سعد عبد الرحمن - العقاب الهرم و تداعياتها في الشعر العربي الحديث ( الجزء الثالث)

وفي سياق التداعي تأتي أيضا قصيدة عبد العليم عيسى " بكائية طائر مهزوم" و تقع في خمسة و عشرين بيتا ، لم يحدد الشاعر نوعية الطائر بطل نصه و إن كنا من خلال وصفه له نستطيع أن نقول إنه ليس من بغاث الطير التي اعتادت الطيران قريبا من الأرض .
و النص عبارة عن مونولوج يروي فيه الشاعر على لسان الطائر مأساته و هي مأساة مركبة لأنه مهزوم على مستويين : الأول مستوى مادي ملموس فقد نسلت ريشه الأعاصير و أوهنت جناحيه عواصف الرياح و هذا ما جعله ينحدر من السماء ليعيش في الوهاد و السفوح و معنى هذا أنه فقد مكانته المميزة بين الطيور و لا يكشف الشاعر في نصه عن الأسباب التي سلبته قواه لكنه يسند ذلك إلى الأعاصير و عواصف الرياح و هو في الغالب يرمز بها إلى ظروف مناوئة داهمته فجأة و لكن دون إفصاح عن طبيعة تلك الظروف ، و الثاني مستوى معنوي محسوس يتعلق بحالته العاطفية فقد تخلى عنه إلفه الذي كان مصدر هناءنته و استقراره النفسي و مجيء التخلي في ذلك الوقت دليل على أن إلفه غادر لم يكن يألفه عن شعور صادق بل لمصلحة و غرض :
نسلت ريشي الأعاصيـر و اهتا .. ضت جنــــاحي عــاصفات الرياح
فتحدرت من سمائي إلى الــــوهـــــد و في قلبي حســــــرتي و التياحي
أتقي البرد و الزوابـــــع و الريــــــح فتحتــــــــــد ناهشـــــات جماحي
خمدت جذوة التحــــــدي بنفسي .. مذ تعريــــــــــت و افتقـدت جناحي
و في الأبيات التالية يقارن الطائر بين حالته حين كان قويا قادرا و حالته الثانية حين استبد به الضعف و الوهن ، فحين كان قويا كان سلطانا على الفضاء يقتحم الأفق و يسعى وراء المجهول لا يخشى ما يلقاه وراءه ، و كان قلبه مفعما بالبهجة و الفرح و من حوله الطيور تشدو نشوى فتغريه بالغناء و الصداح ، كان الوجود آنذاك كأنه جوقة موسيقى تعزف أجمل الألحان و كأن الفضاء الممتد تحت جناحيه ينبض بالحب و يهمي على الأرض عطورا فواحة ، و لكنه حين صار عاجزا اضطر إلى العيش في الوهاد و السفوح بروح مرتجفة و نفس تكتنفها الأحزان ، و في الوهاد و السفوح استنسرت الطيور الصغيرة عليه و راحت تتلهى به و تسخر من ضعفه ، أما سائر الطيور فقد هجرته و راحت تسبح في عباب النور بالنهار مغردة لاهية ، فإذا حل الليل استراحت ثم قامت في الهزيع الأخير من الليل تناجي بقايا النجوم و حين يطلع الصباح و ينطلق النسيم محملا بروائح الأزهار و تخرج الطيور من أعشاشها لكي تناغي الحقول الخضراء و ترضع ضوء الشمس الساطع ، تلك الطيور التي لم يكن يأبه لها غدت تطير بمحاذاته حينا و حينا تطير أعلى منه فيئن و يتألم على ما صارت إليه حاله من الهوان :
هأنا في السفــــــــــــوح مرتجف الـروح رعيــــــــــــــش تلفـــــــــــني أتراحي
يتلــــــــهى بي البغـــــــــــاث و يستنــــــــسر هــــــــزءا بضـــــــــعفي المستباح
عاجزا صرت ، بــعد أن كنت في الجـــــــــو مليكا يزيـــــــــــن جسمي وشاحي
أستشف المجهـــــــــــول أفتـــرع الأفــــــق و نفـــــسي تمـــــــــــــوج بالأفراح
و حوالي يهــــــــزج الطيـــــــر نشوا ن فيذكي مــــــــــــــلاحني و صداحي
فكأن الوجـــــود جــــــوقة موسيـــقى تغــــــــــــني بلحنـــــــــــــها الممراح
و كأن الفضـــــــــــاء ينبـــــض بالحــــــب و يهـــــــــمي بعطـــــــــــره الفواح
هجرتني الطيـــــــــور و انطلقت عنــــــــي بعيـــــــــدا تجـــــــوب كل النواحي
في عباب الضيـــــــــاء تفتن في اللهــــــــو و تفــــــــــضي بســـــــــرها البواح
و تناجي النجـــــــــوم و السحر الساجي و فــــوح النسيــــــــم في الأصباح
و تناغي الحقول ترضع ضوء الشمــــــــس صبـــــــــحا في لهــــــــفة و مراح
تارة تعتــــــــلي و طـــــــــورا تدانيــــــــني فتـــــــــزري بأنـــــــــتي و نواحي
و إذا كانت الأبيات السابقة تصور هزيمة الطائر على مستوى فقدانه لمكانته المتميزة بين الطيور عندما فقد قواه و أصابه الوهن ففي الأبيات التالية يتحدث الشاعر على لسان طائره مصورا المستوى الثاني من هزيمته المتمثل في فقدانه إلفه ، يقول الطائر في حسرة مشوبة بالمرارة إن ما أشعل الأسى في قلبه أن إلفه الذي كان مصدر تفاؤله و بشراه و منبع رغبته في الحياة و ثقته الدائمة بنفسه قد سلاه و تخلى عنه و طار مع أسراب الطير غير عابئ بآلامه و أحزانه و جملة " و الذي أشعل الأسى في ضلوعي " تدل على أن مصيبته الثانية هي الأصعب و الأفدح ، لقد بح صوته و هو يتضرع إلى إلفه الغادر ألا يتخلى عنه و يتركه وحيدا ، لكن دون جدوى مع الأسف فقد ذهبت توسلاته و تضرعاته أدراج الرياح و تلك فكرة ثانوية أضافها الشاعر إلى الفكرة المحورية فصارت مأساة الطائر مركبة " مكانة مضيعة و إلف غادر " :
و الذي أشعل الأسى في ضلـــــوعي .. أن إلفي و كان بشـــــرى صباحي
و حنيـــــــــني إلى الحيــــــــاة و إيماني بنفسي في غــــــدوتي و رواحي
قد سلا و طار بيـــــن جمـــــوع الطير يشـــــدو على أعـــــــــالي البراح
فتضرعـــت مستغيـــــــــثا إلى أن بح صـــوتي فلــــم يصـــــــخ لبحاحي
و تأتي الأبيات الخمسة الأخيرة لتكشف عن أن الطائر المهزوم كان في النص قناعا رمزيا يختبئ وراءه الشاعر الرومانسي فهو يرى في البيتين التاليين أن أفدح ما يتعرض له الحر هو الشعور بالهوان عندما تفل سلاحه الظروف غير الملائمة ، و أن لجرح النفس الحرة آلام تهون دونها كل آلام الجراح الجسدية :
آه ما أفدح الهــــــــوان على الحــــر و مــــا أقسى أن يفـــــــــل سلاحي
إن جرح الأحرار في النفـوس نزف ساخــــن دونـــــه جميـــــع الجراح
و تختلف نهاية نص عبد العليم عيسى عن النصوص السابقة في أن الشاعر الذي تقنع في النص ( كفرد أو ممثلا لجماعة ) بقناع الطائر المهزوم بالرغم من أن ما حدث معه أخمد في نفسه جذوة التحدي كما أشار في بداية البيت الرابع من النص إلا أن هذه الجذوة بدأت فيما يبدو تتقد من جديد دون أن يقدم لنا الشاعر تفسيرا لذلك فقد أعلن تحديه لكل الظروف السيئة معتصما بالأمل و مؤكدا أنه سيتخلص من قيوده و ينتزع حريته عندما يكسو الريش جسمه من جديد و أنه سيعلو فوق آلامه و أوجاعه النفسية و الجسدية لأن قلبه مفعم بيقظة الحياة التي تغريه بعدم الاستسلام للأمر الواقع و تشحذ همته للكفاح ضد كل ما يحول دون تحقيق حلمه ، و فكرة تحدي الظروف السيئة و اعتزام مقاومتها و عدم استسلام الطائر لأوجاعه و آلامه و الإصرار على استعادة مكانته المضيعة التي جاءت في الجزء الأخير من النص زادت من ثرائه فكريا و عززت من مقومات تميزه بين أغلب النصوص المتداعية عن نص " العقاب الهرم":
غير أني رغم المواجع و القهر سأستل من قيودي سراحي
و ستكسو الرياش جسمي فأعلو و أغني في فرحة و انشراح
لم تزل يقظة الحياة تناديني و تغري عزيمتي بالكفاح




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى