د. مصطفى الضبع - البحث العلمي في ألفيته الثالثة (2)

(أصدقك القول ودون صعوبة تذكر يمكنك اكتشاف عمق الباحث، ومرجعيته، وقدراته من سطور بحثه الأولى)
يحكى أن أحدهم سأل صديقه: هل تصح الصلاة بدون وضوء، فرد بقوة: مستحيل، فعاجله برد أسرع: طيب لعلمك عملتها وعدت (بالطبع ليس المقصود الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم).
يعتقد البعض أنه يمكن أن يحصل على لقب باحث دون أن يمتلك مقومات (أدنى مقومات) البحث العلمي، تماما كالذي يصلي بدون وضوء، وعندما فعلها وصلى اعتقد أن صلاته صحيحة دون أن يداخله شعور بالشك في عمله، ودون أن يدرك حجم مافعل أو يعترف بالخطأ لذا سيستمر على ماهو عليه من قناعات.
البحث العلمي عمل لا يؤديه صاحبه في وقت الفراغ، إنه عمل شأن كل الأعمال المصيرية التي تتطلب تخطيطا واستعدادا يليق بكل من يقرر العمل به.
يمكنك أن تذهب إلى رحلة دون الاستعداد لها وتستعير (الاسم العلمي لتتسول) بعض الأشياء من رفاق الرحلة، ولكنك لا تستطيع اتخاذ قرار العمل بالبحث العلمي دون تخطيط أو استعداد، ودون أن تكون مستعدا لعملك بما يفرضه العلم وما يتطلبه عمل لن تحقق فيه نتائج تذكر مالم تكن تمتلك من الأدوات ما يؤهلك للقيام به.
من أسباب ما وصلنا إليه من أزمة البحث العلمي افتقاد بعض الباحثين لأدوات التأسيس، لقواعد يتهاون البعض في العناية بها أو استكشافها، وهي بمثابة الوضوء الذي لا تصح الصلاة بدونه، وفي مقدمتها:
1- ثقافة عامة تجعل الباحث قادرا على استكشاف مناطق الاشتباك مع العلوم الأخرى القريبة أو المعارف الأخرى ذات الصلة، أو الفنون الأخرى التي من شأنها تشكيل المجال الحيوي لمنطقة عمله (هل يمكن لباحث في الشعر ألا يكون على علاقة بعلم العروض مثلا؟).
2- معرفة بالبحث العلمي، آلياته ومناهجه، ويفتقد كثير من الباحثين لهذه المعرفة لأسباب عدة: إهمال كثير من الكليات لتدريس هذا المقرر – عزوف الباحثين عن المقرر نظرا لطريقة تدريسه التقليدية (بعض الأساتذة يدرسون مقرر قاعة البحث بطريقة تحفيظ الطلاب ألفية ابن مالك، ولا يحاولون الخروج من هذه الطريقة بطرائق متعددة منها تدريسه بطريقة الورشة أو قاعة البحث) وهو ما يمثل تقصيرا واضحا يمكن الوقوف عليه بسهولة (تجربتي الشخصية أن المقرر من أكثر المقررات متعة في تدريسه)
3- خلفية مرجعية في مجال التخصص: تختلف بين باحث وآخر وهناك ثلاثة أنواع من الباحثين حسب هذه المرجعية:
- باحث قارئ منذ الصغر، يكاد يكون متخصصا قبل أن يعرف التخصص، كالذي يقرأ الرواية (العربية والعالمية) منذ مراحل حياته الأولى (قبل الالتحاق بالجامعة غالبا) ثم يتخصص في نقد الرواية مثلا، وهو النوع الأفضل على الإطلاق حيث لديه ذائقة فعالة، ورؤية واسعة تمنحانه الحدود القصوى للتميز والعمق (نوع قليل حد الندرة الآن)، ومن سمات هذا الباحث أن البحث العلمي حلمه قبل ان يلتحق بالجامعة، فيكون استعداده ممنهجا وعمله عميقا.
- باحث تشكلت مرجعيته منذ دراسته الجامعية، يمتلك مقومات لابأس بها يمكنه استثمارها للتميز شريطة أن يكون لديه من الدوافع النفسية ما يقوى على الإنجاز دون التأثر بالجو العام من حوله (بعض هؤلاء طاب لهم مسايرة موجة الضعف وباعوا القضية سريعا منزلقين إلى المتاجرة شأنهم شأن الآخرين).
- فريق كبير من الباحثين مؤسس على الحفظ (اعتقاد راسخ عند طلاب الأدبي في الثانوية العامة) ، قراءتهم قليلة ، يعتمدون على الحفظ، وتساعدهم أنظمة الامتحانات القائمة على الحفظ ، وفي دورة للزمن أصبح من بين أساتذة الجامعة من يحبذ المبدأ نفسه (فوافق شن طبقه )، يعمل النظام على إنتاج طالب متفوق في شؤون الاختبارات ، هذا الفريق لم يخطط أن يكون باحثا ولا حلم بذلك غير أن نظام الامتحانات (الزائف ) وضعه في الصدارة فصدق نفسه وهو نوع لا يصلح للبحث العلمي رغم كونه العملة الأكثر رواجا في جامعاتنا ، ومن سمات هذا الفريق أن المنتمين إليه ليس لديهم أي استعداد لتطوير أنفسهم .
