مصطفى عطية جمعة - لعبة الخيال والصورة والتلقي في الفنون السردية

إن وظيفة الاستراتيجية في النقد الأدبي، تقوم بتنظيم سبل قراءة مادة النص، وتنظر في الظروف والسياقات التي تم توصيل تلك المادة في ظلها إلى المتلقي، وهو ما يكون حاضرا في وعي القارئ، فالقارئ يدخل في السرد ضمن عملية إيهام واسعة، فإذا كان النص تاريخيا في حقبة ما، فإنه يبدأ في الولوج في هذه الحقبة، وفق استعداد مسبق لكونه نصا تاريخيا؛ والأمر نفسه إذا كان النص خياليا، هناك متعة كبرى لدى القارئ وهو يتلقى النص، ويعيش في أجواء خياله.
وذلك ما يُسمّى في التلقي «لعبة الخيال»، فالأديب والقارئ ينبغي أن يشتركا في هذه اللعبة، ولا تصح اللعبة إذا زاد النص عن كونه مجموعة من القواعد الحاكمة. وتبدأ متعة القارئ حين يصبح هو نفسه منتجًا، أي حين يسمح له النص بإظهار قدراته في فهم النص والغوص فيه، مع الأخذ في الحسبان أن هناك حدودا لاستعداد القارئ للمشاركة، ويتم تجاوز هذه الحدود إذا جعل النص كل شيء أوضح، مما ينبغي، أو من ناحية أخرى بأن يكون أكثر غموضا مما يجب، فالملل والإرهاق هما قطبا التهاون، وفي كلتا الحالتين يميل القارئ إلى الخروج من اللعبة. اللعبة هنا أخذت أبعادا عديدة، فهي تُبنى على الإيهام في التلقي ثم تتوقف على إجادة السارد لهذا الإيهام من خلال قدرته على جذب المتلقي إلى عالمه، ومن ثم يعشق القارئ هذا العالم المقدّم إليه، فيمكن أن يعيد إنتاجه بطريقته، إما بحكيه لمن حوله أو يصوغه صياغات أخرى إذا كانت أحداثا تاريخية مشوقة مثلا.
لذا، فلابد أن تكون هناك استراتيجية للتلقي يفهمها الأديب مؤلف النص، وتعتمد على أن النص يتألف من مادة منتقاة من أنساق اجتماعية، وتقاليد أدبية، بمعنى أن الأديب حين يكتب فإنه يكتب وفق ما تعارف عليه القراء، ومن الممكن أن يفهموه، سواء كان مقالة أو قصة أو رواية، فإذا شذّ الأديب في إبداعه، وجاء نصه غامضا، فلا تتوقع أن يفهمه القارئ، بل سيمجّه ويرفضه. وهنا نصل إلى مفهوم الأنساق الاجتماعية والتقاليد الأدبية، الذي يعني مجموعة منتقاة من المعايير الاجتماعية، التي تمثل أخلاقا وقيما متعارفا عليها بين أبناء الثقافة الواحدة، والتقاليد الأدبية؛ التي تضع العمل في سياق مرجعي، فتقاليد كتابة المقال معروفة ومتوافق عليها، وكذلك تقاليد كتابة النص السردي، وهو ما يفهمه القارئ ويعيه خلال قراءته.
فقضية أن ينتج القارئ النص مرة أخرى هي واقعة وحقيقية، ونجدها بكثرة في عالمنا اليومي، بالمرويات التي نحكيها عن أنفسنا، أو عن الآخرين، أو عما شاهدناه أو قرأناه أو عاصرناه، وعلى قدر استيعاب القارئ للمادة المسرودة، وأنها تشكل أهمية في وعيه، على قدر ما سيعيد تقديم وحكي هذه المادة مع الآخرين. والأمر يتطور أكثر، عندما نتأمل عالم الأدب الشعبي مثلا، فهو يعتمد في السرد ـ وسائر فنونه القولية ـ على التناقل الشفاهي من جيل إلى جيل، ومن فرد إلى آخرين، وظهرت خلال ذلك مهمة الراوي/ الحكّاء، الذي يسرد على الناس السير الشعبية بشكل بارع، يجمع بين القصص والشعر والغناء، ومن ثم جاءت مرحلة التدوين، التي هي صورة للتلقي النهائي، لما وصل إلى المدوّنين من السير الشعبية لدى المتلقين.
تتبقى إشكالية مهمة في هذا المضمار، تتصل بأن السرد يقدّم صورا ذهنية، من خلال الأبنية اللغوية التي يُعرض من خلالها، فعملية الفهم تنتج عن وجهة نظره الشاردة، التي تنظم انتقال النص إلى العقل الواعي القارئ، وتغير الرؤى ووجهات النظر يقسّم النص بصورة ثابتة إلى بنية من التوتر القبلي والاسترجاع، مع ظهور التوقع والذاكرة كل فوق الآخر، أما النص نفسه فليس توقعا ولا ذاكرة، فالقارئ هو الذي يجمع شتات ما فرقته وجهة نظره الشاردة، من خلال التراكيب والعلامات والعلاقات، ويبدأ خيال القارئ في تنظيم عملية الإسقاط والتجميع والتلقي.

