سعد عبد الرحمن - الذئب وتجلياته في الشعر العربي القديم.، الجزء الأول

المقدمة
مقولة إن " الشعر ديوان العرب" في الواقع ليست مقولة مجازية كما يتعامل معها بعضنا ، فقد كان الشعر بالفعل منذ أن ظهر في العصر الجاهلي و لعدة قرون من الزمن بعد ذلك هو وسيلة الإنسان العربي لتصوير و تسجيل كل شيء يراه و يسمعه و يشمه و يلمسه و كل ما يفكر فيه و ما يعتقده ؛ و كان الشعر من أهم وسائله و أدواته في نقل معارفه و عاداته و قيمه المتوارثة إلى الأجيال التالية ؛ حتى أساطيره و خرافاته و تخيلاته و أوهامه ، و قراءة الشعر العربي لا سيما في عصور نهضته و ازدهاره قراءة متأنية متأملة تتيح لنا معرفة الكثير عن حياة الإنسان العربي في بيئته التي عاش فيها و أغلبها بيئة صحراوية كان يتنقل فيها من هنا إلى هناك وراء مساقط الأمطار و منابت الكلأ.
و تمتلئ قصائد الشعر العربي في تلك الأزمنة بالحديث عن الكثير من حيوانات الصحراء و وصفها سواء المستأنسة منها مثل الناقة و الحصان و الكلب و غيرها ، و المفترسة كالأسد و الضبع و الثعلب و الذئب و غيرها.
و قد حظي الذئب في تاريخ الشعر العربي بعدد كبير من النصوص كان هو محورها أو موضوعها الرئيسي ، و بعض هذه النصوص يسطع من حيث قيمته الوجدانية إلى مستوى عال من المثالية الإنسانية و يحلق من حيث قيمته الفنية إلى آفاق رحبة و ذرى ياذخة من الجمال و الجلال ، و قبل أن ندلف إلى عوالم بعض تلك النصوص ينبغي أن نتعرف قليلا على هذا الحيوان و نلم ببعض المعلومات المهمة عنه .
" الذئب " بشكل عام حيوان ثديي لاحم ينتمي من حيث النوع إلى " الكلبيات " و كشف علم الأركيولوجي " الحفريات " عن أن الذئب وجد على الأرض منذ أكثر من 300 ألف سنة أي أنه كان ضمن الأحياء التي أفلتت من كارثة الانقراض الجماعي التي وقعت في نهاية العصر الجليدي الأخير ، و من سماته انه حديد السمع و البصر ، ذو حاسة شم قوية ، شرس ، عصي على الاستئناس ، كثير الحركة فلا يطيل الإقامة في مكان واحد ، له أرجل طويلة و فكان قويان ، لا يأكل الجيف ، ذو قدرة كبيرة على تحمل الجوع ، و قد ذكره الجاحظ في موسوعته " الحيوان " فقال : إنه لا يعرف إلا اللحم و أنه يصطاد الحيات ، و الذئب يستطيع العدو لساعات طويلة ، اجتماعي أي يعيش في بيئته على شكل قطعان ، و من سماته أيضا الذكاء الحاد و القدرة على التنظيم و التخطيط ، بعض فصائله يصل طول الواحد منها إلى حوالي المترين و طول ذيله إلى نصف المتر و ارتفاعه ما بيت ستين إلى خمسة و ثمانين سم و وزنه إلى ثمانين كجم .
و تتعدد فصائل الذئب بحسب البيئة التي يوجد فيها و أهمها فصيلتا الذئب الرمادي و اسمه العلمي ( CANIS LUPUS ) و الذئب الأحمر ، و الأولى هي التي ينتمي إليها الذئب العربي أو بتعبير أكثر دقة الذئب الذي يعيش في الصحراء العربية ، و ما يميز الذئب العربي عن سائر ذئاب فصيلته الرمادية أنه صغير الحجم ، قليل الوزن ؛ له أذنان كبيرتان بالقياس إلى حجمه ، و لا يعيش كسائر الذئاب في شكل قطعان في الأغلب الأعم إلا خلال فترة التزاوج ، و صوت الذئب يسمى " عواء " و الفعل منه ثلاثي معتل الوسط و الآخر أي " لفيف مقرون " ، تقول : عوى الذئب يعوي و اسم الفاعل " عاو " و منه قول الأحيمر السعدي :
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى
و صـــــوت إنســــــــــــان فكدت أطير
و للذئب تجليات كثيرة في الميثولوجيا و الأديان و الحكايات الشعبية و حكايات الأطفال و من أشهر تلك التجليات قصة نبي الله يوسف و إخوته و قد ورد في سفر التكوين أن " بنيامين ذئب ضار " ، و حكاية الذئب و العنزات الثلاث ، و حكاية الذئب و الحمل ، و قصة ذات الرداء الأحمر ( من حكايات الأخوين جريم ) ، و حكاية الأعرابية التي ربت الذئب و حكاية أهبان الذي كلمه الذئب ( من حكايات التراث العربي ) ، و ذئب الإله " أنوبيس " عند قدماء المصريين ، و الذئب في أسطورة آل أسينا التركية ، و الذئبة المرضعة في أسطورة ريموس و أخيه رومولوس مؤسس مدينة ( روما ) ، و الذئب الإله الحارس لمدينة أسيوط ( مصر ) ، و ثمة حكايات كثيرة بطلها أو أحد أبطالها الذئب في خرافات الحكيم اليوناني إيسوب و حكايات كلية و دمنة لابن المقفع و أمثولات الشاعر الفرنسي لا فونتين و غيرها ، و في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي تجليات كثيرة وشتى لهذا الحيوان المفترس ، و لأنه من الحيوانات التي اعتاد الإنسان العربي رؤيتها و التعاطي معها في بيئته الصحراوية القاسية فقد استطاع أن يحيط بكثير من صفاته و سلوكياته و منها ما كان يعده العربي من الصفات و السلوكيات الإيجابية التي تستحق المدح و الإشادة مثل الجرأة و الشجاعة و الذكاء و اليقظة و الحذر و القدرة على تحمل الجوع و الأنفة و الترفع عن أكل الجيف و من ذلك قولهم في الأمثال و يراجع في ذلك " مجمع الأمثال " للميداني و " حياة الحيوان " للدميري : أجرأ من ذئب و أنشط من ذئب و أحذر من ذئب و أخف من رأس ذئب و أبر من ذئبة ( في علاقة الذئبة بجرائها ) ؛ و منها ما يعده العربي من الصفات و السلوكيات السلبية التي تكره فتذم و يحذر منها مثل الغدر و الخبث و العقوق و من ذلك قولهم في الأمثال : أغدر من ذئب و أخبث من ذئب و أعق من ذئب ( في سلوك الذئاب مع من جرح من رفاقها ) ، و في هذا السياق يشبه طرفة بن العبد شخصا بالذئب فيقول :
فتى ليس بابن العم كالذئب إن رأى .. بصاحبه يوما دما فهو آكله
و يخاطب الفرزدق أحد مهجويه معيرا إياه بأنه كان كالذئب في التجرؤ و الفتك بأصحابه قائلا :
و كنت كذئب السوء لما رأى دما .. بصاحبه يوما أعان على الدم
؛ و قولهم : من استرعى الذئب فقد ظلم ؛ و في الحديث الشريف : " ما ذئبان عاديان أصابا فريقة غنم أضاعها ربها بأفسد فيها من حب المرء المال و الشرف لدينه " ، و في الحديث الشريف أيضا : " إياكم و الفرقة ؛ إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية " ، و من ذلك أيضا قول المعاصرين : إذا دعيت إلى مأدبة الذئاب فاصحب كلابك معك ؛ و قولهم أيضا : من لم يستذئب أكلته الذئاب ، و ما زال الذئب حتى الآن ملهما للإنسان في الأدب و الفن فنجد اسمه يتردد في أعمال أدبية و روائية و سينمائية كثيرة أجنبية و عربية مثل : موت الذئب ( قصيدة لألفريد دي فيني ) و الذئب ( قصيدة لأنسي الحاج ) و في حضرة الذئب ( قصيدة لأحمد دحبور ) ، و كونشرتو الذئب ( ديوان لهاشم نديم ) و ذئب الأربعين ( ديوان ليوسف عبد العزيز ) و ذئب البراري ( رواية لهيرمان هيسه ) و ذئب البحار ( رواية لجاك لندن ) و الذئب الهرم ( قصة رمزية قصيرة لجوتهلد إفرايم لسنج ) و عندما تشيخ الذئاب ( رواية لجمال ناجي ) و ضجر الذئب ( ديوان ليوسف أبو لوز ) و لن أرقص مع الذئاب ( ديوان ليحيى عمارة ) و ذئب المضارع ( ديوان لنضال برقان ) و عواء الذئب ( ديوان لعلي فودة ) و مثل ذئب أعمى ( ديوان لأسامة الدناصوري ) ، و ذئاب لا تأكل اللحم ( فيلم عربي من إنتاج 1973 ) و ذئاب الجبل ( مسلسل تلفزيوني عربي من انتاج 1992 ) و الراقص مع الذئاب ( فيلم أمريكي من إنتاج 1990 ) و الذئب الأبيض ( فيلم كارتون أمريكي من إنتاج 1993 ) و الذئب المحارب ( فيلم صيني من إنتاج 2015 ) ، و ثمة عشرات بل مئات النصوص الشعرية و النثرية و الأعمال الفنية يرد فيها اسم الذئب و بعض أوصافه و سماته السلوكية و أغلبها يجيء على سبيل الرمز ، و يجمع اسم " الذئب " على ذئاب " و " أذؤب " و" ذؤبان " و هذا على سبيل التمثيل لا الحصر ، و يصف العرب الذئب بأنه " كلب البر " و يشبهون لصوصهم من طوائف الصعاليك و الخلعاء و الفتاك بالذئاب لذلك كانوا يلقبونهم بـ " ذؤبان العرب " كما يشبهون الريح عندما تهب من كل جانب به فيقولون " تذاءبت الريح " أي فعلت فعل الذئب حين يعسل في مشيته ( أي يمشي مضطربا ) ، و قد خلع العرب على الذئب عدة ألقاب و كنى مثل أوس و أويس و سرحان و السيد و العملس و العسال والأزل و الأطلس و الأطحل و ذؤالة و أبو جعدة و أبو كاسب و أبو مذقة و أبو ثمامة و غيرها و بعضها كما هو واضح مشتق من صفاته التي خبروها فيه ، و كانوا يسمون أبناءهم ببعض أسمائه " ذئب و ذؤيب و أوس و سرحان " و هكذا ، و قد ورد اسم الذئب صريحا في كثير من الأشعار من مثل قول الراجز :
حتى إذا جن الظـــــــــلام و اختلط .. جاؤوا بمذق ، هل رأيت الذئب قط ؟
و مثل قول الفرزدق في إحدى قصائده :
بيت يرامي الذئب دون عياله .. و لو مات لم يشبع من العظم طائره
و مثل قول ذي الرمة في هذا البيت :
به الذئب محزونا كأن عواءه .. عواء فصيل آخر الليل محثل
و مثل قول ابن الرومي في إحدى قصائده :
و شاعر أجوع من ذئب .. معشش بيــــن أعاريب
و يذكر عمرو ذو الكلب الهذلي الذئب باسم " أويس " حيث يقول :
يا ليت شعري عنك و الأمر أمم .. ما فعل اليــــــوم أويـــــــس بالغنم
و في معلقة طرفة بن العبد يذكر الشاعر الذئب بلقب " السيد " حيث يقول :
و كري إذا نادى المضاف محنبا .. كسيـــــد الغضا نبهتـــــــه المتورد
و يشبه طفيل الغنوي حصانه بالذئب فيذكره أيضا بلقب " السيد " حين يقول :
كسيد الغضا الغادي أضل جراءه .. علا شرفا مستقبل الريح يلحب
و قد ذكر امرؤ القيس الذئب في معلقته باسم " سرحان " مع الإشارة إلى شكل من أشكال عدوه حيث يقول في سياق وصفه لحصانه :
له أيطلا ظبي و ساقا نعامة .. و إرخاء سرحان و تقريب تتفل
وقد رد بالبيت أربع صفات جيدة يذكرها الشاعر لحصانه منها أنه يعدو عدوا هادئا مسترسلا يشبه عدو السرحان أي الذئب.
و يذكره الصعب بن علي الكناني من خلال ثلاث صفات من صفاته هي " أزل ؛ أطلس ؛ ذو نفس محككة " و الأخيرة تعني تكراره حك جلده و ربما تعني كثرة حركته أي عدم استقراره على حال حين يقول :
أبلغ فــزارة أن الذئب آكلهم .. و جائع سغب شر مـــــن الذيب
أزل أطلس ذو نفس محككة .. قد كان طار زمانا في اليعاسيب
و يذكر أعرابي الذئب من خلال مجموعة صفات يعرف بها هي خبثه أي دهاؤه و سرعة عدوه ( عينه فراره ) و لونه الأطلس الرمادي و سرعة فتكه و قوة افتراسه ( في فمه شفرته ) و أن البهم هي فرائسه المفضلة :
هو الخبيث عينه فراره .. أطلس يخفي لـونه فراره
في فمه شفرتــه و ناره .. بهم بني محارب مزداره
و يذكر الطرماح الذئب بشكل غير مباشر من خلال بعض صفاته مثل اعتياده الحياة في القفار ( أخو قفرة ) و تحمله لظروف المناخ و الجوع ( يضحي بها و يجوع ) فيقول :
تأوبني فيها على غير موعد .. أخو قفرة يضحي بها و يجوع
و يذكره الأخطل من خلال بعض صفاته ( أطحل ، أخو مرة ، بادي السغابة ) حين يقول مصورا فتك الذئب بشاة حبلى :
يشق سماحيق السلا عن جنينها .. أخــــو مرة بادي السغــابة أطحل
إن الذئب - كما سبق أن ذكرنا - محور نصوص شعرية كثيرة أو موضوعها الرئيسي و تنتمي تلك النصوص إلى عدة عصور بدءا من العصر الجاهلي و مرورا بعصر صدر الإسلام و العصر الأموي حتى العصر العباسي ، و كل نص منها يصور علاقة الشاعر صاحب النص بالذئب من زاوية أو عدة زوايا معينة ، و قد اخترنا جملة من أهم تلك النصوص يمكننا أن نتعرف من خلالها على بعض مظاهر تجليات الذئب في شعرنا العربي القديم :



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى