أيها المنتظرون، أنا مثلكم..
أنتظر كما تنتظرون،
و في انتظار الشمس،
أنضج في أتون الدروب.
خذوا الحكمة عني،
الانتظار صابون القلوب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنه شعاره، يؤمن به، وليس في الوجود ما يرضيه أكثر من ممارسة لعبة الانتظار، يسميها لعبة، ويرتاح لهذه التسمية؛ علموه أن ينتظر كل شيء، وأي شيء، وحتى حين لا يكون هناك ما ينتظره يمارس دور المنتظِر حيناً، أو المنتظَر حينا آخر..
كل من حوله أدمن الانتظار، إنه أفيون الشباب في مثل سنه، وربما حتى لسلفه؛ في البداية مارس لعبة الانتظار كأمر، ثم كواجب حين انتظر أشياء عدة وحاسمة لكن دون جدوى، وفي النهاية احترف الانتظار، أدمنه كما السيجارة.
كان هناك دائماً من يدعوه لينتظر كغيره دوره، وما أكثر ما سمع من هؤلاء:
" ارجع غداً، عليك أن تنتظر"..
" السيد المدير غائب، عليك أن تنتظر إلى حين عودته.."
" أوراقك تنقصها بعض الوثائق، وهذا يأخذ وقتاً، عليك أن تنتظر، وتسافر إلى العاصمة.."
" لن تخسَر شيئاً، الدنيا لن تطير، انتظر غداً.."
وكان ينتظر، ويرجع إذا جاء ذلك الغد، وما يؤلمه حقيقة في كل غد ينتظره هو كيف لا يأخذ الناس أماكنهم في هدوء وهم ينتظرون..
يثرثرون، يتعاركون كما الديوك وهم يندسون بين الصفوف في صورة شبيهة بملاعق تنتظر من يستعملها، وما أكثر ما كان يتصفح ذاته حين يمارس طقوس الانتظار، يزداد اقتناعا- حين ينتظر ما لا يعرف- بأن الحياة أكثر انسجاماً حتى في أسوأ صور الفوضى التي باتت تؤطرها، وأحياناً تبدو له مجرد لحظة ميزتها انتظار شيء ما.
وحين احترف لعبة الانتظار، اهتدى إلى طريقة عجيبة لممارسة لعبته، كان يلتجئ كل وقت إلى أشهر الأطباء في مدينته، لا يهم تخصصهم، يدخل عيادة أحدهم، متأنقاً، تفوح منه روائحُ طيبة، يسجل اسمه ضمن المنتظرين، وحين تطلب منه المشرفة التفضل إلى قاعة الانتظار، يحس نفسه شخصاً آخر، ويكفي أن تقول له : "تفضل، ستنتظر قليلاً إلى حين أن يأتي دورك" لينتشي مقلداً صولة الأسد، حينئذ شيء ما في داخله يكبر، ويتشكل، كلمة الانتظار تغسله من الداخل كما الصابون، بعد أن يسمعها ترق نفسه، وينثني كما الطير..وينتظر..
داخل القاعة يأخذ مكانه، ينتظر دوره، يوزع نظره على المرضى المنتظرين، يتملاهم واحداً، واحداً،يمسح تضاريس ملامحهم؛ سحناتهم الواهنة تشي بأنهم يحملون أجساماً مقروحة، يدخل آخرون.. و شيئاً، فشيئاً القاعة تكتظ... المشرفة ردت على بعض المرضى قائلة:
- " دوركم يحين مساءً، عليكم أن تنتظروا.."
حين سمعها قال في نفسه : " طوبى لهم، ليتني كنتُ منهم "..
كان الصمت قد خيم على الجميع، بعض المرضى داخل القاعة يُسمع زفيرهم، كلهم غريب، والغريب للغريب نسيب؛ لغة الألم هي قاسمهم المشترك، حين يزفر أحدهم، يتنهد الآخرون، بينهم مريض سادر وهو يغفو على كرسيه، وقد تدلى عنقه، وبدا قفاه الكبير كنتوء فاكهة نضجت وحان قطافها، ومنهم من يرسل نظره عبر نافذة زجاجية متأملاً الخلق والخلائق، صاحبنا يعدل من جلسته فاسحاً المجال لمريض رغب في التمدد، تأمله وهو يمد رجليْن طويلتين بشكل غريب، كان يزفر، ويتنهد.. تساءل وهو ينظر إليه عن إحساس من ينتظر وهو نصف نائم..
قال متمتماً:
- " لا بد أن هناك فرقاً ما..علي أن أجربه "..
سمعه أحد المرضى كان يرخي أذنيه، وبدا كأنه لا يملك غيرهما، فقال له بعد أن ظن أنه يخاطبه :
- سمعة الدكتور جيدة، ما من مريض قصده، إلا ويثني عليه..
"الناس معادن، والأطباء منهم".. كان جوابه مختصراً، أشاح عنه وجهه حتى لا يفتح له المجال للتعقيب، لم يكن يحبذ الكلام، وهو ينتظر، إنه يفسد عليه متعة ممارسة لعبته..الانتظار مثل وجع الرأس لا يستقيم معه الكلام الكثير.
في هذه الآونة تدخل المشرفة وتنادي عليه قائلة:
- السيد " ش"، جاء دورك، تفضل معي..
يتململ في جلسته، يعدل من ربطة عنقه، ويقول لها:
- الحقيقة، أنا يمكن أن أنتظر قليلا، وأنزل عن دوري، لهذا المريض (يشير إليه)، إنه يزفر منذ دخل، يستطيع أن يدخل.
يشكره المريض، ينهض بصعوبة، يتبع المشرفة، يبتعدان، وهو يقبع في مكانه، يعدل من جلسته، وإذا أيقن أنه لم يفضل غيره، يسأل عن دورة المياه، ثم ينسحب، ويطلق رجليه في درج العمارة، كما لو كان ينزل بئراً سحيقة.. يلتقطه الشارع، يندس بين المارة، يأخذ أي اتجاه، يسرع، يركض، إنه الآن يمثل دور شخص مهم ينتظره أحدُهم، في مكان ما، وعليه أن يصل في الوقت المناسب لملاقاته.. يطلق العنان لرجليْه، يبدو غريباً وهو يتأمل سيارات كثيرة تنتظر إشارة المرور، يغبط أصحابها لأنهم ينتظرون.. ولكنه لا يحبذ سرعة السيارات، هي تقصر المسافات، وهو يريدها أن تطول، وكلما طالت لبى في داخله دعوة الانتظار بشكل أفضل..
يظل على هذه الحال اليوم بأكمله، ويعيد ما يقوم برتابة تمده بطاقة هو في حاجة إليها، وكل يوم جديد يعتبر نفسه في مهمة ما دامت الشمس ترسل أشعتها، ولا ينقذه من هذا الجحيم سوى النوم الذي يجفوه مرات عدة، يقضي الليل أحياناً، متوهماً أن هناك من ينتظره تحت، فيظل يصعد الدرج، ويهبط في عذاب سيزيفي..
كم عليه أن ينتظر؟
أما آن الأوان لهذا الفارس أن يترجل؟
زار كل الأطباء في مدينته، يقبع في قاعة انتظارهم دون أن يفحصه أحد، كلما جاء دوره ينسحب ببطء، يفعل ذلك مراراً، ويومياً دون كلل، كأس انتظاره فاضت، وهن العظم منه وبدأ ت طرته تنحسر عن شعر قليل..
آخر مرة دخل فيها عيادة طبيب متخصص في الأمراض النفسية كانت حاله قد تفاقمت.. جلس كعادته، لم يكن أنيقاً هذه المرة.. انتظر قليلا ثم نادت عليه المشرفة، وأخبرته بأن دوره حان، أخذته بيده، تبعها بهدوء، دخل قاعة الفحص، استقبله الطبيب بابتسامة وقال له:
" انتظرتك طويلاً "
أنتظر كما تنتظرون،
و في انتظار الشمس،
أنضج في أتون الدروب.
خذوا الحكمة عني،
الانتظار صابون القلوب..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنه شعاره، يؤمن به، وليس في الوجود ما يرضيه أكثر من ممارسة لعبة الانتظار، يسميها لعبة، ويرتاح لهذه التسمية؛ علموه أن ينتظر كل شيء، وأي شيء، وحتى حين لا يكون هناك ما ينتظره يمارس دور المنتظِر حيناً، أو المنتظَر حينا آخر..
كل من حوله أدمن الانتظار، إنه أفيون الشباب في مثل سنه، وربما حتى لسلفه؛ في البداية مارس لعبة الانتظار كأمر، ثم كواجب حين انتظر أشياء عدة وحاسمة لكن دون جدوى، وفي النهاية احترف الانتظار، أدمنه كما السيجارة.
كان هناك دائماً من يدعوه لينتظر كغيره دوره، وما أكثر ما سمع من هؤلاء:
" ارجع غداً، عليك أن تنتظر"..
" السيد المدير غائب، عليك أن تنتظر إلى حين عودته.."
" أوراقك تنقصها بعض الوثائق، وهذا يأخذ وقتاً، عليك أن تنتظر، وتسافر إلى العاصمة.."
" لن تخسَر شيئاً، الدنيا لن تطير، انتظر غداً.."
وكان ينتظر، ويرجع إذا جاء ذلك الغد، وما يؤلمه حقيقة في كل غد ينتظره هو كيف لا يأخذ الناس أماكنهم في هدوء وهم ينتظرون..
يثرثرون، يتعاركون كما الديوك وهم يندسون بين الصفوف في صورة شبيهة بملاعق تنتظر من يستعملها، وما أكثر ما كان يتصفح ذاته حين يمارس طقوس الانتظار، يزداد اقتناعا- حين ينتظر ما لا يعرف- بأن الحياة أكثر انسجاماً حتى في أسوأ صور الفوضى التي باتت تؤطرها، وأحياناً تبدو له مجرد لحظة ميزتها انتظار شيء ما.
وحين احترف لعبة الانتظار، اهتدى إلى طريقة عجيبة لممارسة لعبته، كان يلتجئ كل وقت إلى أشهر الأطباء في مدينته، لا يهم تخصصهم، يدخل عيادة أحدهم، متأنقاً، تفوح منه روائحُ طيبة، يسجل اسمه ضمن المنتظرين، وحين تطلب منه المشرفة التفضل إلى قاعة الانتظار، يحس نفسه شخصاً آخر، ويكفي أن تقول له : "تفضل، ستنتظر قليلاً إلى حين أن يأتي دورك" لينتشي مقلداً صولة الأسد، حينئذ شيء ما في داخله يكبر، ويتشكل، كلمة الانتظار تغسله من الداخل كما الصابون، بعد أن يسمعها ترق نفسه، وينثني كما الطير..وينتظر..
داخل القاعة يأخذ مكانه، ينتظر دوره، يوزع نظره على المرضى المنتظرين، يتملاهم واحداً، واحداً،يمسح تضاريس ملامحهم؛ سحناتهم الواهنة تشي بأنهم يحملون أجساماً مقروحة، يدخل آخرون.. و شيئاً، فشيئاً القاعة تكتظ... المشرفة ردت على بعض المرضى قائلة:
- " دوركم يحين مساءً، عليكم أن تنتظروا.."
حين سمعها قال في نفسه : " طوبى لهم، ليتني كنتُ منهم "..
كان الصمت قد خيم على الجميع، بعض المرضى داخل القاعة يُسمع زفيرهم، كلهم غريب، والغريب للغريب نسيب؛ لغة الألم هي قاسمهم المشترك، حين يزفر أحدهم، يتنهد الآخرون، بينهم مريض سادر وهو يغفو على كرسيه، وقد تدلى عنقه، وبدا قفاه الكبير كنتوء فاكهة نضجت وحان قطافها، ومنهم من يرسل نظره عبر نافذة زجاجية متأملاً الخلق والخلائق، صاحبنا يعدل من جلسته فاسحاً المجال لمريض رغب في التمدد، تأمله وهو يمد رجليْن طويلتين بشكل غريب، كان يزفر، ويتنهد.. تساءل وهو ينظر إليه عن إحساس من ينتظر وهو نصف نائم..
قال متمتماً:
- " لا بد أن هناك فرقاً ما..علي أن أجربه "..
سمعه أحد المرضى كان يرخي أذنيه، وبدا كأنه لا يملك غيرهما، فقال له بعد أن ظن أنه يخاطبه :
- سمعة الدكتور جيدة، ما من مريض قصده، إلا ويثني عليه..
"الناس معادن، والأطباء منهم".. كان جوابه مختصراً، أشاح عنه وجهه حتى لا يفتح له المجال للتعقيب، لم يكن يحبذ الكلام، وهو ينتظر، إنه يفسد عليه متعة ممارسة لعبته..الانتظار مثل وجع الرأس لا يستقيم معه الكلام الكثير.
في هذه الآونة تدخل المشرفة وتنادي عليه قائلة:
- السيد " ش"، جاء دورك، تفضل معي..
يتململ في جلسته، يعدل من ربطة عنقه، ويقول لها:
- الحقيقة، أنا يمكن أن أنتظر قليلا، وأنزل عن دوري، لهذا المريض (يشير إليه)، إنه يزفر منذ دخل، يستطيع أن يدخل.
يشكره المريض، ينهض بصعوبة، يتبع المشرفة، يبتعدان، وهو يقبع في مكانه، يعدل من جلسته، وإذا أيقن أنه لم يفضل غيره، يسأل عن دورة المياه، ثم ينسحب، ويطلق رجليه في درج العمارة، كما لو كان ينزل بئراً سحيقة.. يلتقطه الشارع، يندس بين المارة، يأخذ أي اتجاه، يسرع، يركض، إنه الآن يمثل دور شخص مهم ينتظره أحدُهم، في مكان ما، وعليه أن يصل في الوقت المناسب لملاقاته.. يطلق العنان لرجليْه، يبدو غريباً وهو يتأمل سيارات كثيرة تنتظر إشارة المرور، يغبط أصحابها لأنهم ينتظرون.. ولكنه لا يحبذ سرعة السيارات، هي تقصر المسافات، وهو يريدها أن تطول، وكلما طالت لبى في داخله دعوة الانتظار بشكل أفضل..
يظل على هذه الحال اليوم بأكمله، ويعيد ما يقوم برتابة تمده بطاقة هو في حاجة إليها، وكل يوم جديد يعتبر نفسه في مهمة ما دامت الشمس ترسل أشعتها، ولا ينقذه من هذا الجحيم سوى النوم الذي يجفوه مرات عدة، يقضي الليل أحياناً، متوهماً أن هناك من ينتظره تحت، فيظل يصعد الدرج، ويهبط في عذاب سيزيفي..
كم عليه أن ينتظر؟
أما آن الأوان لهذا الفارس أن يترجل؟
زار كل الأطباء في مدينته، يقبع في قاعة انتظارهم دون أن يفحصه أحد، كلما جاء دوره ينسحب ببطء، يفعل ذلك مراراً، ويومياً دون كلل، كأس انتظاره فاضت، وهن العظم منه وبدأ ت طرته تنحسر عن شعر قليل..
آخر مرة دخل فيها عيادة طبيب متخصص في الأمراض النفسية كانت حاله قد تفاقمت.. جلس كعادته، لم يكن أنيقاً هذه المرة.. انتظر قليلا ثم نادت عليه المشرفة، وأخبرته بأن دوره حان، أخذته بيده، تبعها بهدوء، دخل قاعة الفحص، استقبله الطبيب بابتسامة وقال له:
" انتظرتك طويلاً "