إنه بُعدٌ محوري في تلقي النصوص السردية، ذلك أن النص أساسه اللغة، فعلى قدر قوة إدراك المتلقي للغة، واستطاعته فهم التراكيب اللغوية والإشارات والمفردات، يتوقف مستوى فهمه. فكلها تصوغ الأحداث وتقدم الشخصيات، ويبقى جهد القارئ الفكري في جمع شتات الفكرة والحدث، والترتيب الزمني، ودور الشخصيات ومدلول العمل، وكلها كما نرى صور ذهنية، تترسخ في الذهن بشكل مجرد، والذهن يتخيلها في ضوء ما تلقاه عبر اللغة. يقال هذا لأن تلك الصورة الذهنية يمكن أن تكون بصرية، عبر السرد البصري (السينما والمسلسلات والمسرح)، وبالطبع لن تغيب اللغة، ولكنها ستكون وسيلة بمعية صور مرئية، تساهم في إيصال المعنى، فالفيلم السينمائي فيه صور متحركة مع حوارات أو تعليقات لغوية، وبالتالي يكون الإدراك أكثر ارتباطا بما يقدم عبر الصورة، فلن تكون الرسالة أو الأحداث متخيلة، بل ذات إسقاط مباشر من العمل الفني نفسه، وتترسخ في الذهن وفق هذا الإسقاط. وإن كان البعض يرى أن الصور البصرية تعد إفقارا للصورة الذهنية، فحين ننحي الكتاب (الحاوي للنص المسرود) جانبا، نمرّ بنوع من الاستيقاظ، لأن النص استغرقنا، فعلينا أن نخرج من إساره الذهني إلى العالم الواقعي.
أما الصورة البصرية المتحركة فهي عالم واقعي بذاته، تُقَدَّم للعقل بدون كد ذهني للتصور من جانب العقل. وهذا الرأي ينتصر للصورة الذهنية الناتجة عن القراءة، ولكنه يهمل أن التلقي يعتمد – في حالة السينما أو المسرح مثلا ـ على حواس أخرى غير حاسة العين وفهم اللغة فقط، وهذا ـ في رأينا ـ ليس إفقارا للصورة الذهنية، بل إغناء لها، لأن الأحداث ستترسخ في الذهن والوعي، عبر صور أقرب للواقعية، ولكن بمنطق الإيهام الفني، الذي يقبل طواعية أن يدخل أجواء العمل السردي المعروض صورة وصوتا.
إن مفهومي الإيهامي واللاإيهامي في الفن الدرامي مرتبطان بنظرية التلقي على المستويين الداخلي (النص) والخارجي (العرض)، كما أن التقاء هذين المستويين يشكل بدوره علاقة تفاعلية مع المتلقي في كل (الأزمان والأماكن والأعمار)، فإن الافتراض الفني لدى المتلقي هو منطق خاص بعلاقة (دال) فني بـ(مدلول) واقعي، وبالتالي يتقبله المتفرج وهو في حالة من الافتراض الفني، ما يتيح مساحة لمنطق مفترض دائماً، محملين على تصديق ما يعرض والوثوق به، بل الاقتـــــناع به حتى لو كان خياليا، وفي النهاية فهو افتراض فني مؤقت، لأنه يمكن أن يرى الأحداث نفسها في عمل آخر، فهناك أفلام سينمائية تمت إعادة إنتاجها مرات، وفـــي كل مرة كانت تحقق نجاحات، وهذا عائد لوعــــي القارئ، الذي لا يقف عند بصريات معينة، بل يقــــبل أن تتغير، رغم وحدة الأحداث. بجانب أن هناك جماليات أخرى، تتذوقها الحواس المختلفة، وتستلذ بها، مثل الموسيقى والغناء والديكورات والاستمتاع بالأداء التمثيلي.
والجدير بالذكر أن عناصر تكوين الأداء الدرامي تحوي نموذجا للمعرفة كفعل Knowledge as Action ، وتسعى إلى الاستفادة من أنماط المصادر المختلفة، والمكونة للعمل الفني مثل: عنصر صوتي (الكتابة الدرامية)، مركب صوتي جسداني متفاعل، علاقة متطورة لعناصر تمثيل الآخر، علاقة متطورة لموضوع العرض المسرحي، مركب جسدي ومعرفة استطرادية لنماذج المسرح، وهناك حالة من الوعي العام لدى المشتغلين بالفن الدرامي، وهو فن بصري أساسه أنهم يقدمون فنا ماديا وتصويريا لفترة محددة، يمكن أن تتم فيه إعادة التجديد، أو إعادة التقديم بطرق فنية وأدائية مختلفة وجديدة في آن. وبذلك، نتعامل إيجابيا مع الصورة البصرية في السرد، فهي تغذي الوعي والحواس والإحساس.

٭ كاتب من مصر




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى