محمود شاهين - (12) مذهب وحدة الوجود حسب الصوفية الحديثةّ!

استقبلت محمود أبو الجدايل بالعناق والقبل ، لأدخل البهجة إلى نفسه ، ولأنشط ذهنه لتقبل أسئلتي التي قد لا تخلو من تعقيد هذا اليوم . بدا على محمود أنه انتشى بالقبل حين أشارإلى أن تقبيل الخدود الأسيلة أجمل صلاة للتقرب إلى الخالق وتلمس جماله ! فما كان مني إلا أن أشرعت له خدي مرة أخرى ليأخذ قبلة عميقة! غيرأنني قلت :​

- لكن أليس التقبيل هو تقبيل الخالق لنفسه حسب فلسفتك؟

- آه منك ! أحسنت . بمعنى أدق :هو تقبيل جزء يتجلى فيه قدر من الخالق، لجزء آخريتجلى فيه قدرآخر من الخالق ذاته! لأن الذات الخالقة متعددة في تجلياتها وتمظهراتها رغم وحدانيتها ! ولا يجوز إطلاقا أن تتجلى بكليتها في كائن بعينه، بل بالوجود بكليته، فالكمال إن وجد، لها وحدها.

- مسألة التجزؤ هذه إذا جاز التعبير قد تكون صعبة على فهم المشاهد. فكيف تكون الذات الإلهية وحدانية ومجزأة .

- االأمر يكمن في السر الواحد الذي جاء منه الخلق، لا يمكن فهم ترليونات ترليونات الأجزاء التي تشكل الوحدة الكلية إلا إذا فهمنا الأصل الواحد الذي جاءت منه . تقول ملكة السماء في ملحمة " غوايات شيطانية " حين يسألها الأديب عما إذا يتوحدون بالذات الإلهية وتتوحد الذات بهم :

واحدية الله هي الأصل

هي الأساس والنبع

هي رعشة الروح

السارية حياة في الكون

هي نقطة الماء

في النهر والبحر

في التراب والجسد

في النبات والحجر

لولاها لما توحدنا

ولولاها لما تعددنا

ولما كان تعددنا

في توحدنا

وتوحدنا الأبدي في تعددنا

هي الكل في الكل بالكل

والكل في الكل بالكل هي !

تسري بحركة دائبة

في غيهب الكون

والكائنات

***

- الله ! المدير طلب أن يراك قبل أن ندخل إلى التسجيل .

- ماذا هناك ؟

- شاهد جميع الحوارات التي أجريناها . وربما يريد أن نبدأ بث الحلقات .

استقبلنا المدير بوجه باش ورحابة صدر. وراح يثني على محمود لفلسفته الرائعة وأفكاره الجميلة :

- حقيقة أستاذ محمود أنني أعجبت جدا بفلسفتك رغم أن المرء قد لا يتفق مع بعض ما جاء فيها . يكمن جمالها في أنها فلسفة انسانية ، تنشد غايات انسانية نبيلة ، لذلك لا يستطيع أحد أن يرفضها .. قد تعتبر فلسفة مغرقة في المثالية من قبل بعض الناس ، لكن ذلك لن يضيرها . وأعتقد أن كثيرين سيقدمون على متابعتها ما أن نشرع في بثها . وإنّي لآمل أن تساهم بشكل جيد في تنوير عقول الاجيال الجديدة الصاعدة . مع حلقة اليوم يكون لدينا خمس حلقات جاهزة .. بذلك يكون لدينا متسع لتسجيل المزيد من الحلقات .. ما رأيك أن نبدأ البث اعتبارا من الأسبوع القادم .

- ممكن .

- وأي ساعة نبث الحلقة ؟

- اعتقد أن الحادية عشرة قبل منتصف الليل وقت مناسب جدا .

- ما رأيك أسيل ؟

- وأنا أيضا أعتقد ذلك .

- هل يكون البث اسبوعيا أم نصف شهري أم كل عشرة أيام مثلا .

- أفضل اسبوعيا وفي يوم محدد . ويمكن أن يعاد في اليومين التاليين خلال أوقات محددة .

- وهو كذلك ؟ وسنبدا الاعلان اعتبارا من اليوم . كنتما أنت وأسيل رائعين .. أحييكما..

*****

احتسينا القهوة في مكتب المدير . ومن ثم دخلنا إلى الأستوديو . ما أن انتهيت من المقدمة حتى شرعت في الحديث إلى الأستاذ محمود أبو الجدايل :

- أستاذ محمود . رعم تطرقنا إلى الأسس التي يقوم عليها مذهب وحدة الوجود ، إلا أن فهم المذهب ما يزال صعبا ، فوحدانية الخالق والخلق ، عسيرة على فهم معظم المشاهدين من نواح مختلفة ، فكيف يكون الخالق في قرد مثلا ، أو بعوضة ، أو ذبابة ، أو ما شابه ، هذا ما يخطر ببال المؤمنين لإيمانهم بخالق منزه عن الوجود والخلق ، حين يتم التطرق إلى مذهب وحدة الوجود ، وأنه ليس في الوجود إلا الله . ماذا نقول لهؤلاء الناس ؟ وكيف نُفهمهم؟

- المشكلة تكمن في عدم فهم الناس للمذهب، وخاصة بعد أن صوّر الاعتقاد التقليدي الله منزها عن الوجود بجلوسه على عرش في السماء السابعة ، وأن عملية خلق الكائنات تتم بأمر إلهي ، ليكن كذا فيكون ، وفي هذه الحال قد يتقبلون خلق الله للقرد والبعوضة والذبابة ، لغاية لا يعرفها إلا الله نفسه ، وقد لا يتقبلون ، فبعضهم أو حتى معظمهم يكرهون ويحتقرون هذه المخلوقات وغيرها مع أنها من خلق الله حسب فهمهم . ولو أنهم فكروا في عملية الخلق لوجدوا انها لا تتم بشكل فوري ، بل يحتاج بعضها إلى سنين طوال ليكتمل خلقه، كخلق الانسان مثلا . فهو يحتاج إلى أكثر من تسعة أشهر في رحم المرأة ، ويحتاج إلى ثمانية عشر عاما خارجه ليكتمل نموه. ولم يتم الفعل بأمر إلهي بل نتيجة مواقعة بين ذكر وأنثى. وبالتالي فإن عملية خلق قرد وبعوضة وذبابة لم تتم كذلك أيضا ، وربما تمت خارج إرادة إلهية . لكن وانطلاقا من فهمهم المستند إلى أوامر إلهية عليا، لا يتقبلون أن يكون الله مجسدا في قرد أو بعوضة ، وهذا ما لا أتقبله أنا أيضا ، فحسب هذا الفهم يكون في الوجود آلهة بعدد ترليونات ترليونات المخلوقات . وأنه يحق لكل مخلوق أن يقول أنا الله ، كما سبق لبعض المتصوفة أن قالوا . المسألة ليست هكذا .. الخالق طاقة عقلانية غير طقمادية كما أسلفنا بثت في الكون منذ نشأته ، تتم بها عملية الخلق دون التحكم المطلق بها ، لأن مسألة التحكم المطلق لم يتم تحقيقها أو التوصل إليها بعد ، ما حصل خلال أربعة عشر مليار عام من عمر الوجود هو تحكم نسبي وليس مطلقا . والحديث هنا عن طاقة وليس عن خالق أو إله ، وما استخدام التعبيرين إلا مسألة مجازية . لذلك نشأ في الكون وسينشأ كائنات كثيرة لا ضرورة لها . وإذا ما أردنا أن نخضع هذا الفهم إلى تجسد أو تجلّي خالق أو ألوهة في الكائنات ، فإنه يمكن القول أن الخالق لا يرى نفسه في البعوضة والذبابة، وربما في القرد أيضا ، كما لا يرى نفسه في انسان قبيح وشرير ، رغم أن هذه المخلوقات تمت بفعل طاقته الخالقة السارية في الكون. الخالق لا يرى نفسه إلا في الجمال والخيروالمحبة ولا يرى نفسه في الشر والقبح والظلم، فأينما وجد الجمال ، وجدت الألوهة في تجليات مختلفة في الطبيعة، من النهر إلى البحرإلى الجبل إلى الوردة إلى الشجرة إلى الانسان . هل وضحت المسألة ؟

- أعتقد أنها واضحة لي ، وأمل أن تكون واضحة للمشاهد .

- أنت يا أسيل جميلة جدا وتحملين قدرا ما من جمال الألوهة، لكنك لست الله ، ولن تكوني ، فكيف يمكن أن تكون البعوضة أو الذبابة أو القرد ، إلهاً . حتى الفهم الصوفي البدائي لا يقبل هذا الحمق. الوجود كله لله دون أن يكون كل كائن فيه يحمل قدرا من الالوهة، رغم سريان طاقة الألوهة أو طاقة الخلق فيه .

- يخطر لي تساؤل هنا حول فهم المتدينين لمسألة الوجود لله ، كيف يفهمونها؟

- على الاغلب لأن الوجود في نظرهم فان رغم أنه من خلق الله ، وحين يفنى الوجود لن يبقى غير الله في عليائه.

- لكن العلياء أيضا وجود وقد يفنيها الله مع الفانين إذا ما أراد .

- أين سيجلس إذا ما أفناها؟

- لا أعرف . قد يكون روحا لا تحتاج إلى مكان!

- أصبحنا أمام فهم آخر أقرب إلى العدم ، فهل تكون الروح في العدم ؟ هذا إذا كان هناك روح!

فالروح حسب فهمي هي طاقة الحياة . وليست حالة مجردة.

- وأنا أيضا لا أعتقد بوجود روح في العدم .. سندخل إلى عملية الخلق من باب آخر. لقد سبق لك أن قلت أن الكائنات تخلق نفسها بنفسها بفعل الطاقة الناجمة عن العناصر المادية التي توفرت لها وتفاعلها مع طاقة الخلق الكلية السارية في الكون . إلى آخر القاعدة .. هل لك أن تضرب للمشاهدين مثلا يوضح هذه النظرية ؟

- لنأخذ خلق الانسان مثلا . خلق الانسان تم من مادتين تتمثلان في مني الرجل وبويضة المرأة . هاتان المادتان ينجم عنهما طاقة تتفاعل مع الطاقة الخالقة السارية في رحم وجسد المرأة وفي الكون . فإذا كانت المادتان صالحتين ينجم عنهما كائن انساني سليم ، وإذا كانت إحدى المادتين غير صالحة لسبب ما ،لن ينتج خلق عنهما ، أو ينتج خلق مشوه . ليس هناك مواد إلا وينتج عنها خلق ما .. وخاصة الكائنات الحية .. حبة تين أو أي حبة فواكه أو خضار في مطبخ بيتك ينتج عنها خلق ما إذا ما خمجت.. افتحي حبة التين ستجدين يرقات أو دودا قد تشكل فيها . ليس لأن الله قال ليكن كذا في حبة التين هذه ، بل لأن المواد التي تتكون منها حبة التين يتولد عنها طاقة تتفاعل مع طاقة كونية سارية ينجم عنها خلق . الأمر كله ينطبق على كل المواد في مطبخ بيتك وحتى على جسدك .. لا تستحمي لبضعة أشهر ستجدين أن القمل قد غزا جسدك .. وهذا القمل لم يأت من خارج جسدك بل من داخله. والأمر كذلك بالنسبة لكل ما يخلق من كائنات حسب المواد التي توفرت لها .. فلا تتوقعي أن يُخلق أرنب أو كلب في مجرى صحي ، ما سيخلق صرصار أو فأر أو كائنات أخرى . رغم وجود ستة عناصر أساسية تتوفر في جميع الكائنات الحية من البكتيريا إلى الإنسان ، ومع ذلك يكون الخلق مختلفا لوجود عناصر اخرى .

- ما هي هذه العنصر؟

- الكربون والكبريت والأكسجين، الهيدروجين والنيتروجين والفسفور.

- وماذا عن المواد الأخرى التي ينبغي أن تتوفر لخلق انسان مثلا؟

- مواد كثيرة .. من أهمها الكالسيوم المغنيزيوم البوتاسيوم الصوديوم الكلور الحديد.

الخلاصة في عملية الخلق، أنها لا تتم بشكل مباشر بين خالق وما يخلق، بل عبر طاقة سارية ، وليس هناك خالق يقف على رأس كل شبر في الكون ليخلق فيه كائنا أو كائنات ما .

- يبدو لي أن مشكلة العقل البشري أنه اعتقد بوجود إله دون أن يعرف ما هو الله ، وما هو جوهره ، وهل هو مجسد أم مجرد ، وإذا كان مجسدا ففي ماذا ، وإذا كان مجردأ ومنزهاً فكيف ولماذا؟ . ثم ما هي غايته من الوجود ومن الخلق ؟ وهل هو منفصل عنه أم مجسد فيه ؟ حين يجد الانسان اجابة لكل هذه الأسئلة وغيرها كثير، يمكن أن يؤمن بنوع الإله الذي اقتنع بوجوده !!

- هذا ما أحاول الاجابة عنه في فلسفتي . التي أدرك تماما أنها اجتهاد وليست حقائق مطلقة . لكنها اجتهاد قابل للنظر فيه كونه يستند إلى العلم والمنطق ، وليس إلى الأساطير والخرافات.

- استاذ محمود ، ما رأيك أن نختتم هذه الحلقة بقصيدة لك في مذهب وحدة الوجود.

- ممكن . كتبت قصيدة في المذهب قبل قرابة عشر سنوات وقد تحتاج إلى تغيير بعض التعابير فيها على ضوء ما تم من تأملات لاحقة لي.

القصيدة بعنوان :

إمّا أنت أو لا أحد .



أحسست بدنو الأمد
وأنا الوحيد دون أحد
هتفت باسمه من عمق الجراح
مثل لي بجلال مقتصد
همست: هل لي ببوح يعتمد؟
قال : قل ما لم يقله أحد
وأكمل رسالتك
فلن تعيش إلى الأبد .
*****
قلت : أشهد أن لا إله إلا أنت
إنك " الواحد الأحد "
وإنك " الله الصمد "
وإنك " لم تولد ولم تلد "
" ولم يكن لك كفوا أحد "
*****
قال: لقد قيل هذا من قبل!
أضفت : وأشهد أنك الطاقة
السارية في الخلق
فإما أنت أو لا أحد
****
وأن الإنسانية حبيبتك
وإنها إليك تستند
وأنت عليها تعتمد
عشق الأحبة متبادل
بنبض القلوب
وآهات الروح
ورعشة الجسد
*****
لا يكتمل الحبيب إلا بالحبيب
فلا اكتمال بحب منفرد
سعي الخلائق إلى الكمال
بسعي الخالق يتحد
فإما كمال يعم الخليقة
وإما انتهاء إلى الأبد
*****
قال: أحسنت إذ اجتهدت
فالإجتهاد حق معتمد
فأنا في الهي والنحن والهم كنت
والهي والنحن والهم
في أناي تتحد
فلا معزل لفرد عن كل
ولا معزل لكل عن فرد
تنزهت باسمي " الله"

ولا تنزيه غير ذلك يعتمد
*****
أنا في الهيولى البدئية كنت
دون أن يكونني أحد
أوجدت نفسي بنفسي لنفسي
دون أن أدري ما الغاية
وما القصد ؟
وبقيت دهوراً كامنا
لا أدري إن كنت أدري
ما اريد ، وما لم أرد
كجنين في رحم أم
غافل عما يستجد
*****
إلى أن ضاق بي الكمون
وضقت به، فانفجرت
محطما جدران الهيولى
التي عنها انبثقت
لأنتشر في كون شاسع
حدوده لا تحد
ولينبثق معي الخلق
كائنا من رحم المهد
فكل كائن كان في
وفي كل كائن كنت
فانا الكينونة دون حد
وآفاقي لا تحد
فليس للحد مني حد
ولا حد حيث كنت
أنا " الله " أل بلا حد
****
لا غنى للخليقة عني
ولا غنى لي عن الخليقة
فنحن الواحد في الكل
والكل في الواحد يتحد
*****

- كلام جميل ورؤيا أجمل . ونأمل أن يكون فهم مذهب وحدة الوجود قد وصل إلى المشاهد . شكرا استاذ محمود . وإلى مشاهدينا الأعزاء أقول دمتم بخير وإلى اللقاء بكم في حلقة قادمة.

*****

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى