سعد عبد الرحمن - العقاب الهرم و تداعياتها في الشعر العربي الحديث.. ( الجزء الثاني)

و أول تلك النصوص قصيدة " النسر المهيض" لإبراهيم عبد القادر المازني صديق العقاد الأثير ، و النص يقع في ثمانية أبيات و الفكرة المحورية فيه هي فكرة " المكانة المضيعة " كما في نص" العقاب الهرم " للعقاد و لكن شتان بين النصين في مستوى التعبير و التصوير فبينما استطاع العقاد تجسيد الفكرة التي أشرنا إليها آنفا تجسيدا فنيا مبتكرا بدا نص المازني و كأنه صدى هزيل لنص العقاد .
و كما يوحى عنوان " العقاب الهرم " بفكرة النص المحورية يوحي عنوان " النسر المهيض " فكل الخصال التي تتمثل في النسر كالقوة و المنعة و السيطرة و الهيبة تنال منها صفة " المهيض " و تجهضها فتجعل هذا النسر مثارا للشفقة و الرثاء بعد أن كان مثارا للإعجاب و الإكبار .
النص من البيت الأول حتى الثالث عبارة عن حديث موجه من الشاعر إلى النسر المهيض و الحديث يأتي في سياق دهشة و تعجب مع مسحة من الشفقة و الرثاء لما آل إليه حال النسر :
يا نسر ما للجنــــــاح لا يثب .. و ما لعينيـك في الثرى أرب ؟
أخلدت للأرض غيـر مكترث .. للشمس تذكو و الرمل يلتهب
و ملت عــن دولة السماء فما .. يفــــوت منك الرماة ما طلبوا
و من خلال الأبيات نعرف أن النسر لم يعد قادرا على الطيران و التحليق كما كان و عيناه اللتان كان يحدق بهما في أجواز الفضاء أصبحتا تنظران في الأرض التي أخلد إليها غير مكترث لحرارة الجو فوقه و لا لسخونة الرمل تحته ، لقد فقد النسر عرشه في الفضاء فتراه من شدة ضعفه و خور قواه مجرد عينين مفتوحتين كأنهما مغمضتان و ريشه مخضب بالدماء التي تسيل من جراحه ، و يرثي المازني للنسر الذي لم يعد جناحاه يخفقان في الجو بعد أن هيضا متسائلا عن السبب الحقيقي في ضعف النسر و وهن قواه و متسائلا أيضا هل حن النسر إلى عرش الهواء الذي كان متربعا عليه إبان قوته و فتوته ؟ ، و النص إذا أمعنا النظر فيما وراء دلالته الظاهرة فسنجد أنه يمثل معادلا فنيا لحالة نفسية كان يمر بها المازني فيما يبدو حين كتب هذا النص فالنسر غير القادر على التحليق لأنه مهيض الجناح و المتحسر على ما آل إليه حاله هو في الواقع الشاعر نفسه و حين يتحسر المازني على ما آل إليه حال النسر فإنه يتحسر على حاله هو ، لقد هاضت الأقدار قواه و حرمته أن يحيا بكامل لياقته البدنية فأصبح أعرج يجد صعوبة بالغة في الحركة و المشي مما أثر على حالته النفسية تأثيرا كبيرا جعله زاهدا في الحياة لا يرى فيها شيئا يبعث على الابتهاج ، لا غرو إذن أن يوحشه زمان كان فيه أقوى و أقدر على المجالدة و الكفاح في الحياة ؛ و لا غرو أيضا أن يشعر بوحشة باردة من فرط حسرته على ما فقد من قوة و فتاء :
فالعين مفتــوحة كمغمضة .. و الريش فوق التراب مختضب
أما يهم الجنـاح ؟ وا أسفي .. عليه في الجو وهــــو يضطرب
أم هاضه خفتــه و أوحشه .. ملك سماء تظلـــــــــــــه السحب ؟
لا عجب أن تحس وحشته .. فالقر في الشاهـــــــــقات مرتقب
و ينهي المازني نصه بما يشبه الحكمة حين يقول :
ويح النفوس التي تطيـــر بها .. هماتها حيـــن يسخـــــر التعب
فالحركة في الحياة قبل أن تكون فعلا فيزيقيا هي إرادة و همة فإذا أدرك التعب همم النفوس أقعدها فغدت عاجزة عن فعل أي شيء و تلمح في معنى البيت الأخير تماسا مع مضمون قول المتنبي :
و إذا كانت النفوس كبارا .. تعبت في مرادها الأجسام
و النص الثاني من النصوص التي تأثرت بنص " العقاب الهرم " للعقاد هو قصيدة " نسر " لعمر أبي ريشة و هو نص رائع يكاد يتفوق على النص الأصلي بل ربما تفوق عليه بالفعل في براعة التصوير و حداثة التعبير و تتجسد فيه فنيا فكرة " المكانة المضيعة " أكثر من تجسدها في نص المازني السابق ، و لا غرو فعمر أبو ريشة واحد من أهم الرومانسيين العرب و شعره قد تحرر كثيرا مما كان يعوق حرية التصوير و التعبير لدى أصحاب مدرسة الديوان و الخيال لديه منطلق لا تسيطر عليه النزعة العقلية الصارمة التي نراها واضحة الأثر في نصي العقاد و المازني و الأسلوب أكثر ميلا إلى البساطة و البعد عن المفردات الصعبة .
يقع نص أبي ريشة في واحد و عشرين بيتا و يبدأ النص بخبر يسوقه الشاعر في الشطر الأول من مطلع القصيدة مساق الأخبار المهمة كأخبار الكوارث و الحوادث الكبيرة و مفاده أن السفح أصبح ملعبا للنسور بعد أن كان ملعبها من قبل ذرى الجبال و قممها الشامخة و في المفارقة بين ما توحي به مفردة النسور و بين السفح تكمن خطورة الخبر ، و من الواضح أن الشاعر كان شديد الانفعال و التأثر بمضمون الخبر الذي ساقه إلينا فراح يناشد الطبيعة متمثلة في ذرى الجبال و قممها أن تغضب و تثور اعتراضا على ما حدث و رفضا له ، و قد وضع أبو ريشة ( الذرى ) ملعب النسور في عهد شبابها و فتوتها مقابل ( السفوح ) ملعب بغاث الطير و صغارها ، و في مساحة التناقض بين الملعبين تتجلى مأساة نسر أبي ريشة الذي عصفت بقواه عومل الضعف و الوهن فألجأته إلى النزول من القمة إلى السفح :
أصبــــح السفـــــــح ملعبا للنسور .. فاغضبي يا ذرى الجبال و ثوري
و توظيف الطبيعة و مظاهرها في الشعر هو دأب الشعراء الرومانسيين دائما ، و يستغرق أبو ريشة عبر الأبيات التالية في تصوير حالة النسر النفسية السيئة بسبب تدهور صحته و عدم قدرته على البقاء فوق القمة كما كان من قبل حتى إنه هجر وكره المنيع مضطرا و نزل إلى أسفل الجبل ليعيش في السفح ، و في الأبيات نلحظ المناخ الرومانسي و التعبيرات و المجازات الرومانسية التي تميز الرومانسيون و اشتهروا بها مثل الأفق المسحور و الضحى المخمور و المطمح المقبور و غيرها :
إنه لـــــم يعد يكحل جفــــن النجــــــم تيــــــــها بريــــــــشه المنثور
هجر الوكــــــر ذاهلا و على عينيــــه شيء مــــــن الــوداع الأخير
تاركا خلفــــــه مــــــواكب سحب .. تتهاوى عــــــن أفقها المسحور
كم أكبــــــت عليـــــه و هي تندي .. فــــــوقه قبلة الضحى المخمور
هبط السفــــــــح طــــــاويا جناحيــــــه على كــــــل مطمــــح مقبور
و تتلو اللوحة السابقة لوحة أخرى تعمق إحساسنا بالألم و التوجع على ذلك العزيز
الذي أذله الضعف و قهره الوهن فيصور الشاعر في اللوحة الثانية جماعات الطير و هي تتهيب الاقتراب من النسر فتتنحى عن طريقه بالرغم من أنها لو اختبرته لعلمت أنه قد برح به الضعف و ألح عليه الوهن فلم يعد يقوى على مدافعتها عنه بله التعرض لها بأقل أذى ، و الوقار الذي يبدو عليه ليس سوى بقية من إرث المكانة المضيعة ، و الفكرة الجزئية الأخيرة هذه هي نفسها فكرة " لكل شباب هيبة حين يهرم " لدى العقاد مع اختلاف أسلوب الشاعرين في التعبيرعنها فالعقاد أوجز و أبو ريشة أبلغ في تصويرها :
فتبارت عصائب الطيــــــــر ما .. بين شرود مـــــن الأذى و نفور
لا تطيــري جــــــوابة السفح فالنــــسر إذا ما خبــــــرته لا تطيري
نسل الوهــــن مخلبيـــه و أدمت .. منكبيـــــه عـــــواصف المقدور
و الوقار الذي يشيــــع عليــــــه .. فضلة الإرث من سحيـق الدهور
و في اللوحة الثالثة و الأخيرة يصور أبو ريشة نسره و هو جائع يتلوى فوق شلو ( قطعة من اللحم ) دام ممزق على الرمال ، و كلما حاول أن ينال بعضا منه حالت بغاث الطير بينه و بين ذلك ، فقد راحت تدفعه عن الشلو بمخالبها الغضة و أجنحتها القصيرة ، و لما أعيته المحاولة فاضت نفسه بالحسرة و الألم على ما وصل إليه من ضعف و هوان ، فسرت في أوصاله رعشة من جنون الكبرياء و ارتعد جسمه كما لو كان مقرورا ، و حينئذ أيقن أن الموت أكرم له من أن يعيش حياة بدون كبرياء يتعرض فيها كل لحظة لهوان لا يليق به ، لذا تحامل على نفسه كي ينهض بهيكل جسمه الأعجف و يرتفع للمرة الأخيرة في الهواء و ظل مصعدا في أجواز الفضاء حتى بلغ مدى بعيدا لا تدركه الأبصار و لا يحيط به الظن ، ثم زعق من شدة الألم النفسي زعقة هائلة سرى صداها الملتهب في الآفاق فاشتعلت و هوى من عل جثة هامدة في أحضان وكره القديم على قمة الجبل الشماء ، و فكرة " الانتحار " تجنبا لحياة الذل و التعرض للمهانة فكرة ثانوية في النص و لكنها تعزز الفكرة المحورية و تمنحها بعدا تراجيديا إن صح التعبير :
وقف النســــر جائعا يتلــــــــوى .. فـــــوق شلـــــو على الرمـال نثير
و عجاف البغـــــاث تدفــــعه بالــــــمخلب الغض و الجنـــاح القصير
فسرت فيه رعشة من جنــون الـــــــكبر و اهتــــــز هــــــزة المقرور
و مضى ساحبا على الأفق الأغبـــــر أنقـــــاض هيــــــــــكل منخور
و إذا ما أتى الغيــــــاهب و اجتا ز مدى الظن من ضمـــــير الأثير
جلجلت منــــــــه زعقة نشت الآ فاق حرى مـــن وهجها المستطير
و هوى جثــة على الذروة الشما ء في حضــن وكـــــــره المهجور
و ينهي أبو ريشة نصه البديع ببيت هو أشبه بزائدة دودية للنص ؛ مجرد تعليق أراد الشاعر من خلاله الربط بين حالته النفسية الخاصة و حالة النسر المنتحر و لكنه مع الأسف من وجهة نظرنا تعليق غير ضروري فنيا :
أيها النسر هــل أعــــود كما كنـــــــت أم السفح قـــد أمات شعوري ؟





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى