أقف تجاه الصورة، أتأملها شاخص البصر، أتأمّل الملامح التي كم أحببتها. أخذني الحنين؛ أسرعت وتناولتها، جلست متكأ للوراء تسرح بي خواطري فيما يشبه الحلم، إلى اللحظات الأخيرة قبيل وفاتها :
ــ كيف أنت ياجدّتي؟
ــ كيف أنت ياجدّتي؟
كان أبى قد أعدّ لها غرفة خاصة، بها مروحة كهربائية وتلفاز. لكنها ظلت تحكى لى عن مملكتها التي تغيرت بشىء طارىء غريب.. بيتها القديم منذ دخولها إياه، ذكرياتها الحلوة التي مرت بها، التي توقن تماما أنها لن تعود؛ لكنها تعيش بداخلها.. شونة التبن ومواشينا كيف كانت تنظف تحتها تمسك مرابطها وتقول:
ــ هذه مرابط الخير بدارنا.
الفرن البلدي وما كانت تصنعه بها من أشهى الأطعمة. أروقة البيت الثلاثة والبسطة والكانون وكيف كانت تنضج به الشاي المغلي اللذيذ والوابور الكبس فإذا جنّ الليل فاللمبة نمرة خمسة للطابق الأسفل حيث مواشينا ونمرة عشرة للأروقة. الفراخ والبط والأوز التي تربيها على سطوح الدار.
أثار حديثها أشجاني وأرجعني لسنوات طفولتي الغالية.. إلى فكرة هدم البيت وإعادة بناءه من جديد؛ التي رفضها جدي في شىء من الإحتجاج والغضب :
ــ طوب أحمر وأسمنت وحديد.. هذا اسمه جلب للأمراض وليس بناء بيت .عندما يواريني الثرى افعل ما بدا لك.
وأنهى حديثه قائلا:
ــــ انتهى الكلام في الموضوع.
لملم شاله وأصلح عمامته ثم توكأ عصاه وغادر للمسجد بعد أن سمع صوت الآذان يتردد وبقي أبي ساهما على المصطبة يفكّر .. وكنت ألعب في التراب تحت النخلة وعلى امتداد الأفق كانت الغيطان رابضه في هدوء وسكينة وما لبثت أن صحت:
ــ أبي لا تهدم البيت.
قام فزعا ونهرني. فأسرعت ولذت بجدتي.
ــ قد يكون والدك محقا فى كلامه يا بنى ــ يريد الوسع ــ لكن هذا البيت صحيح هو من الطوب اللبن. سقفه من جريد النخيل والطين ذو ثلاثة أروقة فقط لكنه يدفئنا فى الشتاء ويدخل علينا نسيم الهواء الجميل في الصيف إنه يعطينا الصحة والبساطة والحب.
كانت الشمس تميل للغروب، أقف في ذهول، دموعى تسقط كالمطر ولا تريد أن تقف.
كانوا يوارونا جدي الثرى.. أبي يقف وسط الصف واجما يتقبل العزاء. لم اصدق أن جدي مات بل قلت:
ــ إنه يعيش تحت الأرض وسوف يعود.
لكن لم تلبث جدتي أن قضت على أملي:
ــ لا يابني؛ ذهب عند رب كريم، لن يعود.
الأيام تمر.. يحضر أبي الطوب، الأسمنت والحديد، ثم يهدم البيت فتتلاشى معه سعادتنا.
ابتنينا بيتا متعدد الطوابق؛ كل طابق شقة بها حمام ومطبخ، ثلاثة غرف وشرفة
كان البيت نظيفا وتكلف اموالا طائلة تكفل أخي الأكبر المتغرب في دول الخليج والأوسط في ليبيا بمعظمها.
لكن أول الشاكين كانت جدتي فعندما جاء الصيف جعل المنزل يخزن الحراة والصهد
أتى أبى لها بمروحة كهربائية قالت:
ــ إنها تفتت جسمي وتجعله مخزنا للأمراض.
وحين أتى الشتاء كانت أجسادنا داخل البيت تعوي من الصقيع، فكرنا فى المدفأة الكهربائية لها وهى قالت :
ــ عظم ذرة الشامي الذي كنا نوقده فى المجمرة ولا يكلف مليما.. أين هو؟
عزفت عن التلفزيون أيضا وأضحى الراديو مؤنسها الوحيد.
استيقظت من حلم يقظتى و اعتدلت بجلستي وأنا أغالب دموعي وعبثا تحاول النزول
مسحت من على الصورة ماعلق بها من تراب وعلقتها وذكريات بيتنا القديم بقلبي في أرفع مكان.