عمرو البطا - المعطف.. قصة قصيرة

متى يأتي الشتاء؟​
منذ أن خرجت من الجامعة وتلك الذبابة تتبعها؛ تقف تارة على وجهها، وأخرى على كفها، وثالثة على رأسها. تهشها فتعود، تركب الميكروباص فتصحبها. الجو خانق، والشمس تزغلل عينيها، وتصهر رؤوس المارة، وتحرق وجهها الذي لم يعد يجدي معه الكريم المضاد للشمس.​
هي لا تضع مساحيق التجميل قط، تخجل أن يراها أحد ووجهها ملطخ بالألوان. كانت أحيانا تتخفى وتحاول وحدها أن تضع تلك المساحيق، ثم تفزع حين تنظر في المرآة.. ليست هذه أنا! وتسارع في مسحها. تتأمل دائما أختها الكبرى وهي تتفنن في وضع مساحيق التجميل يوميا. هي لا تشبهها في شيء، أمها وكل العائلة يعرفون أن الكبرى جميلة بيضاء، والصغرى طيبة وغلبانة، الكبرى لبقة خفيفة الظل، والصغرى خجول قليلة الكلام.​
ولأنها حاولت مع نفسها، لم تطع أختها قط كلما حاولت أن تضع على وجهها مساحيق التجميل، وتردد دائما أن هذه المظاهر لا تهمها ولا تحب لفت الانتباه. تكتفي فقط بوضع الكريم المضاد للشمس للحيلولة دون المزيد من احتراق البشرة من ناحية، ومن ناحية أخرى ليصبغ لونه الأبيض بشرتها السمراء كبديل لمساحيق التجميل. لم تستجب لأختها في وضع تلك المساحيق إلا مرة واحدة فقط في فرح ابنة عمتها منذ بضعة أشهر. أحست وقتها أن الجميع ينظر إليها ويضحك، فلم تتمالك نفسها. في منتصف الحفل تسللت إلى الحمام وغسلت وجهها، ثم عادت منكمشة على كرسيها إلى أن مرت الليلة في هدوء.​
حين صعدت إلى بيتها كانت تتفصد عرقا، وكانت الذبابة لا تزال تتبعها. ضجيج أخويها الصغيرين يزيدها صداعا إلى صداعها، وهما لا ينصاعان لكلام أحد. تدير المروحة على أقصى سرعة وترتدي ملابس خفيفة. لا تجرؤ على تشغيل مكيف الهواء، فلو فكرت في ذلك لما سلمت من لسان أمها وشكواها من فواتير الكهرباء. تتساءل في نفسها: لماذا اشترينا مكيف الهواء إذن؟ أليكون واجهة أمام الضيوف فقط؟ لكنها تبقي تساؤلها -ككل شيء- طي صدرها.​
تفتح أمامها أوراق المذاكرة، وتسرح بخيالها بعيدا. عيناها على الأوراق وذهنها شارد بعيد. تقول إنها لا تستطيع التركيز بسبب ضجيج أخويها، لكنها تعرف جيدا أن البيت لو كان في صمت القبور فلن تستطيع التركيز أيضا، ولا تعرف لذلك سببا واضحا. ما أن تضع أمامها الأوراق حتى يرتسم أمامها عالم مستقبلي ساحر. تتخيله ذات يوم يختلس إليها النظرات من بعيد، ثم يصل إليها صدفة ما يفضي به إلى أصدقائه عن حبه لها، يقول إنها من اللآلئ النادرة التي لا يعرف قيمتهن إلا من يغطس إلى الأعماق ويستخرجهن من أصدافهن، يقول إنه يخجل أن يفاتحها في الأمر ولا يعرف من أين يبدأ. وأحيانا يشطح بها الخيال إلى أحداث درامية ساذجة تخجل من نفسها كلما تذكرتها.​
كل يوم تجلس في ركن المدرج وحدها. تدور بعينيها باحثةً عن زميلة، حتى تقع عيناها على مجموعة بنات واقفات. تهش الذبابة التي لا تفارقها، ثم تندسُّ بينهن صامتة، تشاركهن بإيماءات طفيفة، وعبارات مقتضبة، وبسمة مزمنة. تنصت لحكاياتهن الملأى باللاشيء، ويقتلها الفضول عندما يتكلمن بالرموز والنظرات والهمسات. تجهد عقلها في محاولة فض ألغازهن دون أن يتغير تعبير وجهها، غالبا ما تفشل في فهمها، وإن استطاعت أن تلملم شذراتها مكونةً صورةً شبه واضحة عما يدور في الكواليس.​
حين تراه تجد نفسها تنزوي بعيدا رغما عنها، يحتقن وجهها خجلا، وتخشى أن يلاحظ أحد اضطرابها. هو وسيم، طويل القامة، مشرق الوجه، على شفتيه ابتسامة لا تفارقه. هو يعامل الجميع بود واحترام، وفي المرات القليلة التي حدثها كان كلامه ساحرا، لكنها لم تستطع الرد؛ عقل لسانها الحياء، ولم تبتدر منها إلا تلك الإيماءات اللعينة. أتراه يبادلها الإعجاب؟ تستبعد أن يكون في قلبه شيء تجاهها، لكن أملا خفيا لا زال رابضا داخلها.​

*​

ما بال الشتاء قد تأخَّر!​
القيظ لا زال يتحدى الأنفاس الملتهبة، رغم أن البرد قد حلَّ موعده رسمياً.​
أوصدت على نفسها الباب، ثم استخرجت من الدولاب معطفها الصوفي الذى اشتراه عمها من أوروبا وأهداها إياه الربيع الماضي، فادخرته لهذا الشتاء. المعطف كأنه فُصِّل خصيصاً من أجلها. لونه الأسود يشعُّ دفءاً وأناقة. تقف أمام المرآة مرتديةً إياه. تربط حزام المعطف، وتتحسَّس خصرها.. لكم يظهر ذلك المعطف جمالها الخفي! لم تظهر تلك الدهون المتراكمة على جانبي خصرها والتي تؤرقها وتجعلها ترتدي ملابس فضفاضة لتواريها. تلك الدهون التي لا تنقص منها ذرة واحدة مهما حاولت تنحيف نفسها، ها هي الآن لا أثر لها، تلاشت تماما، ولم يبق إلا فراشة محلقة.​
حلَّ الشتاء، فصل التفرّد والوحدة، وهما حرفتاها التي لا تضاهى فيهما...​
صباحات الشتاء تكون مشبعة بالخمول والفتور. صمت وسكون لا يقطعهما إلا حركات كسول وأصوات ناعسة، وهو ما يكفيها لمعرفة ما يدور في الأذهان بعيداً عن الصخب والتشويش. وفي الصمت تُحدِثُ إيماءاتُها الخجلى وعباراتُها الخافتة وقعاً أقوى.​
حين ارتدت المعطف أول يوم انهالت عليها عبارات الإطراء من كل الزميلات، وأطل الإعجاب من كل العيون. رأته من بعيد يطيل النظر إليها، فانكمشت وتوردت وجنتاها. هي لا تحب لفت الانتباه كما تقول، لكن الانتباه هذه المرة التفت إليها رغم أنفه وتعلق بقوامها الممشوق. أحست وهي تتمشى في أروقة الجامعة أنها نجمة متلألئة تلاحقها كاميرات الصحافة.​
لكن فتاةً لعينةً ظهرت فجأةً لتفسد عليها شتاءها الدفيء...​
في ذلك الصباح فوجئت بها تدخل مرتدية معطفاً يشبه معطفها تماماً، إلا أنه كان أحمر اللون. أيوجد مثل تلك الأنواع في مصر؟ بالتأكيد هو مقلَّد. راحت تحوم حولها محاوِلةً التقاط الماركة دون أن تثير انتباه أحد، لم تحب أن تقترب منها لتسألها عنه حتى لا تغتر تلك الفتاة بمعطفها المقلد، لا سيما وأنها كانت تتجنب دوما مخالطة تلك الفتاة المولعة بالاستعراض والتي لا تعرف الحياء. أثارها ما التقطته مسامعها من إطراءات أصدقائها على المعطف، حتى هو أبدى إعجابه بأناقتها ولازمها طوال اليوم، فألقى جمرة في قلبها المسكين.​
يومٌ يمرُّ في إثر آخر، وكلتاهما تجيء بمعطفها، ولا جديد. في الظهيرة غالباً ما يكون الجو دافئا بعض الشيء، فتخلع ذات المعطف الأحمر معطفها، وتطويه جوارها، وعند ذهابها إلى الكافيتريا في الاستراحة بين المحاضرات تتركه على المقعد. إلا أنها عندما عادت في ذلك اليوم فوجئت ببقعة حبر سوداء كبيرة على المعطف، ومن حولها تنتثر عدة بقع أقل حجماً. صرخت، وبكت متسائلةً عن الفاعل. جذبت صيحاتها الأنظار، وتوجه إليها الأصدقاء، ووحدها في الركن تجلس ذات المعطف الأسود بعيدةً عن العيون والشكوك، ترقب ما يحدث بجانب عينها بنظرة غامضة، وقد أحست بالدفء يغمر قلبها من جديد.​

*​

جالسةٌ هي في الشرفة غارقةً في خيالاتها، وأخواها الصغيران يلعبان في أرجاء البيت. يدخلان غرفتها، ويتقافزان فيها، يمسكان المعطف المعلق بإتقانٍ على الشماعة. يضحكان، ويتجاذبان المعطف كلٌّ من ذراع. لكن الذراع اليمنى انفتقت في يد أكبرهما فجأةً، ولم يعد يصلها بباقي المعطف إلا بعض الخيوط الواهية!​
انقطعت ضحكاتهما، ووجما فترةً دون حراك، ثمَّ قرَّرا أن يعلِّقا المعطف مكانه، وكأنهما لم يفعلا شيئاً. خرجا من الغرفة بهدوء يكتمان ضحكاتهما. ظلا يحومان بين الغرفة والشرفة حيث تجلس أختهما، إلى أن تجاسر الأصغر مدفوعاً بفضول طفوليٍّ، ودخل الشرفة إليها متبوعاً بأخيه، لكنهما وقفا فجأةً يحملقان فيها والذهول يلجم لسانيهما ويجمِّد أوصالهما!​
لقد وجدا ذراعها اليمنى متدليةً غارقة في الدماء، مقطوعةً عن جسدها، ولا يصلها به إلا جلدةٌ واهية. كان الجرح ينزف بغزارة حتى أغرق ملابسها وأرضية الشرفة، بينما تجلس هي محدِّقةً في الفراغ بوجه شاحب بائس، وكأن شيئاً لا يحدث!​
ويبدو أنها قد أحسّت بهما أخيرا، فالتفتت إليهما بنظرة جوفاء، ثم عاودت التحديق باستكانةٍ في الفراغ مسلمة شفتيها للذبابة لتقتات منهما دون مقاومة، والدماء لا زالت تنسكب منها، وثمة أهدابٌ صوفيةٌ سوداء تطلُّ من ثنايا الجرح مشبعةً بالدماء القانية!​

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى