هبة آلسهيت - مقاربة لقصة “أمومة” للكاتب الكبير المستشار بهاء المري..

أول ما نلاحظه في القصة أن الرؤية من الخارج: فمعرفة الكاتب قليلة أمام معرفة شخصياتِهِ لأحداث النص، فبالرغم أنّه الكاتب إلّا أنّه أقل علمًا بالأحداث من الشخصيات التي ابتكرها. واختيار هذا النوع مناسب لموضوع القصة .

والقصة هي قصة سيدة في الستين ، أحبت شابا من سن أحفادها ، وأقبلت عليه إقبالا أدى إلى تحريك واستفزاز عناصر الضبط الاجتماعي، والتي هي قيم الجماعة التي تتحول إلى أنظمة وقوانين وأعراف تلتزم بها الجماعة في نشاطها وسلوكها ، ويعتبرون من يخالفها مذنباً يستحق العقاب ، وبدأت الأقاويل والنظرات ، و الاستهجان من تصرفاتها ، تظهر للعلن ، تدينها وتتهمها ، والسيدة غير آبهة لهذا الحراك الاجتماعي المضاد لها ، بل ربما لا تراه ، وازدادت في مخالفة هذه الأنظمة الاجتماعية ، بل وتحديها ، فهي تنتظر الشاب ، وتقله في سيارتها ، وترتدي زي التنس لتلاعبه ، وخاصة أن الشاب أقبل عليها واستجاب لها ، مما جعل الأمر أكثر استفزازا لأدوات الضبط ، ثم تأتي القشة التي قصمت ظهر البعير يوم أن احتضنته بشغف وحرارة بعد فوزه بطريقة تعدت احتمال الناس ، فبلغوا الأمر إلى أم الشاب ، التي أتت لتنفيذ حكم المجتمع في هذه المرأة العاصية المتمردة ، فكان هجومها يمثل هجوم مجتمع كامل ، غاضب ورافض لخرق أعرافه وقوانينه، فألقت في وجهها بالعصير ، ونعتتها بأشنع النعوت ، إلى هنا ، والسرد يجعل القارئ يتعاطف مع المجتمع بل ويثور لخرق أعرافه ، لنأتي إلى قمة الحدث ، حيث تسقط السيدة المسنة ميتة ، ونعرف أنها فقدت ابنا لها يشبه هذا الشاب ، ولم تستطع احتمال فقدها لابنها ، فانكرت موته ، وعوضته بهذا الشاب الشبيه لابنها ، فكانت تعامله كما تعامل ابنها المفقود ، وكان الشاب يحتاج الى أم بدوره بعد أن انشغلت عنه أمه بشئونها ونزواتها ، فتلاقت الحاجات التعويضية لدي الطرفين ، فاكتملت العلاقة ، بين حاجة امرأة لابن وحاجة الشاب لأم ، حتى إذا واجهتها الأم الحقيقية بأنه ليس ابنها ، هنا مات ابنها الثاني ، أو شعرت الان بموت ابنها الأول والذي استبدلته بهذا الشاب ، فلم تحتمل الفقد ، وأسلمت الروح .

السردية تنعي مجتمعا قاسيا ، وأعرافا متكلسة صماء ، لا ترى غير القبح ، ولا تتعامل بغير الاتهام ،ولا تتلمس الأعذار ، ولا تبحث عما خلف الظواهر ، بل تحكم بقسوة دون أن تعطي الفرصة لتلمس بواطن الامور ، واستكشاف حقائق المشاعر .

السردية تنعي الوعي الواقعي ، وتبشر بوعي ممكن ، بوصف “لوسيان جولدمان”، ذلك الوعي الذي يجسد الطموحات القصوى التي تهدف إليها الجماعة. و هو المحرك الفعّال لفكر الجماعة، وهو الذي يرسم مستقبلها،وهو الوعي الذي يمتلكه الأدباء متجاوزين الواقع ومبشرين بوعي أخر يتعالى عن الواقع . تبشر بوعي يسوده المحبة والتسامح ، والابتعاد عن الأحكام ، والتنميط ، يبشر بتغيير في التقاليد تتناسب مع عصر تجاوز الكثير من التقاليد الاجتماعية التي تجاوزها الزمن ، وتجاوزتها أحوال المجتمع وواقعه . تبشر بوعي يجعل من عناصر المجتمع نسيجا مترابطا دون ان يفرض على اعضائه قيودا تكبل حريتهم ، وتعرقل ارواحهم عن الانطلاق في فضاءات الحب والمشاعر الإنسانية الراقية .

جاءت السردية بلغة رصينة سهلة ، جري فيها تحاور ومفارقة بين الأنثى والذكر ، المسنة والشاب ، المقهورة بالفقد في مواجهة المجتمع وقواعده وأعرافه المتصلبة ،كل ذلك في إطار من التشويق ، وفي حبكة تهز المشاعر ، بين الغضب من خرق القواعد الاجتماعية و الحزن الأسيف على ظلم المرأة ، واستطاع السرد أن يشرك القارئ في ظلم المرأة ، ويستشعر في قلبه بالذنب لاشتراكه في هذا الظلم وقسوته . فعاش القارئ بوجدانه في القصة وكأنه عنصرا ضمن عناصر القصة ،مشاركا في الحكم عليها نادما على ما أصابها من جراء حكمه المتعسف ، والناتج عن عملية التنميط المسبقة ، والأحكام الجاهزة ، النابعة من وسائل الضبط الاجتماعي التي نشأ وتربى عليها.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى