنك،تهت في بحار عينيك قبل أن أعلم بأني أحبك..سارت القافلة بحبي ولم تتوقف لحظة منذ أن بدأت ولن تستطيع الوقوف حتى في محطات الراحة..حاصرتني بنظرات لا تصد ،وأسرتني بكلمات لم .. أقرأ مثلها من قبل..حنانك أحاطني وطواني كأني لم أذق قبل الآن طعما للحنان..خضعت أعماقي لأفكارك فانجذبت نحوها ولم أكن أعرف إن كنت أستحق منك كل هذا التقرب..؟
سنين طويلة وأنا أنتظر أن يرق ذلك الحجر الذي بين أضلعك لتأتي إلي هناك حيث البعد يفتك بكبدي ويحرق قلبي..جئتني وقلبك المفعم بالجراح ساهر علي يحرسني حتى من ضوء القمر كلما أراد أن يلامس وجهي..وعيناك اللتان لم تعرف قانونا فيه الدمع قبل الآن أصبحت دامعة،بل كانت تقطر دمعا وألما..وكنت تحاول جهدك لتخفيها عني .
كل لهفاتي كانت عاجزة عن وصف تلك اللحظات..بل هي بكل بلاغتها ورقتها لم تقدر على وصف ثانية من ثوانيها..لم كانت تحوي على مشاعر وأشواق وعتاب..مع أنني في لحظاتي معك لم أكن أحتاجها بقدر ما كان يكفيني وجودك معي بقربي،ولم أكن أطمع بأكثر من ذلك ان نبقى هكذا معا أبد الدهر.
لم أزل أشعر بهمسات وجودك فكل مكان جلست فيه ولامست يداك أطرافه يجعلني أشعر في أعماقي المشتاقة إلى دفئ حنانك وشوقك بوجودك هناك حيث الغربة تلسعني وتنتظرك.
كل لقاءاتنا السابقة صورها، لحظاتها محفورة في ذاكرتي وها أنا أضيف إليها صور ولحظات لقائنا هذا لتكون لي بحرا أستقي منه كلما أردت تأمل بعض لهفاتي معك..يكاد رأسي المثقل بالهموم والأوجاع يتفجر ألما..لأنني لم أعد أراك وأنا لم أعتد على غيابك..جدران معابدي ..معابدي الوثنية القديمة لم تعتد على هجران آلهتها..وسمعي لم يعد قادرا على سماع المزيد من الترنيمات الحزينة والتي تكاد تصبح رمزا للأماني الضائعة...ليتك تعلم ما يحصل بداخلي..؟ ها أنا ذا أنقطع ألما وأحترق عذابا وأكاد أنهار من شدة العذاب.
أنا لا أسألك الشفقة،ولا أسألك العودة إلى جدران معابدي، إنما فقط أن تفهم وتدرك وتشعر بما أنا فيه وما أعانيه،وأن تكف عن عنادك المميت فأنا لم أعد قادرة على السير وحدي دون أن ترافقني عيناك وتحرساني من ظل الأشجار.... إلى متى تظل هكذا تعانق الصمت..؟ فأنا قد سئمت وتعبت من صمتك،وأصبحت أخشى أن تقتل الوحدة أجمل ما تحمله لي في أعماقك..وأصبحت أخاف عليك من المعاناة والهموم وأخاف أن تفقد الأمل فتقتلك الحياة وتنهي برحيلك رحلتي وكل آمالي في الحياة.
أتيت إليك مرات عديدة واحدة تلو الأخرى،وانتظرتك هناك حيث المكان الذي شهد لقاءاتنا الأولى في لحظات موحشة قاتلة،وكم مرة انتابني اليأس من ظهورك فكنت أعود أدراجي حاملة كل هموم الحياة، وبالرغم من اليأس لم أكن أفقد يوما الأمل في ظهورك هناك حيث التقت نظراتنا أول مرة ولم أتوقف لحظة عن حبك والبحث عنك..مررت بكل مكان كنا قد ذهبنا إليه،وجلست هناك تحت شجرة الزيتون التي كنت قد كتبت لك تحتها بأن ذلك اليوم كان أجمل أيام حياتي..وارتدت كل الأماكن التي دمعت فيها عيناك وعيني والتي القلب فيها...... ! .
وكنت أعود كل مرة دون أن أراك ،وكنت أستفيق بعدها من حلمي وأدرك بأنك هناك في بلاد الغربة تحلم مثلي وتعاني مما أعاني،وكنت أجمع ذاكرتي مرة أخرى وأشعر في قرارة نفسي بأنك قد عدت ترنم في زوايا معابدي وأنك كلما مالت الشمس قليلا تصعد إلى السماء..وتنتظرني..جسدك المفعم..المثخن بالجراح قد انهمك وخارت قواه وأصبحت كما قيل لي بؤرة تقصدها الآلام والآفات وها أنباء مرضك تترد على ألسنة ناسكيك وما أكثرهم..وما يثيرني ويخيفني ويزرع القلق في..هو أنك في كل مرة يعاودك الألم تنهار قواك وترتمي بكل بساطة في أحضان اليأس وتترك قلبي المشتت المفتوك بجراحه يتألم وحيدا وتنخر أنت أمام صاعقة المرض.. أنت الذي دائما ترفض نعم السماء..وترفض الخضوع ..وتتمرد على كل ما هو ليس أنت.. أراك تنهار هكذا أمام المرض..وتتركني أنا وحيدة حتى بلا سؤال..ولا يبقى لي بعدها سوى عالم وحيد ألتجئ إليه وهو بظني العالم الوحيد الذي سيصلني بعالمك الرهيب....أحتضن الأحلام وأبكي الليالي قبل أن تغفو عيني وفي كل مرة أستيقظ فيها أجد كلماتك يرددها لساني فأنا منذ اللحظة الأولى من حبي لك كنت بارعة في حفظ كلماتك..ورسائلك..وعند كل صباح كنت أحمل زادي في حقيبتي وأعود لأبحث عنك.. عن رجل تائه فقد كل شيء في حياته،ولم يبق له سوى آمال ضئيلة يتشبث بها.
وحيدي هل بدأت تدرك ما أنا فيه..؟ هل فهمت ماذا يعني أن تفقد امرأة عاشقة عيناها..؟ وهل أدركت ماذا يعني أن تفقد أم رضيعها الوحيد..؟ وصوته لم يزل يخرق سمعها..بكاؤه..نواحه..قلبه الصغير لم يزل ينبض ويتفطر ألما لفراقه حضن أمه...وهل سمعت عن عيني اللبوة المجروحة وهي تحضن وليدها كيف تكون...؟
وحيدي..ألم تزل تظن بأنك قادر على الحياة بعيدا عني..؟ عن حياتي وحضني عن حبي وشوقي ودموعي ولهفاتي التي أصبحت تدرك بأني وحدي القادرة على منحك إياها.
طفلي الوحيد..(أمومتي تناديك..صدقني ستنسى معي آلامك،فإحساسي أستلهمه من وجودي والهواء الذي أتنفسه والشمس والليل وأحلامي كلها تخبرني بذلك..)... فكف عن العناد وعد..ودعني أمدك بحياتي من الألف إلى الياء..فإني أعلم بأنك بها ستعيش...
4-6-1997

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى