سعد عبد الرحمن - الذئب و تجلياته في الشعر العربي القديم.. الجزء الثاني

1 - ذئب امرئ القيس : نص امرئ القيس الذي يصف فيه الذئب نص قصير لا يزيد عن ثلاثة أبيات تروى كجزء من معلقته الشهيرة التي يقول في مطلعها :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل .. بسقط اللوى بين الدخول فحومل
يحكي امرؤ القيس في نصه القصير أنه اجتاز في أثناء إحدى رحلاته بالصحراء واديا خاليا من الناس و في الوادي التقى بالذئب ، كان الذئب جائعا يعوي من شدة ما به من الجوع كأنه خليع تبرأ منه أهله و عشيرته فلا يدري ماذا يفعل ليطعم نفسه و عياله ، و تخيل امرؤ القيس أن الذئب يشكو إليه جوعه و يطمع أن يجود عليه ببعض الطعام يعالج به ألم الجوع فأجابه - و كأن الذئب يفهم كلامه - بأنه ليس لديه ما يطمع فيه و أنه مثله فقير لا يجد ما يكفيه من الطعام ، و سبب ذلك أن كليهما مبذر متلاف لما يقع بين يديه ، هو يضيع ما يحصله من مال على الشرب و اللهو مع الأصحاب و الندمان والذئب كذلك لا يعرف كيف يوفر شيئا مما يصيده للأيام العجاف ، إنه كما عرف عنه يأكل من فريسته حتى يشبع و لايعود إليها فتأكل ما تبقى السباع الأخرى و الجوارح أو يفسد ، إنهما متشابهان في التبذير و الإتلاف فلا عجب أن يكون كلاهما أعجف هزيلا من قلة الغذاء :
و واد كجوف العير قفر قطعته .. به الذئب يعـوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عـــــوى إن شأننا .. قليـــل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئا أفاته .. و من يحترث حرثي و حرثك يهزل
و الأبيات الثلاثة من وجهة نظري ليست جزءا أصيلا من معلقة امرئ القيس بل أرجح أنها مقحمة على النص ، و هي مع اختلافات طفيفة جدا موجودة في نص تأبط شرا كما سنرى عند التعرض لنصه و لكنها من وجهة نظري هي أليق و أنسب بنص تأبط شرا منها بنص امرئ القيس .
و على أية حال فمثل هذا التداخل بين النصين أمر شائع في الشعر العربي القديم و الأمثلة عليه أكثر من تحصى و أهم أسباب تلك الظاهرة أنه شعر سبق عصر التدوين فانتقل من فم مؤلفه إلى الناس عن طريق الرواية الشفاهية و نظرا لتعدد الرواة مع تعدد مروياتهم عن شعراء آخرين كان من الطبيعي أن يحدث التداخل بين النصوص الشعرية لا سيما تلك التي تتفق في البحر و القافية و من الأسباب أيضا التي ساعدت على شيوع هذه الظاهرة أن القصيدة العربية القديمة و في العصر الجاهلي على وجه الخصوص كانت تفتقر إلى الوحدة الموضوعية فتتعدد فيها الموضوعات و يخرج الشاعر من موضوع إلى آخر دون أي سبب منطقي أو مبرر فني .
2 - ذئب تأبط شرا :
نص تأبط شرا الذي يتحدث فيه عن الذئب جزء من قصيدة طويلة نسبيا و يتكون من سبعة أبيات ، ثلاثة منها نجدها في معلقة امرئ القيس ( الأول و الثالث و الرابع ) مع استبدال ( شأننا ) بـ ( ثابتا ) في البيت الثالث و لكن الأبيات كما سبق أن ذكرنا أليق و أنسب بنص شاعرنا الصعلوك منها بنص الملك الضليل :
و واد كجوف العــــــير قفر قطعته .. به الذئب يعــــــوي كالخليــع المعيل
تعدى بزيـــــــزاة تعج مـــــن القوا .. و من يك يبغي طرقة الليـــــل يرمل
فقلت له لمــــــا عـــــــوى إن ثابتا .. قليــــــل الغنى إن كنـت لمـــــا تمول
كلانا إذا مـــــا نال شيــــــــئا أفاته .. و من يحترث حرثي و حرثـك يهزل
كلانا طوى كشحا عن الحي بعدما .. دخلنا عـــــلى كلابهم كــــــــل مدخل
طرحت له نعلا مـــــن السبت طلة .. خلاف ندا من آخر الليــــــل مخضل
فولى بها جــــــزلان ينفـض رأسه .. كصاحب غـــــــنم ظافـــــر بالتحول
في الأبيات كما نرى يحكي تأبط شرا أنه و هو يجتاز الصحراء رأى الذئب الذي كان يعوي متألما كما يعوي الصعلوك الذي خلعته قبيلته و تبرأت منه ومن أفعاله و لكنه صاحب عيال ليس لهم من يعولهم سواه ، الوقت كان ليلا و لا يفعل ذلك إلا المضطر لنفاد زاده و حاجته الماسة إلى الطعام .
و تتداخل صورة الذئب الجائع بصورة تأبط شرا فكلاهما يعاني من قلة الزاد و كلاهما منفرد عن أهله و ذويه ، و من خلال ظاهرة شائعة في الأدب بشكل عام و الشعر على وجه الخصوص هي ( عقلنة ما لا يعقل ) أي التعامل أحيانا مع الحيوان و الطير و الجماد على أنها تعقل و هي شبيهة بظاهرة ( الاستحياء ) عند الأطفال أي خلع صفات الكائن الحي على الجمادات و يسميها بعضهم بظاهرة " التشخيص " يحاول تأبط شرا أن يقنع الذئب بعدم جدوى متابعته و مراقبته ، فيكلمه كشخص عاقل قائلا له ليس لدي أيها الذئب ما تبتغيه من الطعام فأنا رزقي قليل محدود و لا أبقي منه شيئا مثلك بالضبط و كلانا لهذا السبب نحيل هزيل ، و كلانا أيها الذئب لم يصب شيئا من أهل الحي الذي أغرنا عليه و راوغنا كلابهم كل المراوغة .
و يبدو أن الذئب من شدة الجوع استمر في متابعة شاعرنا و مراقبته لعله يجد منه غرة فيفتك به أو يخطف ما يظن أنه معه من طعام ، لذلك لجأ تابط شرا إلى الحيلة ليدفع عنه خطر هذا الحيوان المفترس فألقي إليه بنعله المبللة بندى آخر الليل و الذئب من شدة جوعه عدا بها بعيدا و هو فرح بالغنيمة المزيفة ، و البيت الأخير من نص تأبط شرا نجده في نهاية نص المرقش الأكبر القادم : الشطر الأول بألفاظه دون أي اختلاف إلا في أن هذا يقول ( آض ) و ذاك يقول ( آب ) و كلاهما بمعنى واحد ، و الشطر الثاني بمعناه دون ألفاظه فتأبط شرا يقول : ( كصاحب غنم ظافر بالتحول ) و المرقش الأكبر : ( كما أب بالنهب الكمي المخالس ) .
3 - ذئب المرقش الأكبر :
نص المرقش نص قصير كنص امرئ القيس فهو عبارة عن ثلاثة أبيات من إحدى قصائده يحكي فيها بإيجاز أنهم أوقدوا النار لينضجوا لحم طعامهم فلما أضاءت النار و انتشرت رائحة الشواء اجتذبت إليهم رائحة الشواء ذئبا وصفه الشاعر بأنه أطلس أي رمادي اللون بائس من شدة الجوع ، يقول المرقش فألقينا إليه قطعة من اللحم المعد للشواء مبررا ذلك بأنهم استحوا أن يأكلوا وحدهم و يتركوا هذا الضيف البائس جائعا ، و يرسم المرقش في البيت الأخير صورة مدهشة للذئب الذي عاد جزلان سعيدا بما ألقي إليه من الطعام كما يعود الفارس الشجاع من غزوته جذلان بما حازه من غنائم و أسلاب ، و قيمة نص المرقش الحقيقية على وجازته فيما يحمل من قيمة إنسانية رفيعة تتمثل في تعاطف الشاعر مع الذئب رغم معرفته به كحيوان مفترس و لكنه في نهاية الأمر كائن حي ، لقد أحس الشاعر بما يعانيه الذئب من قسوة الجوع و رق لهذا الوحش البائس فلم يجد غضاضة في أن يشاركه بعض زاده :
و لما أضأنا النار عنــد شوائنا .. عرانا عليها أطلس اللـــون بائس
نبذت إليه حزة مــــــن شوائنا .. حياء و ما فحشي على من أجالس
فآض بها جذلان ينفض رأسه .. كما آب بالنهــــب الكمي المخالس
4 - ذئب الشنفرى :
نص الشنفرى الذي يتحدث فيه عن الذئب هو جزء من قصيدته الشهيرة المسماة بـ " لامية العرب " و هي قصيدة طويلة و تعد من عيون الشعر العربي .
يرسم الشنفرى في الأبيات لوحة رائعة يتلبس فيها حالة الذئب الجائع الذي ينتقل من مكان إلى آخر في الصحراء بحثا عما يسد به رمقه من الطعام ، يعدو الذئب الذي أنهكه الجوع مع الريح في شعاب الجبل مضطربا ، و حين لا يجد ما كان يرجوه من الطعام يعوى فتجاوبه ذئاب تعاني و تشكو مثله ألم الجوع و كأن الشنفرى يحسد الذئب على أن له من يشاركونه معاناته ، و يصف تلك الذئاب حين جاءت بأنها نحيلة هزيلة من قلة الزاد تتحرك في اضطراب و كأنها " قداح " غير مستقرة في يدي مقامر يستقسم بها ؛ أو كأنها زمر النحل الهائجة أثارها بعيدانه النحال ، و يستطرد الشاعر في وصف تلك الذئاب الجائعة فيتحدث عن أشداقها التي تشبه شقوق العصي اليابسة في تكشيرها و قبح منظرها ، و تعاوى ذئب الشنفرى و من جاءه من القطيع في الأرض الفسيحة فكان المنظر مهيبا بدا مثل مأتم تتناوح فيه نساء ثكلى ، ثم لما لم يجد ذئب الشنفرى جدوى من العواء اضطر إلى السكوت و اقتدت به سائر الذئاب ، و أخيرا ولى قطيع الذئاب من حيث جاء و راح يواسي بعضها بعضا و يؤازره على كتمان ما به من ألم الجوع و يشجعه على الاعتصام بالصبر الجميل ، و لنص الشنفرى أبعاد نفسية رمزية تتعلق بمشكلته كصعلوك دفعه الفقر و الجوع و قسوة قلوب الأهل و الأقارب إلى أن يكون ذئبا أو مثل الذئب يغير على الغافلين و المنفردين من الناس ليحصل منهم على ما يهدئ به سعار جوعه ، و لو أن أهله أولوه قليلا من اهتمامهم لما استبدل بصحبتهم صحبة الوحوش المفترسة ، لقد ضاق الشنفرى ذرعا بقومه لأنهم قساة جاحدون لم يقيموا وزنا لأواصر القربى ووشائج النسب و اضطرته معاملتهم الجافية له إلى حياة الصعلكة ، لذلك فهو يرى أن الوحوش المفترسة أقرب إليه و أرحم به منهم ، و يفسر ذلك في البيت التالي حيث يقول :
و لي دونكم أهلـون سيد عملس .. و أرقط زهلـول و عرفاء جيأل
هم الأهل لا مستودع السر ذائع .. لديهم و لا الجاني بما جر يخذل
و ضمير الجمع" هم " في بداية البيت الثاني يعود إلى ( السيد العملس أي الذئب و أرقط زهلول أي النمر و عرفاء جيأل أي الضبع ) أهل الشاعر الجدد الذين استبدلهم بأهله القساة الجاحدين ، و فيما يلي الأبيات التي رسم فيها الشنفرى لوحته الرائعة للذئب شبيهه :
و أغدو على القــــــوت الزهيد كما غدا .. أزل تهـــــــــــاداه التنائــــــف أطحل
غدا طاويـــــا يعارض الريـــــــح هافيا .. يخـــــوت بأذناب الشعـــــاب و يعسل
فلما لواه القــــوت مـــــن حيــــــث أمه .. دعا فأجابتــــــــــــه نظائـــــــــر نحل
مهلهلة شيــــــــــب الوجـــــــــوه كأنها .. قـــــــــــــداح بكفي ياســـــــــر تتقلقل
مهرتة فـــــــــوه كأن شــــــــــــــدوقها .. شقـــــــوق العصي كالحــــات و بسل
فضج و ضجــــــت بالبــــــــراح كأنها .. و إياه نـــــــوح فـــــــوق عليـــاء ثكل
و أغضى فأغضت و اتسى و اتست به .. مراميـــــل عـــزاها و عــــزته مرمل
شكا و شكت ثم ارعوى بعد و ارعوت .. و للصبـــــر إن لم ينفع الشكـــو أجمل
و فاء و فــــــــــاءت بادرات و كــــلها .. على نكـــــظ ممــــــا يكاتـــــــم مجمل
هوامش :
1 - امرؤ القيس ( 126 - 85 ق.ھ ) هي الكنية التي اشتهر بها حندج بن حجر بن الحارث الكندي ، و كان يكنى أيضا بذي القروح ، و من ألقابه التي عرف بها كذلك الملك الضليل ، كان أبوه ملكا على أسد و غطفان و قد تبرأ منه لإدمانه حياة اللهو و الصعلكة ، و يعد امرؤ القيس رأس الشعراء الجاهليين و من أشهر معلقات الشعر الجاهلي قصيدته التي يقول في مطلعها :
قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل .. بسقط اللوى بين الدخول فحومل
2 - تأبط شرا ( توفي عام 95 ق.ھ ) هو لقب شاعر من أشهر شعراء الصعاليك و عدائيهم في العصر الجاهلي ، اسمه الصريح ثابت بن جابر من قبيلة فهم ، و ثمة عدة روايات تفسر سبب تلقيبه بتأبط شرا أشهرها أنه خرج يوما و تحت إبطه سيف و لما جاء أحدهم يسأل عنه أجابته أمه : تأبط شرا و خرج .
3 - المرقش الأكبر ( توفي 72 ق.ھ ) لقب عرف به الشاعر الجاهلي المتيم عمرو و قيل ربيعة بن سعد بن مالك بن ضبيعة ، يعد من شعراء الطبقة الأولى في العصر الجاهلي و قد لقب بالمرقش - كما يروى - لقوله في إحدى قصائده :
الدار قفر و الرسوم كما .. رقش في ظهر الأديم قلم
و وصف بالأكبر تمييزا له عن ابن أخيه المرقش الأصغر .
4 - الشنفرى ( توفي عام 100 ق.ھ ) هو اللقب الذي عرف به الشاعر الجاهلي ثابت بن أوس الأزدي ، من فتاك العرب و أشهر صعاليكهم و عدائيهم ، يعد من الخلعاء و هم أولئك الشباب الذين خلعتهم عشائرهم و تبرأت منهم لخروجهم على أعراف القبيلة و عاداتها .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى