ع-
بيتٌ من الطينِ خلفَ النهرِ،
نافذةٌ تمشي إلى حقلَيْ كُرُنبٍ وباذنحانَ ،
وامرأةٌ تروي لصورتِها في البئر شيئاً ،
وتمضي نحو صورةِ زوجِها الذي لم يعدْ فوق الجدارِ ،
وأنت َ مثلما كُنتَ
ترمي رُكبتيكَ على عشبٍ تمهّلَ في النموّ.
لا أحدُ
يغيظ ، بما يأتيك َ، يومَكَ
إلا من رآكَ ولم يمدحْ مكوثكَ في كلامِكَ القديمِ طويلاً
تحتَ غُرتّكَ الأولى التي اتسختْ ، مثلكَ ، بالرياحِ،
ونظرةِ الغريبِ ،
وخوفِ المارّة المائلينَ ، في الحديثِ ، على أجسادِهمْ
من سذاجةِ المُخبِرِ الثرثارِ .
لا أحدٌ
من سارقِيْ جمرةِ القِرى ،
ورُواةِ الشائعاتِ ،
وطُرّاقِ الليالي اللذين لم يعثُروا عليكَ في غرفِ الموتى ،
وأحفادِ حفّارِي القبورِ،
يعكّرونَ رائحةَ الوردِ التي صاحبتْ يديكَ في انتظارِ صبايا الحيّ .
لا أحدٌ
يُهينُ صَوْتَكَ ذاكَ إذ تُنادي على القتلى
سوى من رمى على الضوءِ في عينيكَ ظلاً ثقيلاً .
..
غير أنكَ مثلما كُنتَ
ترعى الماءَ في النهرِ حتى يكبرَ العشبُ والحصى .
ويأنَسُ الهدهدُ الأعزلُ ، مثلكَ ، بئرَ البيتِ ،
والمرأةُ التي رأتْ زوجَها بين النعوشِ الحياةَ ما استطاعتْ سبيلاً.
ب-
أكتفي بالقليلِ من الماءِ والخبزِ
، يا نهرُ ،
خذني على قارِبيْ الورَقِيّ معَكْ .
لأطلّ على ذاكراتِ النوارسِ في بحرِ يافا.
كأنّ أصابعَ أمّي تراني برائحةِ البُرتقالِ هناكَ
وأحجارها لا تزال تئنّ بصدرِ أبي كالرحى .
لست ُ أكثر من ألم ِالضوء
ذاك الذي مسّني بين عيني َّ ، ثمّ امّحى
أكتفي بالقليل ِ من الشمسِ
قد أكتفي بالهواءِ القليل ِ ، بما عافَ
طير ُ البراري الحزين ، فخُذني
لأحملَ عنكَ الذي أوجعَكْ .
د-
أرتدي بين حربينِ خُوذةَ جدّي التي كلحتْ منذ حربِ فلسطينَ فوق الجدار ِ
لأكبرَ في خلسةٍ عنهما
وأردُّ السلامَ على قبرِهِ في حديثِ السُلالةِ ، وحدي
لأرجعَ ، من حيثُ جئتُ ، إلى صورتي معهُ في الإطار ِ.
وما كنت ُ ذاك الذي خصّه ُ بالعباءةِ والسيف ِ عند الشريطِ الحدوديّ
لكنني صرتُ أُشبِههُ
غير أنّ يديْ هرمتْ في مصافحة ِ الغرباءِ
وعيني ّ لم تعرفاني ، كما كانتا ، بعدما انتهت ِ الحرب ُ ..
...
يا ليتني متّ ، مثلك ِ يا جدّتي ، قبل هذا الحصار ِ
أ-
وعلى سبيل الحب ّ
أحلِقُ ، مُطمئِنّاً للذي سأقولُ ، ذقني خمسَ مرّاتٍ ،
وأكوي ، مرّتينِ ، جيوبَ بنطالي و كُمّ قميصيَ الكُحليّ.
مبتهجاً بكفّي في يديكِ وأنتِ تعترفينَ لي بالحبّ ،
أرقُصُ حول ظلّي ، مثل درويشٍ يُصعّدُ في السماءِ ،
مُبشَّراً بروائحِ النعناعِ في عينيكِ
في المرآةِ
حين أظنّ أني قد أعانق في الطريقِ إليك ظلّكِ .
كم أُحبّكِ كي أُحبّكِ يا امرأةْ .
وعلى سبيلِ الحبّ
أكتب لي رسائلَ ، باسمك ِ السِريٌ منكِ
لأرتقي ، بفمي ومزماري ، على عُشّاقكِ
المتقلٌبينَ على المضاجعِ
كلٌهم
مثلي أنا
بين الشموع ِ المطفأةْ .
ل-
أشتري بلحاً يتجوّل بين يدٓي ْ باعة ٍ يمنيّين مالت خناجرُهمْ في الظهيرةِ مثل ظلالِهُمُ الوافقات ِ
على جنباتِ بطونِهم ُ الواقفةْ .
وأعدّ على صاحبِ المتجر ِ الحلبي ّ الذي أشهد َ الله أن لفُستقِه طعمَ نارنجة ِالشام ِفي شهر مايو ثلاثَ قروشي الأخيرة ،
تلك التي خِلتُها ثروةً للسلالة ِبعدي .
ولكنني لم أجدك ِ على ضفّةِ النهرِ تنتظرين َ بمريولك ِ المدرسي ّ ،
تعضيّن ذيلَ جديلتكِ الخائفةْ .
كان بعضُ الرعاة يهشّون قطعانَهمْ بالحصى ،
ويغنّون أهزوجة الغجرِ المائلينَ على الريح ِباللهجة ِ البدويّةِ ،
فيما الخراف ُ تؤنّب ُ كلباً يراقبها بثغاء ٍ يرق ّ على الماءِ ِمثل ظلالِ شُجيرة ِ دُفلى انحنى ظهرُها وهي تبحثُ عن وجهِها في مرايا المياهِ .
لعلّي تأخّرت ُ حتّى رأى العابرونَ جيوشاً من النحل تهبط تلك الجبال ِ ،
وتبني بيوتاً على البلح ِاليمَنيّ الذي شاخ ٓ بين يدي ّ ،
ولم أستطعْ أن أهش ّ قبائلَ نملَ البراري عن الفستق ِ الحلبي ّ ..
أضعت ُ هنا ، في انتظارك ِ ، مُلكي ومملكتي
بينما ، لا تزالين كل مساء ٍ ، تعدّين ذاك العشاءِ الأخيرَ لزوجِك ِ
ثم تجيئين ، قبلي قليلاً وبعدي كثيراً ، إلى ضفّةِ النهرِ ،
تنتظرينَ ، وأنت تعضّين دمعتك ِ الراعفةْ .
كان وعدكِ
مثلكِ
نرجسةً زائفةْ .
ل-
غن ّ للبنتِ في ثوبِها المدرسيِّ
فلا تتعجّل أيامَها
نضجت نكهةُ اللوزِ في فمها ،
وأحلّت لعشاقِها سِدْرةَ المشتهى
في ظلالِ مفاتيحِ فردوسها الأربعة ْ.
غنّ للغجريّة تلك التي راقصتْ ظلّها في المرايا
لتذكرَ أنك مازلتَ تروي الحكاياتِ عنها
مضى قومُها كلّهمْ دونها
بينما في انتظاركَ توقد ناراً و تُطفِئها .
تلك جمرتُها السابعةْ .
غنّ للغرباء الذين يحبّونَ رقص َ الدراويشِ في سيرة ِ السهرورديّ
كي تتأمّلَ أنسابَهمْ
لم تجدْ في رسائلِهمْ ما يقول رواةُ الأحاديثِ عنكَ .
ولم تنتبه . عبثاً تقتفي أثرَ الأمسِ كي ترجعه ْ
غَنّ لي . لا أزالُ كما كنت ُ
أقربَ من عشبةٍ في الطريقِ إلى البيتِ
لكنّني لن أعودَ . أتى الغرباءُ
ولم يجدوا في سريري سوى نجمتي الواقعةْ .
ه-
لم آتِ كي أتأمّلَ الغرباءَ أعزلَ تحت شرفتِكِ التي ذبلتْ
كعينَيْ كوكبٍ أعمى
الوحيدُ
بمِلءِ ذاكرتي ونايي
من بِهمّة طائرٍ ربّيتُ رائحةَ الورودِ على سياجِك ِ ،
لأصطفيكِ وتذكرين َ
عذرت ظلّكِ حين غطّ بنومتي
ويديكَ أن رمتا على ظلّي البعيدِ هنا سلاماً عابراً .
وهناك َكنتُ أنا الوحيدُ
كليمُ موعظةِ التذكّر في مخيّلةِ الغريبِ
من الذي ناديتِه فتقدّمتْهُ سيرةُ الدفلى التي نعستْ على حجرٍ تأخّرَ في الطريق إليكِ
أغفرُ لي وقوفي في الظهيرةِ عند بابِكِ بالدُواةِ وبالحقيقةِ كلّها من غير سوءٍ ،
للذين رأوكِ كاملةً فخرّوا دون ظلّكٍ ،
للسنونوة ِالتي نسيتْ على أحجاركِ الأولى شتاءً آخراً.
ع-
..كنتُ أصلّي بينهم ، مثلهُمْ ، للهِ كي تتلطّفَ الحروبُ بنا
ولا يُرى الموتُ أعمى، بين حربينِ ، يصحو في أسِرّتنا،
وأشتكي في صلاةِ الغائبينَ لهم غيابَهُمْ .
مثلهُمْ ،
أمضي إلى غدِهم حتى أحدّقَ في تفّاحةِ الأبدِ الأولى .
الذين رموا أحجارَهمْ في البحيراتِ
فظلّوا ، كظِلٍّ ظلّ يتبعُهم ، أسرى الدوائرِ.
كانوا يكتفونَ من الحنينِ ذاكَ إلى الأرضِ القديمةِ بالذكرى ،
وتربيةِ الأطفال ِ والهندباءِ في المنافي ،
ويزرعون ، كالطيرِ ، في الرياحِ ِآهاتِهمْ
حتى يراها الرواةُ
والعُصاةُ
وأبناءُ السبيلِ
وسارقو ملحِهم والخبزِ
والصورِ التي تذكّرُ مذ جاؤوا بسِيرتِهمْ فوق الصناديقِ والجدران ِ.
لم يجدوني بينهم كي يُطيلوا عتابَهم .
ي-
قَدْ أظلّ
شعاعاً قديماً يظلّلُ عينيكَ ،
لكنني سوفَ أرحلُ
شاختْ خطوطُ يدي في انتظارِكَ
حتى انعمتْ نجمتي في الدروب ِ إليكَ،
وما عدتَ
تحرس وجهي ، كما كُنتَ ، من حزنِه في المرايا ..
قد لا أعودُ
ولكنني سوفَ أبقى لأجلك َ
صَوْتَكَ ، نادى على أحدٍ لا يجيء ، تخثٌر ، مثل الهواء القليل ، على شفتيك َ ،
وصمتَ الثلوج على جنباتِ رموشك َ
يطمرُ ذاكرةَ الحربِ في خوذِ الميّتينَ التي بردتْ .
سوفَ أبقى لأجلكَ
يوماً جديداً يفيقُ على حافّةِ اليأس
ذلك أنّ غداً لن يعودَ ليروي له ما تذكّر عنك َ ،
ملاكاً أخيراً يصلي معي عند بوّابةِ الملكوت ِ عليك َ ،
و قبضةَ عشبٍ تجمّد بين يديكَ ..
وقد لا أعودُ
ولكنني سوف أبقى
لأجلك َ
ريحاً على طينِ قبركَ تشقى ..
كأنّي أرى جُثّتي بين موتين ِ ، بعدكَ ، نائمةً في كتابِ الوصايا ..
س-
حُرٌّ، كما الريح .
هادئةٌ ، خلفَ ظهري ، المدينةُ والأديرةْ
وأحاديثُ موتى كثيرينَ لم تكتملْ ،
والجسورُ التي أحرقتْها الحروبُ الأخيرةُ ،
و الصلواتُ التي لم يقُصّ الرواةُ على أحدٍ بعدما انتهتِ المجزرةْ .
كدتُ أن أحتمي من مُخيّلةِ النار
بالبردِ في جثثِ المائلينَ على المنحنى ،
من ركامِ الدخانِ على جَنَباتِ السماءِ
بما يجعلُ الماءَ في باطنِ الأرضِ حياً ،
بصورتك ِ ٓالمُشتهاةِ التي ارتعشتْ في قميصيْ الممزّقِ
من طلقة ٍ عبرتْ بين ظلّي وبيني ،
وكدتُ أُحبّكِ أكثر مما أحبّك ِ
لكنّني لم أجدكِ تصلّينَ في الملكوتِ لأجلي
أنا الحرُّ
كالريح
أبحثُ عن جسد ٍ آمنٍ فأجعلهُ وطناً لرحيلي المؤبّدِ
بين الكهوفِ التي هرمتْ في الجبال ِ وأودية ِ الآخرةْ .
موحشٌ أيّ شيء إذا لم تمرّ عليه ِ ظلالي
الصدى والنداءُ ،
الذي تركَ العاشقونَ على مقعدٍ
وارتباكُ القطا في الحدائقِ ،
ما لم تقلْه خيامُ الشعوب ِ التي انقرضتْ
والحضاراتُ في خوذِ الفاتحينَ القدامى ،
وما وأدتْ من خطى العابرينَ الصحارى ،
و صوتُ النبيّ على جبلٍ ينحني لمُكوثي طويلاً على جانبيه ،
وصايا العشاءِ الأخيرِ
وخبطُ الخيانةِ في الذاكرةْ .
كان يمكن أن أكتفي بخطايايَ من جسدي فوقَ ذاك الصليبِ ،
وأرمي العُصاةَ بما يؤلم ُ الوحيَ في دربِ آلام روحي الطويل ِ ،
وأن أتأمّلَ عينيّ في ظلماتِ قلوبِ المرائينَ ،
والذاهبين إلى حتفِهمْ ،
وسبايا المخادع ِ ،
والقانطين َ
ومن وقفوا عند بابي على ضفتيِّ الزمان ِ
ولكنني لم أعُدْ قادراً أن أطيلَ الوقوفَ على حافّة ِ المغفرةْ
وأنا ، مثلما كُنتُ حرّاً كما الريح ِ ، حرٌّ
كما الريح
من كلّ شيء
ولا شيء..
لا وطنٌ لي سوى جسدي
بين نعشَينِ
أسعى إلى آخر الأرضَ حتّى أراني
ى-
جسدٌ آخرٌ
قابلٌ للحياة ِ
، على عجل ٍ، يتفقّدُ أعضاءَهُ في المرايا
ليرجعَ، من حيثُ عاد ،
إلى رقصةِ الغجرِ المائلين على وترِ الأغنيات ِ .
جسدٌآخرٌ
كاد يُشبهني
لا يليقُ به غيره إذ يحبُّ
ولا يترفّع عمّن سواه
سوى بالذي تشتهي من عناقيده سكَراتُ الجميلات ِ
جسدٌ آخرٌ
بمُخيّلة ِ الماء يحرسُ أوصافَهُ لعناقِ الحبيبِ الطويل ِ
ولا يتطهّرُ من لسَعاتِ الخطيئةِ إلا بهاجرةِ المُشتهى بين ما خبّأتْ نخلتاهُ
ولم يرَ إلّاهُ
ما خلق اللهُ في جنّةِ المنتهى بين تفّاحتيْهِ من الطيّبات ِ
جسدٌآخرٌ
يتأمّلُ في ذاكرات ِ نساء ٍ هبطنَ إليهِ موائدَ ألهة ٍ من أقاصي السماوات ِ
وِحشتَهُ وهو يُلقي على حجرٍ بين َ نهرين ِما شاخَ من ظلّهِ وعصاهُ
يُطل ّ على غدِهِ
كي تهِيءَ لهُ ، وحدهُ ، الأبديّةُ عاريةً في مرايا الرُواة ِ
جسدٌ آخرٌ
جسدي
كّلهُ
حينَ آتي
عبدالله عيسى
بيتٌ من الطينِ خلفَ النهرِ،
نافذةٌ تمشي إلى حقلَيْ كُرُنبٍ وباذنحانَ ،
وامرأةٌ تروي لصورتِها في البئر شيئاً ،
وتمضي نحو صورةِ زوجِها الذي لم يعدْ فوق الجدارِ ،
وأنت َ مثلما كُنتَ
ترمي رُكبتيكَ على عشبٍ تمهّلَ في النموّ.
لا أحدُ
يغيظ ، بما يأتيك َ، يومَكَ
إلا من رآكَ ولم يمدحْ مكوثكَ في كلامِكَ القديمِ طويلاً
تحتَ غُرتّكَ الأولى التي اتسختْ ، مثلكَ ، بالرياحِ،
ونظرةِ الغريبِ ،
وخوفِ المارّة المائلينَ ، في الحديثِ ، على أجسادِهمْ
من سذاجةِ المُخبِرِ الثرثارِ .
لا أحدٌ
من سارقِيْ جمرةِ القِرى ،
ورُواةِ الشائعاتِ ،
وطُرّاقِ الليالي اللذين لم يعثُروا عليكَ في غرفِ الموتى ،
وأحفادِ حفّارِي القبورِ،
يعكّرونَ رائحةَ الوردِ التي صاحبتْ يديكَ في انتظارِ صبايا الحيّ .
لا أحدٌ
يُهينُ صَوْتَكَ ذاكَ إذ تُنادي على القتلى
سوى من رمى على الضوءِ في عينيكَ ظلاً ثقيلاً .
..
غير أنكَ مثلما كُنتَ
ترعى الماءَ في النهرِ حتى يكبرَ العشبُ والحصى .
ويأنَسُ الهدهدُ الأعزلُ ، مثلكَ ، بئرَ البيتِ ،
والمرأةُ التي رأتْ زوجَها بين النعوشِ الحياةَ ما استطاعتْ سبيلاً.
ب-
أكتفي بالقليلِ من الماءِ والخبزِ
، يا نهرُ ،
خذني على قارِبيْ الورَقِيّ معَكْ .
لأطلّ على ذاكراتِ النوارسِ في بحرِ يافا.
كأنّ أصابعَ أمّي تراني برائحةِ البُرتقالِ هناكَ
وأحجارها لا تزال تئنّ بصدرِ أبي كالرحى .
لست ُ أكثر من ألم ِالضوء
ذاك الذي مسّني بين عيني َّ ، ثمّ امّحى
أكتفي بالقليل ِ من الشمسِ
قد أكتفي بالهواءِ القليل ِ ، بما عافَ
طير ُ البراري الحزين ، فخُذني
لأحملَ عنكَ الذي أوجعَكْ .
د-
أرتدي بين حربينِ خُوذةَ جدّي التي كلحتْ منذ حربِ فلسطينَ فوق الجدار ِ
لأكبرَ في خلسةٍ عنهما
وأردُّ السلامَ على قبرِهِ في حديثِ السُلالةِ ، وحدي
لأرجعَ ، من حيثُ جئتُ ، إلى صورتي معهُ في الإطار ِ.
وما كنت ُ ذاك الذي خصّه ُ بالعباءةِ والسيف ِ عند الشريطِ الحدوديّ
لكنني صرتُ أُشبِههُ
غير أنّ يديْ هرمتْ في مصافحة ِ الغرباءِ
وعيني ّ لم تعرفاني ، كما كانتا ، بعدما انتهت ِ الحرب ُ ..
...
يا ليتني متّ ، مثلك ِ يا جدّتي ، قبل هذا الحصار ِ
أ-
وعلى سبيل الحب ّ
أحلِقُ ، مُطمئِنّاً للذي سأقولُ ، ذقني خمسَ مرّاتٍ ،
وأكوي ، مرّتينِ ، جيوبَ بنطالي و كُمّ قميصيَ الكُحليّ.
مبتهجاً بكفّي في يديكِ وأنتِ تعترفينَ لي بالحبّ ،
أرقُصُ حول ظلّي ، مثل درويشٍ يُصعّدُ في السماءِ ،
مُبشَّراً بروائحِ النعناعِ في عينيكِ
في المرآةِ
حين أظنّ أني قد أعانق في الطريقِ إليك ظلّكِ .
