البروفيسور عادل الأسطة - ناجي العلي: ثلاثة وثلاثون عاماً من الغياب

هذا الأسبوع تصادف الذكرى الثالثة والثلاثون لرحيل فنان الكاريكاتور الشهيد ناجي العلي، وهي ذكرى لا تغيب عن الفلسطينيين ومحبي الرسام رسومه، فهو من الفنانين الذين دفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم، وهؤلاء قلة في تاريخ البشرية.
حين كتب المرحوم إحسان عباس دراسته عن الشعر الفلسطيني في زمن الانتداب توقف أمام شعراء فلسطين الأبرز؛ إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) وعبد الرحيم محمود، وقال، إن من يستحق لقب الشاعر هو طوقان وأما أبو سلمى فيقترب منه ولا يدانيه وقال، إن الدارسين اعتادوا أن يضعوا إلى جانبهما عبد الرحيم محمود، مع أنه أقل منهما شاعرية ولكنه شاعر شهيد والشاعر الشهيد قليل في تاريخ البشرية.
وكلنا يحفظ بيته:
"سأحمل روحي على راحتي
وألقي بها في مهاوي الردى"
وقد حقق ذلك، ولم يختلف ناجي عنه، فقد حمل روحه على راحته. لقد دفع حياته ثمنا لدفاعه عن قناعاته، فرسم ولم يأبه للتهديد والوعيد وتناقص الأصدقاء والطرد من هذا المكان أو ذاك.
وأنا أكتب عن تفجير بيروت في السادس من آب وصورتها في أشعار محمود درويش وسميح القاسم تساءلت عن حضورها في رسوم ناجي الذي عاش في مخيم عين الحلوة ورسم ونشر في جريدة "السفير" اللبنانية، ثم بحثت عما كتبه الآخرون عن صورة بيروت في رسومه فعثرت على كتابة موسعة أنجزها شاكر النابلسي في كتابه "أكله الذئب"، ولما قرأت المكتوب قلت إنني لن آتي بجديد.
حلل النابلسي رسوم ناجي واستخرج صورة بيروت منها وربط بينها وبين صورتها في قصائد نزار قباني ومحمود درويش واقتبس مقاطع عديدة من قصائدهما وأدرج غير كاريكاتور لناجي في المدينة.
في العام الأخير، قرأت رواية إسماعيل فهد إسماعيل "على عهدة حنظلة" فكتبت مقالين عن صورة الفلسطيني فيها وهو ناجي العلي، وقد احتفل به الكويتيون في السنوات الأخيرة فأنتجوا فيلما عنه تحدث فيه معارفه في جريدة "القبس".
صار ناجي العلي يمثل الضمير الحي للفنان الملتزم المدافع عما يؤمن به وغير القابل للبيع والشراء والمهادنة، الفنان الشجاع حد التهور، الفنان الذي لا يخشى الموت دفاعا عن قضية شعبه. كما لو أنه الفدائي الذي رسمه إبراهيم طوقان في قصيدته "الفدائي":
"هو بالباب واقف
والردى منه خائف
صامت إن تكلما
لفظ النار والدما"
وكان ناجي يلفظ في رسومه وعباراته "النار والدما"، وكما أحب الفدائي بلاده ودفع حياته دفاعا عنها، لأنه رأى ركنها قد تهدما، فقد دفع ناجي حياته دفاعا عن فلسطين التي تهدمت، آملا أن تستعاد وأن يعود شعبه اللاجئ إليها، وفي سبيل ذلك لم يضع خطوطا حمرا في أثناء مهاجمة من يفرط فيها أو يهادن عليها.
وأنا أتصفح رسومات ناجي بحثا عن صورة بيروت التفت إلى جانب آخر هو التصريح والتلميح، وقارنت هذا بتجربة نزار قباني ومظفر النواب، بل وبتجربة محمود درويش ومعين بسيسو، وتساءلت عن صورة الكويت في كاريكاتوراته.
من يشبه ناجي: نزار أم مظفر ومحمود أم معين؟ وهل هجا الكويت حين أبعد عنها؟
هجا نزار قباني الحكام العرب قاطبة ولكنه لم يذكر أسماءهم، فلم تمنعه عاصمة من إلقاء الشعر فيها، كما لو أنها ليست هي المعنية، فالمعني غيرها، وخلافا له كان مظفر النواب، فقد هجا الحكام حاكما حاكما كلا باسمه أو لقبه أو ما يشير إليه، فمنعته العواصم من الدخول إلى بلادها لعقود طويلة، ولم تسمح له بالدخول إلا حين صار منع الكلام وحظره صعبا، وحين فقد قوته وتأثيره، وقد تكون سمحت له انتقاما منه وتقليلا من قيمة كتابته، ومن قرأ كتاب الملك حسين "مهنتي كملك" وما فعله مع من انقلبوا عليه يعرف دلالة تعيينهم وزراء، أو قد يكون السماح قتلا للمعارض الهاجي أو من باب "العفو عند المقدرة" أو ...
هل يختلف محمود درويش عن نزار قباني في أسلوب هجائه؟ وهل يختلف معين بسيسو عن مظفر النواب؟
حين أمعن النظر في قصائد درويش وبسيسو في مذبحة تل الزعتر ١٩٧٦ ألاحظ الفارق، فالأول هجا العواصم ورأى أنها كلها زبد، والثاني قرن بين حاكم دمشق ويهوذا الاسخريوطي وذكر الحاكم باسمه.
أين يقع ناجي العلي من هؤلاء؟ هل كان أقرب إلى النواب وبسيسو منه إلى قباني ودرويش؟
على أن ما ألح على ذهني أكثر هو موقف ناجي من الكويت بعد إبعاده عنها، بل وهو فيها. هل انتقد نظام الحكم الكويتي كما انتقد القيادة الفلسطينية مثلا؟
هل انتقد الحكومة الكويتية بسبب إبعاده أم أنه التزم جانب الحياد، فقد ظل يعمل في الصحافة الكويتية في لندن؟ والسؤال مشروع عموما، ولكن السؤال الآخر الملازم له هو:
- إلى أين يذهب الفلسطيني بعد السماء الأخيرة؟ فماذا كان سيلم بناجي لو رسم رسومات لاذعة تنال من حكام الكويت الذين أبعدوه عن بلادهم؟ أين سيذهب؟ وأين سينشر رسوماته؟
عندما عاد مظفر النواب، بعد أن ضاقت به المنافي، إلى دمشق ليستقر فيها، كتب قصيدته "باللون الرمادي". مدح المدينة وكانت القصيدة أشبه باعتذارية ولكنه لم يمدح الحاكم الذي هجاه هجاء مرا في "وتريات ليلية".
حقا أين يذهب المرء بعد أن يحرق سفنه مع الجميع؟


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى