هذه البلدة بلا ذاكرة، نبت فيها احمد توش هكذا فجأة. يسير وحده.. يعيش وحده... يضحك ويغني. عندما كان صغيرا كان يقتل الحرباء والجراد ويبول علي السحالي بعد ان يدهسها حتي الموت. تقوم من عثرتها كأنها مدوخة من نعاس. أحمد توش من أصول يمنيه، جدته من غرب افريقيا وامه نيليه كقطعة من الزيتون المدهون. ولد احمد توش بشعره المسدل وعينيه الكبيرتين وانفه المستقيم. نشأ وترعرع. كل بيوت الحله بيته. علي وجهه مسحة من الأسي، ويسيل من فمه اللعاب. قميصه الشفاف وقدميه الحافيتين. يساعد هذا في البناء ويجلب الماء لتلك. والحطب لأخري. تجده في دكان صابر وفي قهوة حامد وطاحونة بابكر في نفس الوقت . ضحكته الرنانة تشعر الناس بالأمان. كبر أحمد توش وأتسعت وسامته وإزدادت. يدخل البيوت في اي وقت شاء . مما زاد من خوف الرجال وحرصهم وإرتباك الصبايا لحسنه الدفاق. بضحكته المذهلة جمد في عروقهن الدم. كن يقلن: آه لو انه استحم وتعطر. خاطب فيهن شيئا دافيء وغامض يسري في الأعصاب كالمس. والأماسي باردة وكئيبة. تمر بطيئة ومعتمة. نفس الخال الذي في خد أحمد توش وجد في طفل ودرحمة. الشعر المسدل الغزير في بنت عمر. والأصبع السادس في تيمان فضل. في أحمد توش شيء كالمغنطيس يجذب الحسان إليه. الصغار منهن. الشابات والأرامل. صفية الآتية من المدينة لزيارة خالتها في القرية شهقت عندما راته لأول مرة. كاد يغمي عليها كأنما سكين بارد طعن منها الفؤاد والخاطر. أحمد توش في لهوه يضحك. والدنيا اهازيج لاتنتهي. غشيم ومبروك. وهاله من الضوء تكسو محياه. غرقان ودرويش. تتدلي أشاؤه كلها. يعرف أسرار البلدة. كل شاردة وواردة. والناس مستغرقون في أعمالهم. ابو القاسم قال: ان أحمد توش هذا خطر علي بناتنا وهو يدعي المسكنة. أقره عبدالله وأردف أن أحمد توش عندما يدخل بيتا، تعاف المرأة زوجها وتنكر العروس بعلها وتتململ الفتيات في خدورهن. تنتشي أحلامهن يعانقن الوسائد في وله. شيء مثل النسغ يدب كالهسيس يشعل الحرائق في كافة الاتجاهات. ذاكرة البلد لاتتوقف مثل ذاكرة السمك والذباب. أحمد توش كالنحلة واسع النشاط ومتوفر... يقدمون له الطعام والحنان والحب. لا أحد يعرف أصله. قيل انه من اصول يمنيه أو من بلاد شنقيط. جدته من الجبال وأمه كأبنوسة تشق عنان السماء وتغرق الحكايات في الظلال والبلدة لاذاكرة لها. نعجة حمد الله ولدت حملا بستة أرجل بشعر مسدل وعينين كبيرتين. فزع الناس خاصة وأن مطر خريف ذاك العام إستعصي علي النزول. الأسعار إرتفعت وعم الغلاء والجفاء والجنون. البعض يعتبره صالحا. وآخرون يظنونه مجنونا. يغلي الدم في عروقهم ويفور. وهم في أماكن عملهم البعيدة. كبر شبيهي توش. تعادلت الضلالات والصلاح. توش يساعد النساء علي الإنجاب. يتفل لهن في الماء. ويمسح بطونهن باللبن الحليب ويدعوا لهن بالبركة. يعزم علي الخيط الحرير. تربطه المصابة بالصداع فتشفي. يتركة الرجال في الحلة وعندما يذهبون للسوق علي بعد عشرين ميلا يجدونه هناك. حافي القدمين تحيطه هالة من الجمال وذاك الألق.وعلي رأسه كتلة من الشعر وقميص شفاف يظهر اشياؤه كلها. يتحسرن نساء المدينة علي هذا الجمال المهدر كجوهرة في وحل. توش مسخ علي النساء رجالهن وعلي الرجال حياتهم. في مرة قلب احداهن علي قفاها مما جعل كلبة موسي تنبح. ونعجة ازرق تولي هاربه. قال له البصير إلا يكررها. وقد فعل. هذه البلدة بلا ذاكرة قال عباس: ان احمد توش جاء منذ خمسين عاما. نزل البلدة... في نقاء القمح كان لونه. يركب جملا أبيض. وفي ثياب ناصعة. إلتقي السرة. اكرمته فبني بها. كان تاجرا وشابا وسيما. يتاجر في سن الفيل. الخرز والسوميت وخشب الصندل. بين القري والأرياف. بعد ان قضي ثلاثة أيام. كانوا يخالونه سيغادر. ولكنه مكث عندها عشرين عاما الي ان توفت السره. قبل ان تموت وصته: ان يدفن معها الجره المعلقة في سقف الغرفة. نسي أحمد ذلك يوم ان ماتت السرة. وقبل دفنها تذكر الوصية. أوقف الناس من الدفن حتي يعود. وجري ليأتي بالجرة وقبل وصوله إليهم تعثر وسقط وإنكسرت الجرة. كأنما غمة إنزاحت من صدره، أفاق ووجد وسط الجرة ورقة مطبقة بعناية. ورأس فأر. ومخلب قنفذ. شعر أسد. وقطعة جبن. وريش نعام . من يومها وغادر احمد توش إلي اهله في اقاصي الشمال دون رجعة. ترك ذرية أولم يترك في البلدة التي لاذاكرة لها لا أحد يدري. ولكنه تركها ممحونه تبغي رحمة الله. تدحرجت في اعماقها بقايا الانجم الجميلة التي تكسرت علي ظلام الليل الذي تضاعف سواده.