ارتفع المدّ حتّى أغرق القاعة!، ووصل إلى شحمتي أذنيها!، حين صحت على صوت القاضي:
- سيدتي... ما ردّك على حجج زوجك؟!
ولم تكن عاجزة عن الإجابة. لكنّ بلوغ القسوة هذه الدرجة من الاستهانة بمشاعرها، شلّ قدرتها على الكلام، وطمر ما تبقّى من شجاعتها.
تطلّعت إلى زوجها، إلاّ أنه مازال يرفض أن يلتفت إليها. يراقب القاضي حينا، ويخفض عينيه إلى الأرض حينا آخر. بل انه ليسارع بردّ وجهه يميناً متى مال إلى جهة اليسار، فارّاً من أيّام وليال كانت أجمل أيّام عمرها.
وبكت ثمّ غصّت بدموعها، وسط صمت القاضي وتجاهل الزوج. ورأت نفسها وهي في لباس العملية لا يكاد ينقضي وقت تسترجع فيه شيئا من عافيتها، حتى تباشر أخرى وقلبها مفعم بالأمل.
اثنتا عشرة عملية هدّت قواها، وحوّلتها إلى عجوز. رغم ذلك لم تشكو يوماً من الألم ومرارة الانتظار، ولم تتذمّر من بخل زوجها واعتماده على ورثها من أبيها. وها هو يرفض الإبقاء عليها، ويصرّ على الانفصال!
ومرّة أخرى صحت على صوت القاضي:
- سيّدتي... إنّ زوجك يصرّ على الطلاق.
وشعرت أن صمتها طال، ويجب أن تقول شيئاً، فقالت مخاطبة زوجها، بصوت جهدت أن يكون واضحاً:
- لماذا تصرّ على التخلّص مني؟!
- أريد ذريّة! أنت عاجزة عن منحي أبناء يحملون اسمي.
- وأيّ ضير في إبقائك علي؟! تزوّج وسأظلّ الزوجة المخلصة المحبة.
- لا أستطيع الإنفاق على زوجتين.
ولوت فمها استياء. وتساءلت في نفسها، هل أنفق عليها حقّا حتّى يضيق بها؟!
- لن أطالبك بأيّ نفقة.
صاح بقسوة ضاعفت ألمها:
- أووه... لقد صبرت خمسة عشر عاماً، أليس من حقّي أن أعيش حياة أخرى مع امرأة تمنحني الولد الذي أنتظر؟!
- وتتخلّى عني هكذا ببساطة؟!
وصاح بضراوة:
- لقد هرمت يا امرأة، لم تعودي تصلحين لشيء.
- لا أزال في الأربعين من عمري وتصفني بالهرم؟!
- إنّ من يراك يحسبك في السبعين.
واختنقت بعبرتها:
- وفي أيّ شيء ذهبت صحتي وعافيتي؟! أليس في سبيل إسعادك؟!
لكنّ زوجها وبدلا من أن يرأف بها، صاح وقد امتلأت عيناه دماً، وتضخّم ناباه حتّى خرجا من شفته العليا:
- اللعنة عليك من امرأة. لقد ضقت ذرعاً بك يا قليلة الحياء. أقسم إن لم تخرجي من البيت، لأجرّنك كما تجرّ البهيمة!
وكأنّما أمسك الرجل بقلبها ثمّ اختار المكان الذي يشغره فيه، وراح يعصره حتى أفرغه من الدمّ، فتركه جزراً لا أثر فيه للحياة، ولا لشيء من مشاعر الحب تجاهه.
لقد أهانها، إلى درجة أيقظت فيها مشاعر كان الحب يمسك بخناقها، ويمنعها من الظهور! فشعرت لأوّل مرة كم انها حمقاء. حين تعلّقت بزوج لم يحترمها يوماً، ولم يعتبرها سوى آلة لتفريخ الأبناء. حتّى إذا أيقن أنّها تعطّلت تماماً ولم يعد بالإمكان القيام بإصلاحها، كان إصراره شديداً على التخلّص منها، وكأنّها جارية ملك يمينه، وليس امرأة حرّة لها كيانها، وزوجة سلخت خمسة عشر عاماً في طلب رضاه!
عندها تلبّستها روح أخرى. في لحظة انقلبت مشاعرها إلى النقيض. كأنّما رسمت خطاً على الأرض، ثمّ وضعت إصبعها على الجانب الأيسر، فتحوّل حبها إلى بغض حقيقي.
وخرج صوتها من جوفها مختلفاً، أفزع الزوج:
- أنا من يصرّ على الطلاق الآن.
وأضافت وعينيها تسلخانه بنظراتها:
- سأرفع قضية عليك أطالبك فيها بكلّ فلس أخذته مني! حتّى المبلغ الذي اقترضته لأجل مشروعك الفاشل سأطالبك به.
بوغت الرجل، فقال بصوت ضعيف:
- أيّ مبلغ تعنين؟!
- لقد أخذت مني نصف ورثي من أبي، ولدي من الأوراق ما يثبت ذلك. حتّى المبالغ التي دفعتها من جيبي لأجل عمليات التخصيب سأطالبك بها! وسأثبت للقاضي أنّك لم تكن تنفق علي، وسأطالبك بالنفقة عن كل شهر من الخمسة عشر عاماً التي قضيتها معك!
قال بصوت ملؤه الكراهية:
- لن تحصلي على شيء.
ردّت في صوت الواثق:
- لقد تحمّلت بخلك وأنانيتك طوال خمسة عشر عاماً، ولا يضيرني أن أصبر مثلها حتّى أحصل على مالي.
ثمّ أشاحت بوجهها عنه، فقال القاضي:
- أرى أن نؤجّل القضية إلى وقت آخر.
لكنّها قالت بإصرار:
- بل عليه أن يطلّقني الآن.
ولدهشتها سمعت زوجها يقول في استسلام ذليل:
- سأروّي في الأمر.
ومضى مسرعاً ناحية الباب، فارّاً منها! دون أن ينطق حرفاً آخر، رغم أن ابتسامة الشماتة به كانت مرسومة بوضوح على فمها!
وبعكسه تماماً، مشت بهدوء وسكينة، وفتحت الباب. فداعب وجهها هواء منعش، زاد من إحساسها بحرّيتها، وكأنّ المدّ قد انحسر تماماً، وصفت السماء من أيّة غيوم أو مشاعر سلبية.
حتّى إذا فتحت الباب الخارجي للوزارة، رأته ينزل درج البناء، يحرّك رأسه يميناً وشمالاً شأن المشغول بأمر مهم. وفجأة تعثّر الرجل وزلت قدمه، وتدحرج على الدرجات، وسقط إلى الأرض.
ورغم أنّ منظره وهو يمسك بقدمه يتوجّع، كان مشهداً مثيراً للضحك والشفقة. مضت تنزل الدرج بسرعة، وبوجه متجهّم عابس، دون أن تعنى بالالتفات إليه.
- سيدتي... ما ردّك على حجج زوجك؟!
ولم تكن عاجزة عن الإجابة. لكنّ بلوغ القسوة هذه الدرجة من الاستهانة بمشاعرها، شلّ قدرتها على الكلام، وطمر ما تبقّى من شجاعتها.
تطلّعت إلى زوجها، إلاّ أنه مازال يرفض أن يلتفت إليها. يراقب القاضي حينا، ويخفض عينيه إلى الأرض حينا آخر. بل انه ليسارع بردّ وجهه يميناً متى مال إلى جهة اليسار، فارّاً من أيّام وليال كانت أجمل أيّام عمرها.
وبكت ثمّ غصّت بدموعها، وسط صمت القاضي وتجاهل الزوج. ورأت نفسها وهي في لباس العملية لا يكاد ينقضي وقت تسترجع فيه شيئا من عافيتها، حتى تباشر أخرى وقلبها مفعم بالأمل.
اثنتا عشرة عملية هدّت قواها، وحوّلتها إلى عجوز. رغم ذلك لم تشكو يوماً من الألم ومرارة الانتظار، ولم تتذمّر من بخل زوجها واعتماده على ورثها من أبيها. وها هو يرفض الإبقاء عليها، ويصرّ على الانفصال!
ومرّة أخرى صحت على صوت القاضي:
- سيّدتي... إنّ زوجك يصرّ على الطلاق.
وشعرت أن صمتها طال، ويجب أن تقول شيئاً، فقالت مخاطبة زوجها، بصوت جهدت أن يكون واضحاً:
- لماذا تصرّ على التخلّص مني؟!
- أريد ذريّة! أنت عاجزة عن منحي أبناء يحملون اسمي.
- وأيّ ضير في إبقائك علي؟! تزوّج وسأظلّ الزوجة المخلصة المحبة.
- لا أستطيع الإنفاق على زوجتين.
ولوت فمها استياء. وتساءلت في نفسها، هل أنفق عليها حقّا حتّى يضيق بها؟!
- لن أطالبك بأيّ نفقة.
صاح بقسوة ضاعفت ألمها:
- أووه... لقد صبرت خمسة عشر عاماً، أليس من حقّي أن أعيش حياة أخرى مع امرأة تمنحني الولد الذي أنتظر؟!
- وتتخلّى عني هكذا ببساطة؟!
وصاح بضراوة:
- لقد هرمت يا امرأة، لم تعودي تصلحين لشيء.
- لا أزال في الأربعين من عمري وتصفني بالهرم؟!
- إنّ من يراك يحسبك في السبعين.
واختنقت بعبرتها:
- وفي أيّ شيء ذهبت صحتي وعافيتي؟! أليس في سبيل إسعادك؟!
لكنّ زوجها وبدلا من أن يرأف بها، صاح وقد امتلأت عيناه دماً، وتضخّم ناباه حتّى خرجا من شفته العليا:
- اللعنة عليك من امرأة. لقد ضقت ذرعاً بك يا قليلة الحياء. أقسم إن لم تخرجي من البيت، لأجرّنك كما تجرّ البهيمة!
وكأنّما أمسك الرجل بقلبها ثمّ اختار المكان الذي يشغره فيه، وراح يعصره حتى أفرغه من الدمّ، فتركه جزراً لا أثر فيه للحياة، ولا لشيء من مشاعر الحب تجاهه.
لقد أهانها، إلى درجة أيقظت فيها مشاعر كان الحب يمسك بخناقها، ويمنعها من الظهور! فشعرت لأوّل مرة كم انها حمقاء. حين تعلّقت بزوج لم يحترمها يوماً، ولم يعتبرها سوى آلة لتفريخ الأبناء. حتّى إذا أيقن أنّها تعطّلت تماماً ولم يعد بالإمكان القيام بإصلاحها، كان إصراره شديداً على التخلّص منها، وكأنّها جارية ملك يمينه، وليس امرأة حرّة لها كيانها، وزوجة سلخت خمسة عشر عاماً في طلب رضاه!
عندها تلبّستها روح أخرى. في لحظة انقلبت مشاعرها إلى النقيض. كأنّما رسمت خطاً على الأرض، ثمّ وضعت إصبعها على الجانب الأيسر، فتحوّل حبها إلى بغض حقيقي.
وخرج صوتها من جوفها مختلفاً، أفزع الزوج:
- أنا من يصرّ على الطلاق الآن.
وأضافت وعينيها تسلخانه بنظراتها:
- سأرفع قضية عليك أطالبك فيها بكلّ فلس أخذته مني! حتّى المبلغ الذي اقترضته لأجل مشروعك الفاشل سأطالبك به.
بوغت الرجل، فقال بصوت ضعيف:
- أيّ مبلغ تعنين؟!
- لقد أخذت مني نصف ورثي من أبي، ولدي من الأوراق ما يثبت ذلك. حتّى المبالغ التي دفعتها من جيبي لأجل عمليات التخصيب سأطالبك بها! وسأثبت للقاضي أنّك لم تكن تنفق علي، وسأطالبك بالنفقة عن كل شهر من الخمسة عشر عاماً التي قضيتها معك!
قال بصوت ملؤه الكراهية:
- لن تحصلي على شيء.
ردّت في صوت الواثق:
- لقد تحمّلت بخلك وأنانيتك طوال خمسة عشر عاماً، ولا يضيرني أن أصبر مثلها حتّى أحصل على مالي.
ثمّ أشاحت بوجهها عنه، فقال القاضي:
- أرى أن نؤجّل القضية إلى وقت آخر.
لكنّها قالت بإصرار:
- بل عليه أن يطلّقني الآن.
ولدهشتها سمعت زوجها يقول في استسلام ذليل:
- سأروّي في الأمر.
ومضى مسرعاً ناحية الباب، فارّاً منها! دون أن ينطق حرفاً آخر، رغم أن ابتسامة الشماتة به كانت مرسومة بوضوح على فمها!
وبعكسه تماماً، مشت بهدوء وسكينة، وفتحت الباب. فداعب وجهها هواء منعش، زاد من إحساسها بحرّيتها، وكأنّ المدّ قد انحسر تماماً، وصفت السماء من أيّة غيوم أو مشاعر سلبية.
حتّى إذا فتحت الباب الخارجي للوزارة، رأته ينزل درج البناء، يحرّك رأسه يميناً وشمالاً شأن المشغول بأمر مهم. وفجأة تعثّر الرجل وزلت قدمه، وتدحرج على الدرجات، وسقط إلى الأرض.
ورغم أنّ منظره وهو يمسك بقدمه يتوجّع، كان مشهداً مثيراً للضحك والشفقة. مضت تنزل الدرج بسرعة، وبوجه متجهّم عابس، دون أن تعنى بالالتفات إليه.