قال أحدهم : أن ملك من ملوك الجن المسكون بالعشق هجر قومه وحط رحاله في هذه البقعة وبنى عرشه الجديد من أعواد الاراك بين هذه التلال الشامخة . ويقول اخر: أن إحدى الشريفات الطاهرات نزلت في هذا المكان فاستضاء المربع من نورها وكانت تحمل حزمة من اراك فتخيرت سفح ذاك الجبل وغرست الاعواد ومن ثم انتشرت هذه النبتة العجيبة المخضرة ويقول ثالث : إنهم الانجليو الغزاة اتوا بها من منطقة ما لاعتقادهم انها تصلح لتاديب الجانحين من الوطنيين في نظرهم .لكن ما استقر في ذاكرة ادريساي ذلك الشاب البجاوي النحيل المفعم بالحيوية والاصرار وقوة الارادة استقر في ذهنه ان وجود شجرة الاراك مرتبط بمحبوبته فهي تمثل ينبوع الخير والعطاء ،وتتملكه قناعة راسخة أنها تحدرت من فجاج هذا الوادي الرملي بعد مخاض عسير من رحم غيمة كانت تجوب اكباد الفضاء اللامنتهي وفجاءة برقت عيناه فابصر أشياء كاد ان يطويها النسيان فتساقطت وتداعت الصور امامه كشريط سينمائي... خيمته المصنوعة من الشعر البالي والاسمال الرثة والشعر الوديك و أهازيج صلاح الشاعر عندما التقط بحسه النابض صورة بانورامية عميقة لوقفة ادريساي ، وهو يتوكأ على عصاه متسمرا على الارض التي يعشقها حتى النخاع وفي الاطار واقفا كوقفة الكركي في الماء، ولقد كان حسن الطالع أن تلك اللقطة قد أخذت قبل أن تسقط رافعة الميناء على رأسه الأشعث فيختلط الدم برطوبة الارض المالحة ،ولم تنته فصول المأساة بل يتجدد السيناريو ،وفي رلحظة استغراقه في سيل الهموم يتحسس ادريساي ربابته ،ويطلق أنغاما مبهمة وبوهيمية ومتناقضة، فيفوح عبق الاراك في ارجاء المكان وتزهو قامة الزمان عندما تتشكل في الافق ملامح محبوبته التي دفق عليها ذوب المشاعر واحرق في مناقبها حشاشة الهوى والصبابة ،وتغنى لها ذات مساء حتى تنزلت ملائكة السماء تسترق السمع لحدائه الحالم والحانه الرائعات، وكانت تلك الصور تنداح امام مخيلته وتتداعى لحظة إصدار قراراه التاريخي بمغادرة الوكر القديم والتشبث بزوارق الرحيل والانتقال في بقاع الله ، فهنا لا مكان للمشاعر والعواطف إنه مكان يفيض بالقسوة ، صرخ بأعلى صوته وقذف برباته على جدار الصمت والخواء ساعة ان لمعت صورتها في جلاء مرة أخرى، وكان يردد مقولته البلسم" الصبر عند الصدمة الاولى "كيف تلاشت الجميلة والحبيبة وضاعت في تلافيف النسيان ،لم يصدق مجريات الأحداث.. فاخذ يفرك شعره ويضرب اخماسا باسداس ويبكي بحرقة فاقت دموع الخنساء ،لم يصدق إنها غادرت عالمنا الزائل وارتحلت بلا مواعيد ولا بطاقات للسفر، وهي التي وهبته ما لم تفلح اي حواء ان تمنحه، أعطته الحب والوفاء، ومنحته الجرأة والاعتزاز بالذات والايمان بالهدف ،عندما يسافر معها بنظراته الخجلى وهي تتلفع ثوبها البالي الممتلئ حشمة وعفاف، كحمامة بيضاء تحلق في هيام وهي تحمل إناء الحليب، وهي تجلس تحت الشاة تستحلب من ضرعها النقاء ثم ترجع والشمس في رابعة السماء إلى مورد الماء ذلك الجب التليد الذي حفر منذ سنون خلت فتاكلت جدرانه التي على وشك السقوط ....فترد الماء ثم تعود في رحلة اخرى لتغشى الغابة لتحتطب فتحمل الاعواد على راسها وقودا للطعام ونارا لمن تامر على مصيرها ، تزاحمت الاسئلة الحيرى في ذهنه المكدود . وفجاءة يوقظه صوت فيصحو من الحلم يفرك عينيه ويتمطى في حركة درامية فينبئه العصفور بخبر تصدعت لها اركان الدنيا إذ ان محبوبته وحلم عمره خرجت ذاك الصباح في ابهى حلتها كقطعة موسيقية وكهالة القمر يتناثر الضياء من فمها حتى الدلو كان يتلألأ جمالا وبخطوات مموسقة و جريئة وحيية ..........ولكنها فجاءة وهي تمارس عملها اليومي في الكفاح والكدح ومكابدة الصعاب ،شعرت بسخونة عالية في جسدها وبدأت نوبة السعال ترتفع ويسمع من صدرها أزيز كأزيز المرجل ،هرع الأهل يتحلقون حولها والكل يتضرع لله إن يلطف ن استدعوا بصير لقرية عله أن ينقذ ما يمكن إنقاذه ولكن ياللأسف فقد تمكن فيروس السل منها والتي كانت تقاومه ...وسجلت الجريمة ضد مجهول .......وانطلقت التساؤلات الصامتة من الذي تسبب في هلاك حسناء القرية ؟ومن المسؤول عن السل؟خل هو الجوع ؟السهر؟التخلف التنموي؟لبنوك الربا؟معتمد المدينة ؟أم القدر؟لاحول ولا قوة إلا بالله.