هذا الفريق يحشر نفسه في زمرة الباحثين، وتصور له مناصبه، أو علاقاته، أو بلطجته العلمية، أو مركبات النفاق الراسخة في (شخصيته) أوهاما بأنه الباحث الذي لم يجد العصر بمثاله، والكارثة أن هناك طالبا يعتقد أن هذا هو نموذج الأستاذ (غالبا لم يجرب الطالب نوعا آخر).
فإذا ماتجاوزنا المرجعية، وتعارفنا على المخزون الاستراتيجي للباحث من القراءة والمعرفة ، واتفقنا عليه ، فهناك أدوات يضل الباحثون كثيرا إذا ما تخلوا عنها، في مقدمتها:
- قواعد البيانات أو الببليوجرافيات: وتكون مهمتها الأساسية الوقوف على مناطق الزحام التي يكون عليك تجاوزها أو مناطق العمل التي ماتزال في حاجة للعمل فيها أو المناطق البكر التي لم يدخلها أحد من قبلك، وكثير من الباحثين يسارعون بتسجيل موضوعات دون العودة لقواعد البيانات وسرعان ما يكتشفون أن الموضوع سجل من قبل ويكون عليهم البدء من الصفر مضيعين ما كان بإمكانهم الحفاظ عليه من الوقت والجهد إن هم انطلقوا من نقطة البداية الصحيحة.
- المعاجم: والحاجة إليها مستمرة طوال رحلة الباحث لضبط لغته والوقوف على مفرداته، فكثيرا ما يختلط الأمر على الباحثين باستخدام مفردات غير منضبطة لغويا، تفقد أعمالهم رصانتها العلمية، أن يستخدم الباحث كلمات من مثل: زخم مثلا دون تدقيق لما تعنيه معتمدا على الاستخدام الإعلامي غير الدقيق، جاء في "لسان العرب " وهو ينفرد بذكر مادة زخم "(الزَّخَمَةُ: الرائحة الكريهة، وطعام له زَخَمَةٌ. يقال: أَتانا بطعام فيه زَخَمَةٌ أي رائحة كريهة، لحم زَخِمٌ دَسِمٌ: خبيث الرائحة، وقيل: هو أَن يكون نَمِساً كثير الدَّسَمِ فيه زُهُومة، وخص بعضهم به لحوم السباع، قال: لا تكون الزَّخَمَةُ إلا في لحوم السباع، والزَّهَمَةُ في لحوم الطير كلها وهي أطيب من الزَّخَمَة، وقد زَخِمَ زَخَماً، وفيه زَخَمَةٌ. ابن بُزُرْج: أَزْخَمَ وأَشْخَمَ.والزُّخْمَةُ: نتن العِرْض" فهل فكر أحدهم (من مستخدمي المفردة ) العودة للمعجم لاكتشاف المعنى وتدقيق اللفظ؟
- كتب المصطلحات: وتجعل الباحث قادرا على ضبط مصطلحه ، واعيا بأبعاده واستخداماته، وما يحققه من إنجاز لما يستهدفه ، يكفي الإشارة إلى اثنين من المصطلحات النقدية التي لاقت رواجا كبيرا في الرسائل العلمية منذ نهاية الألفية الثانية وبداية الثالثة: الأسلوبية – الحداثة، يمكنك بسهولة البحث عن رسائل علمية معتمدا واحدة من المصطلحين بوصفه كلمة مفتاحية، ستجد مئات الرسائل العلمية (ومئات الأبحاث العلمية المحكمة) يتضمن عنوانها مصطلح " دراسة أسلوبية " أو " الحداثة " فإذا ماتصفحت الرسالة لن تجد فهما لأي من المصطلحين (في الفترة المشار إليها أخذ الأمر شكل الموضة وخاصة الأسلوبية) ، أما الحداثة فأمرها أدهى وأمر (أكاد أجزم عن يقين لا يداخله شك أن 99 % من الرسائل التي اطلعت عليها وتنص على الحداثة منطقة لعملها لم يفهم أصحابها ما تعنيه الحداثة وهو ما يتجلى في ثلاثة مظاهر أساسية : افتقاد عملهم لمفهوم واضح للحداثة - اعتمادهم على دراسات عربية تفتقد لفهم المصطلح – تطبيقاتهم تأتي بعيدة تماما عن الحداثة ، وهو ما يجعل فهم هؤلاء للحداثة فهما كاريكاتوريا ، ويجعل من تطبيقاتهم شكلا من أشكال التهريج .
إن باحثا يضل طريقه من البداية لن يتعلم كيف يكون باحثا حقيقيا (ما بني على باطل فهو باطل) .
إن اكتشاف جودة عمل الباحث من عدمها تتطلب البحث عن سؤال البدايات، قل لي كيف بدأت أقل لك إلى أي نقطة ستصل في صعودك للقمة أو للحتف ".
وللحديث بقايا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى