"ك"، عادة، لا ينسى موعده، يضرب في أرض مدينته،كل مساء، مشياً على الأقدام، يعشق رياضة المشي؛ آخرون (المشكلة دائما هم الآخرون) لا تهمهم هذه الرياضة أو غيرها لا صباحاً ولا مساءً ، لهم رياضتهم المفضلة التي لا يعرقون بسببها أبداً، لا يبذلون أي حراك، محنطون في مكاتبهم، يمارسون صمت المدن المهجورة في لامبالاة، وحدها جيوبهم تظل مشرعة كأفواه السعالي، أياديهم تعرق كل وقت حين تستقري الصفوف في مكاتبهم صفاً صفاً، وتتفحص الأكف كفاً كفاً.. هذه رياضتهم..
يمر(ك) في جولاته - كما دائماً- بوجوه منكسرة لأرامل محبطات، ومتسولين ملأوا الشوارع دون أن يشغلوا الناس، وأطفال مشردين، يتوسدون الثرى، ويلتحفون الفضاء...
هؤلاء أيضاً لا تشغلهم رياضة المشي، ولا اليوجا، ولا الفيتامينات.. كل همهم لقمة عيش تسع الأفواه الجائعة، يسدون بها الرمق.
أطفال هزال ، عراة، يملأون الشوارع التي يمر بها، لفظتهم كل الأمكنة المقفلة، وحده الفضاء المفتوح يمد ذراعيه لهم ليس بالهبات، لكن بالغبن، وبكل ألوان الطيف؛ آباؤهم، فوق سرير ذات نزوة تبغي كشف عورة، انصاعوا لغريزة حيوانية، وقعوا بها وجود هؤلاء الأطفال ثم رحلوا بهدوء، وما همتهم بصمتهم، ولا ما ستفرعه تربة لذة غير مشروعة من رؤوس مآس، هؤلاء الآباء ربما هم أيضاً ضحايا توقيع تم فوق السرير، وربما على الأرض في رحلة ليست عابرة بل دائمة..هذا زمن التوقيعات، على الكل أن يترك توقيعه، ومن لا يفك الحرف يبصم.
رياضة المشي أنست (ك) الهدف منها، صارت تعني له ربط علاقة آسرة، ولو من بعيد، مع هؤلاء، إنهم يؤثثون الأمكنة والشوارع كأنهم ممثلون ينتظرون عين كاميرا مخرج مغمور، ينظر إليهم واحداً، واحداً، لا أحد منهم خارج دائرة اهتمامه، يقرأ في عيونهم كل اللغات، لا يفهم منها شيئاً سوى ما توحي به سحناتهم، وأسمالهم الرثة؛ حركاتهم في مد اليد، نظراتهم المنكسرة، ودموعهم التي تهمي وتهمي هي رياضتهم المفضلة بل المفروضة، إنهم علامات فارقة، في شوارع مدينته، وما لم يستوعبه قط هو من أين يأتي هذا الزحف من البشر، اليابسة تنوء بهم، يمشون على غير هدى، نزولاً وصعوداً، الدور ملأى، والشوارع مكتظة، والسجون لم تعد تسع أحداً.. الناس باتت تحسد بعضها على مجرد الوجود، إن الأمر محزن حقاً أن يغار الأخ من أخيه لمجرد أنه موجود..
ما تكون هذه الدنيا غير وعاء يحوي كل هذا الزخم من البشر، فوق، وتحت، ولم تكفهم أجسامهم فأضافوا اختراعاً آخر سموه سيارة تزيد في الطين بلة، وهي في الأصل توقيع خاص بزمن اللذات على اختلاف أنواعها.
تذكر وهو يمشي في الطرقات ما قاله شاعره المفضل محمود درويش:
"أمشي وعلى كتفي نعشي".
ثم فكر:
"لستَ وحدك يا محمود، ويكفي أن تكون عربياً، (تفك الحرف، لا تفكه، لا يهم) حتى تصالح الموت، في الدنيا قبل الآخرة، ثم إن من يعيش في بلدٍ ،الأرض تتكلم "عربي"، حسبه أن يراهن على البقاء حياً وسط أحراش تحرسها ضوارٍ.
من يعيش في بلد عربي، فيه هذا الكم الهائل والفائض من الغبن والظلم ماذا سيشغله غير التفكير إن لم يكن في نعشه ففي نعش الآخرين.."
وضمن كل هذا الكم من المتسولين ممن يمر بهم في جولته المسائية، تبدت له سيدة نحيلة استرعت انتباهه أكثر، كانت تحمل طفلاً، عينه فُراره، توقف عندها، منحها ورقة مالية ليس كرماً منه، لكن بغيته أن يسمع منها، قال لها:
- عمتِ مساءً سيدتي..
المرأة التقطت الورقة قائلة:
- بارك الله فيك، أنت لست مثلهم يا ولدي، غريب ولا شك..
- لستُ مثل مَنْ سيدتي؟!
- قلما يحيينا أحد، هنا لا أحد يسلم علينا، يا ولدي، والتحية يلقونها كالشتيمة إن فعلوا، يمرون بنا، ينظرون إلينا، ولا يروننا..
يتأسف الشاب مما يسمعه، يتأمل السيدة، والطفل الذي معها، كان هذا يرمقه هو الآخر بعينين صغيرتين حادتين، يمسك بتلابيب أمه، وهي تمسد على رأس لا شعر فيه، الصغير صامت، يبدو منكسر الخاطر، مهيض الجناح.. قال لها:
- إني أراك يومياً، هنا، في الشارع، أوليس لك بيت يأويك مع طفلك ؟!
- الشارع بيتي، ومع ذلك هم يحسدوننا عليه، يعتبروننا مجرد زبالة تشوه شوارعهم الأنيقة..
وحين لاحظت اهتمامه بالطفل، قالت له:
- إنك، ولا شك، من أسرة كريمة، وأطهر أرومة.. فهلا أخذت معك الطفل، تسهر عليه أسرتك بدل هذا الشارع..
يرد الشاب، وقد فاجأته بطلبها:
- وهل تصبرين على فراقه سيدتي؟!
قالت بانكسار:
- إنه ليس ابني.
قالت ذلك، ودَعَت الطفل يعدو غير بعيد عنها، تبعته بخطى واهنة، لم تنظر وراءها، ولم تنتظر جواباً منه حتى..
استغرب تصرفها، ولولا الناس من حوله، وأصوات منبه السيارات لجزم بأنه يحلم..
ابتعدت المرأة مع الطفل، ظل (ك) يتأملهما، لوح بيديه لظهريهما، أحس بحرقة، وبحزن دفين، فكر في أمه، وفي أخيه الصغير، قفل راجعاً مشياً على قدمين حرنتا للحظات، كان في قلبه غصة، وعلى الكتف لا نعشه، لكن هَم الصغير، بل هَم كل الصغار.
السحب في السماء قماش أسود، وفي الأرض سواد من نوع آخر، ينظر فوق وتحت، لا يسعه أي مكان، يحس نفسه ثقيلا، ثقيلا، يسرع الخطى، يحوقل مرة، ويسترجع مرات..
وفي طريق عودته وهو يتأمل الوجوه، ذات الوجوه التي يمر بها دائماً، تذكر مقولة نيتشه:
" إن أعظم الأفكار، تلك التي تأتينا ونحن نمشي"..
ثم علق بصوت مسموع:
" مخطئ يا سيدي، بل إن أعظمها تلك التي تأتينا حين نشبع".
يمر(ك) في جولاته - كما دائماً- بوجوه منكسرة لأرامل محبطات، ومتسولين ملأوا الشوارع دون أن يشغلوا الناس، وأطفال مشردين، يتوسدون الثرى، ويلتحفون الفضاء...
هؤلاء أيضاً لا تشغلهم رياضة المشي، ولا اليوجا، ولا الفيتامينات.. كل همهم لقمة عيش تسع الأفواه الجائعة، يسدون بها الرمق.
أطفال هزال ، عراة، يملأون الشوارع التي يمر بها، لفظتهم كل الأمكنة المقفلة، وحده الفضاء المفتوح يمد ذراعيه لهم ليس بالهبات، لكن بالغبن، وبكل ألوان الطيف؛ آباؤهم، فوق سرير ذات نزوة تبغي كشف عورة، انصاعوا لغريزة حيوانية، وقعوا بها وجود هؤلاء الأطفال ثم رحلوا بهدوء، وما همتهم بصمتهم، ولا ما ستفرعه تربة لذة غير مشروعة من رؤوس مآس، هؤلاء الآباء ربما هم أيضاً ضحايا توقيع تم فوق السرير، وربما على الأرض في رحلة ليست عابرة بل دائمة..هذا زمن التوقيعات، على الكل أن يترك توقيعه، ومن لا يفك الحرف يبصم.
رياضة المشي أنست (ك) الهدف منها، صارت تعني له ربط علاقة آسرة، ولو من بعيد، مع هؤلاء، إنهم يؤثثون الأمكنة والشوارع كأنهم ممثلون ينتظرون عين كاميرا مخرج مغمور، ينظر إليهم واحداً، واحداً، لا أحد منهم خارج دائرة اهتمامه، يقرأ في عيونهم كل اللغات، لا يفهم منها شيئاً سوى ما توحي به سحناتهم، وأسمالهم الرثة؛ حركاتهم في مد اليد، نظراتهم المنكسرة، ودموعهم التي تهمي وتهمي هي رياضتهم المفضلة بل المفروضة، إنهم علامات فارقة، في شوارع مدينته، وما لم يستوعبه قط هو من أين يأتي هذا الزحف من البشر، اليابسة تنوء بهم، يمشون على غير هدى، نزولاً وصعوداً، الدور ملأى، والشوارع مكتظة، والسجون لم تعد تسع أحداً.. الناس باتت تحسد بعضها على مجرد الوجود، إن الأمر محزن حقاً أن يغار الأخ من أخيه لمجرد أنه موجود..
ما تكون هذه الدنيا غير وعاء يحوي كل هذا الزخم من البشر، فوق، وتحت، ولم تكفهم أجسامهم فأضافوا اختراعاً آخر سموه سيارة تزيد في الطين بلة، وهي في الأصل توقيع خاص بزمن اللذات على اختلاف أنواعها.
تذكر وهو يمشي في الطرقات ما قاله شاعره المفضل محمود درويش:
"أمشي وعلى كتفي نعشي".
ثم فكر:
"لستَ وحدك يا محمود، ويكفي أن تكون عربياً، (تفك الحرف، لا تفكه، لا يهم) حتى تصالح الموت، في الدنيا قبل الآخرة، ثم إن من يعيش في بلدٍ ،الأرض تتكلم "عربي"، حسبه أن يراهن على البقاء حياً وسط أحراش تحرسها ضوارٍ.
من يعيش في بلد عربي، فيه هذا الكم الهائل والفائض من الغبن والظلم ماذا سيشغله غير التفكير إن لم يكن في نعشه ففي نعش الآخرين.."
وضمن كل هذا الكم من المتسولين ممن يمر بهم في جولته المسائية، تبدت له سيدة نحيلة استرعت انتباهه أكثر، كانت تحمل طفلاً، عينه فُراره، توقف عندها، منحها ورقة مالية ليس كرماً منه، لكن بغيته أن يسمع منها، قال لها:
- عمتِ مساءً سيدتي..
المرأة التقطت الورقة قائلة:
- بارك الله فيك، أنت لست مثلهم يا ولدي، غريب ولا شك..
- لستُ مثل مَنْ سيدتي؟!
- قلما يحيينا أحد، هنا لا أحد يسلم علينا، يا ولدي، والتحية يلقونها كالشتيمة إن فعلوا، يمرون بنا، ينظرون إلينا، ولا يروننا..
يتأسف الشاب مما يسمعه، يتأمل السيدة، والطفل الذي معها، كان هذا يرمقه هو الآخر بعينين صغيرتين حادتين، يمسك بتلابيب أمه، وهي تمسد على رأس لا شعر فيه، الصغير صامت، يبدو منكسر الخاطر، مهيض الجناح.. قال لها:
- إني أراك يومياً، هنا، في الشارع، أوليس لك بيت يأويك مع طفلك ؟!
- الشارع بيتي، ومع ذلك هم يحسدوننا عليه، يعتبروننا مجرد زبالة تشوه شوارعهم الأنيقة..
وحين لاحظت اهتمامه بالطفل، قالت له:
- إنك، ولا شك، من أسرة كريمة، وأطهر أرومة.. فهلا أخذت معك الطفل، تسهر عليه أسرتك بدل هذا الشارع..
يرد الشاب، وقد فاجأته بطلبها:
- وهل تصبرين على فراقه سيدتي؟!
قالت بانكسار:
- إنه ليس ابني.
قالت ذلك، ودَعَت الطفل يعدو غير بعيد عنها، تبعته بخطى واهنة، لم تنظر وراءها، ولم تنتظر جواباً منه حتى..
استغرب تصرفها، ولولا الناس من حوله، وأصوات منبه السيارات لجزم بأنه يحلم..
ابتعدت المرأة مع الطفل، ظل (ك) يتأملهما، لوح بيديه لظهريهما، أحس بحرقة، وبحزن دفين، فكر في أمه، وفي أخيه الصغير، قفل راجعاً مشياً على قدمين حرنتا للحظات، كان في قلبه غصة، وعلى الكتف لا نعشه، لكن هَم الصغير، بل هَم كل الصغار.
السحب في السماء قماش أسود، وفي الأرض سواد من نوع آخر، ينظر فوق وتحت، لا يسعه أي مكان، يحس نفسه ثقيلا، ثقيلا، يسرع الخطى، يحوقل مرة، ويسترجع مرات..
وفي طريق عودته وهو يتأمل الوجوه، ذات الوجوه التي يمر بها دائماً، تذكر مقولة نيتشه:
" إن أعظم الأفكار، تلك التي تأتينا ونحن نمشي"..
ثم علق بصوت مسموع:
" مخطئ يا سيدي، بل إن أعظمها تلك التي تأتينا حين نشبع".