كم أُحبّكِ كي أُحبّكِ يا امرأةْ .
وعلى سبيلِ الحبّ
أكتب لي رسائلَ ، باسمك ِ السِريٌ منكِ
لأرتقي ، بفمي ومزماري ، على عُشّاقكِ
المتقلٌبينَ على المضاجعِ
كلٌهم
مثلي أنا
بين الشموع ِ المطفأةْ .
ل-
أشتري بلحاً يتجوّل بين يدٓي ْ باعة ٍ يمنيّين مالت خناجرُهمْ في الظهيرةِ مثل ظلالِهُمُ الوافقات ِ
على جنباتِ بطونِهم ُ الواقفةْ .
وأعدّ على صاحبِ المتجر ِ الحلبي ّ الذي أشهد َ الله أن لفُستقِه طعمَ نارنجة ِالشام ِفي شهر مايو ثلاثَ قروشي الأخيرة ،
تلك التي خِلتُها ثروةً للسلالة ِبعدي .
ولكنني لم أجدك ِ على ضفّةِ النهرِ تنتظرين َ بمريولك ِ المدرسي ّ ،
تعضيّن ذيلَ جديلتكِ الخائفةْ .
كان بعضُ الرعاة يهشّون قطعانَهمْ بالحصى ،
ويغنّون أهزوجة الغجرِ المائلينَ على الريح ِباللهجة ِ البدويّةِ ،
فيما الخراف ُ تؤنّب ُ كلباً يراقبها بثغاء ٍ يرق ّ على الماءِ ِمثل ظلالِ شُجيرة ِ دُفلى انحنى ظهرُها وهي تبحثُ عن وجهِها في مرايا المياهِ .
لعلّي تأخّرت ُ حتّى رأى العابرونَ جيوشاً من النحل تهبط تلك الجبال ِ ،
وتبني بيوتاً على البلح ِاليمَنيّ الذي شاخ ٓ بين يدي ّ ،
ولم أستطعْ أن أهش ّ قبائلَ نملَ البراري عن الفستق ِ الحلبي ّ ..
أضعت ُ هنا ، في انتظارك ِ ، مُلكي ومملكتي
بينما ، لا تزالين كل مساء ٍ ، تعدّين ذاك العشاءِ الأخيرَ لزوجِك ِ
ثم تجيئين ، قبلي قليلاً وبعدي كثيراً ، إلى ضفّةِ النهرِ ،
تنتظرينَ ، وأنت تعضّين دمعتك ِ الراعفةْ .
كان وعدكِ
مثلكِ
نرجسةً زائفةْ .
ل-
غن ّ للبنتِ في ثوبِها المدرسيِّ
فلا تتعجّل أيامَها
نضجت نكهةُ اللوزِ في فمها ،
وأحلّت لعشاقِها سِدْرةَ المشتهى
في ظلالِ مفاتيحِ فردوسها الأربعة ْ.
غنّ للغجريّة تلك التي راقصتْ ظلّها في المرايا
لتذكرَ أنك مازلتَ تروي الحكاياتِ عنها
مضى قومُها كلّهمْ دونها
بينما في انتظاركَ توقد ناراً و تُطفِئها .
تلك جمرتُها السابعةْ .
غنّ للغرباء الذين يحبّونَ رقص َ الدراويشِ في سيرة ِ السهرورديّ
كي تتأمّلَ أنسابَهمْ
لم تجدْ في رسائلِهمْ ما يقول رواةُ الأحاديثِ عنكَ .
ولم تنتبه . عبثاً تقتفي أثرَ الأمسِ كي ترجعه ْ
غَنّ لي . لا أزالُ كما كنت ُ
أقربَ من عشبةٍ في الطريقِ إلى البيتِ
لكنّني لن أعودَ . أتى الغرباءُ
ولم يجدوا في سريري سوى نجمتي الواقعةْ .
ه-
لم آتِ كي أتأمّلَ الغرباءَ أعزلَ تحت شرفتِكِ التي ذبلتْ
كعينَيْ كوكبٍ أعمى
الوحيدُ
بمِلءِ ذاكرتي ونايي
من بِهمّة طائرٍ ربّيتُ رائحةَ الورودِ على سياجِك ِ ،
لأصطفيكِ وتذكرين َ
عذرت ظلّكِ حين غطّ بنومتي
ويديكَ أن رمتا على ظلّي البعيدِ هنا سلاماً عابراً .
وهناك َكنتُ أنا الوحيدُ
كليمُ موعظةِ التذكّر في مخيّلةِ الغريبِ
من الذي ناديتِه فتقدّمتْهُ سيرةُ الدفلى التي نعستْ على حجرٍ تأخّرَ في الطريق إليكِ
أغفرُ لي وقوفي في الظهيرةِ عند بابِكِ بالدُواةِ وبالحقيقةِ كلّها من غير سوءٍ ،
للذين رأوكِ كاملةً فخرّوا دون ظلّكٍ ،
للسنونوة ِالتي نسيتْ على أحجاركِ الأولى شتاءً آخراً.
ع-
..كنتُ أصلّي بينهم ، مثلهُمْ ، للهِ كي تتلطّفَ الحروبُ بنا
ولا يُرى الموتُ أعمى، بين حربينِ ، يصحو في أسِرّتنا،
وأشتكي في صلاةِ الغائبينَ لهم غيابَهُمْ .
مثلهُمْ ،
أمضي إلى غدِهم حتى أحدّقَ في تفّاحةِ الأبدِ الأولى .
الذين رموا أحجارَهمْ في البحيراتِ
فظلّوا ، كظِلٍّ ظلّ يتبعُهم ، أسرى الدوائرِ.
كانوا يكتفونَ من الحنينِ ذاكَ إلى الأرضِ القديمةِ بالذكرى ،
وتربيةِ الأطفال ِ والهندباءِ في المنافي ،
ويزرعون ، كالطيرِ ، في الرياحِ ِآهاتِهمْ
حتى يراها الرواةُ
والعُصاةُ
وأبناءُ السبيلِ
وسارقو ملحِهم والخبزِ
والصورِ التي تذكّرُ مذ جاؤوا بسِيرتِهمْ فوق الصناديقِ والجدران ِ.
لم يجدوني بينهم كي يُطيلوا عتابَهم .
ي-
قَدْ أظلّ
شعاعاً قديماً يظلّلُ عينيكَ ،
لكنني سوفَ أرحلُ
شاختْ خطوطُ يدي في انتظارِكَ
حتى انعمتْ نجمتي في الدروب ِ إليكَ،
وما عدتَ
تحرس وجهي ، كما كُنتَ ، من حزنِه في المرايا ..
قد لا أعودُ
ولكنني سوفَ أبقى لأجلك َ
صَوْتَكَ ، نادى على أحدٍ لا يجيء ، تخثٌر ، مثل الهواء القليل ، على شفتيك َ ،
وصمتَ الثلوج على جنباتِ رموشك َ
يطمرُ ذاكرةَ الحربِ في خوذِ الميّتينَ التي بردتْ .
سوفَ أبقى لأجلكَ
يوماً جديداً يفيقُ على حافّةِ اليأس
ذلك أنّ غداً لن يعودَ ليروي له ما تذكّر عنك َ ،
ملاكاً أخيراً يصلي معي عند بوّابةِ الملكوت ِ عليك َ ،
و قبضةَ عشبٍ تجمّد بين يديكَ ..
وقد لا أعودُ
ولكنني سوف أبقى
لأجلك َ
ريحاً على طينِ قبركَ تشقى ..
كأنّي أرى جُثّتي بين موتين ِ ، بعدكَ ، نائمةً في كتابِ الوصايا ..
س-
حُرٌّ، كما الريح .
هادئةٌ ، خلفَ ظهري ، المدينةُ والأديرةْ
وأحاديثُ موتى كثيرينَ لم تكتملْ ،
والجسورُ التي أحرقتْها الحروبُ الأخيرةُ ،
و الصلواتُ التي لم يقُصّ الرواةُ على أحدٍ بعدما انتهتِ المجزرةْ .
كدتُ أن أحتمي من مُخيّلةِ النار
بالبردِ في جثثِ المائلينَ على المنحنى ،
من ركامِ الدخانِ على جَنَباتِ السماءِ
بما يجعلُ الماءَ في باطنِ الأرضِ حياً ،
بصورتك ِ ٓالمُشتهاةِ التي ارتعشتْ في قميصيْ الممزّقِ
من طلقة ٍ عبرتْ بين ظلّي وبيني ،
وكدتُ أُحبّكِ أكثر مما أحبّك ِ
لكنّني لم أجدكِ تصلّينَ في الملكوتِ لأجلي
أنا الحرُّ
كالريح
أبحثُ عن جسد ٍ آمنٍ فأجعلهُ وطناً لرحيلي المؤبّدِ
بين الكهوفِ التي هرمتْ في الجبال ِ وأودية ِ الآخرةْ .
موحشٌ أيّ شيء إذا لم تمرّ عليه ِ ظلالي
الصدى والنداءُ ،
الذي تركَ العاشقونَ على مقعدٍ
وارتباكُ القطا في الحدائقِ ،
ما لم تقلْه خيامُ الشعوب ِ التي انقرضتْ
والحضاراتُ في خوذِ الفاتحينَ القدامى ،
وما وأدتْ من خطى العابرينَ الصحارى ،
و صوتُ النبيّ على جبلٍ ينحني لمُكوثي طويلاً على جانبيه ،
وصايا العشاءِ الأخيرِ
وخبطُ الخيانةِ في الذاكرةْ .
كان يمكن أن أكتفي بخطايايَ من جسدي فوقَ ذاك الصليبِ ،
وأرمي العُصاةَ بما يؤلم ُ الوحيَ في دربِ آلام روحي الطويل ِ ،
وأن أتأمّلَ عينيّ في ظلماتِ قلوبِ المرائينَ ،
والذاهبين إلى حتفِهمْ ،
وسبايا المخادع ِ ،
والقانطين َ
ومن وقفوا عند بابي على ضفتيِّ الزمان ِ
ولكنني لم أعُدْ قادراً أن أطيلَ الوقوفَ على حافّة ِ المغفرةْ
وأنا ، مثلما كُنتُ حرّاً كما الريح ِ ، حرٌّ
كما الريح
من كلّ شيء
ولا شيء..
لا وطنٌ لي سوى جسدي
بين نعشَينِ
أسعى إلى آخر الأرضَ حتّى أراني
ى-
جسدٌ آخرٌ
قابلٌ للحياة ِ
، على عجل ٍ، يتفقّدُ أعضاءَهُ في المرايا
ليرجعَ، من حيثُ عاد ،
إلى رقصةِ الغجرِ المائلين على وترِ الأغنيات ِ .
جسدٌآخرٌ
كاد يُشبهني
لا يليقُ به غيره إذ يحبُّ
ولا يترفّع عمّن سواه
سوى بالذي تشتهي من عناقيده سكَراتُ الجميلات ِ
جسدٌ آخرٌ
بمُخيّلة ِ الماء يحرسُ أوصافَهُ لعناقِ الحبيبِ الطويل ِ
ولا يتطهّرُ من لسَعاتِ الخطيئةِ إلا بهاجرةِ المُشتهى بين ما خبّأتْ نخلتاهُ
ولم يرَ إلّاهُ
ما خلق اللهُ في جنّةِ المنتهى بين تفّاحتيْهِ من الطيّبات ِ
جسدٌآخرٌ
يتأمّلُ في ذاكرات ِ نساء ٍ هبطنَ إليهِ موائدَ ألهة ٍ من أقاصي السماوات ِ
وِحشتَهُ وهو يُلقي على حجرٍ بين َ نهرين ِما شاخَ من ظلّهِ وعصاهُ
يُطل ّ على غدِهِ
كي تهِيءَ لهُ ، وحدهُ ، الأبديّةُ عاريةً في مرايا الرُواة ِ
جسدٌ آخرٌ
جسدي
كّلهُ
حينَ آتي
عبدالله عيسى