سعد عبد الرحمن - العقاب الهرم و تداعياتها في الشعر العربي الحديث.. الجزء الرابع

و النص الرابع من تداعيات " العقاب الهرم" قصيدة هارون هاشم رشيد " النسر الجريح " و تتكون من خمسة عشر بيتا قدم لها بهذه الكلمات النثرية : " في زحمة الأقدار و في غضب الإعصار تهاوى من ذراه جريحا ضعيفا إلى السفوح " و تأتي القصيدة تعليقا على هذا الحدث الجلل فالشاعر يرفض أن يكون مصير النسر الذي لا يعيش إلا في الأعالي فوق القمم و الذرى أن يهبط ليعيش مع بغاث الطير في السفوح
يخاطب الشاعر نسره الذي هوى من عليائه مهيبا به أن ينهض و يحلق فإذا كانت الأقدار شاءت أن يهيض جناحه و يعتريه الضعف و العجز فليس عليه أن يستسلم لليأس و يعيش ذاهلا عما حوله فالأسى و الظمأ قد يقضيان عليه :
قم انشر جناحيـــــك أطلقهما .. و هاك الوجود و عرض السما
إلام تظـــل مهيـــــض الجنا .. ح تخبط في اليــــــأس مستسلما ؟
و يعروك في كل حين ذهول .. و يقضي عليك الأسى و الظما
و يكرر الشاعر خطابه للنسر بأن يتحامل على نفسه و ينهض ليطير و يحلق في " سماء الخلود " كما تعود و يفصح هذا التعبير عن أن النسر الذي يخاطبه الشاعر ليس نسرا حقيقيا و إنما هو هنا رمز للأمة العربية التي نكبت عام 1948 و نكست عام 1967 و لكنها قادرة إذا توافرت لها الإرادة و العزيمة على أن تتجاوز نكباتها و نكساتها و تحلق في سماء الخلود و تبلغ الأنجم لتسترد حقوقها المسلوبة :
تحامل و طر في سماء الخلود .. و جاوز إلى حقــــــك الأنجما
و لكي يستحث الشاعر نسره كسير الجناح على مغالبة ما به من ضعف و وهن يذكره بما كان عليه من قبل من عزة و منعة و أن رضاه بالعيش على السفوح قريبا من الأرض لا يليق به فالحياة على الأرض غير الحياة في السماء ، على الأرض حياة ملؤها النفاق و الكذب و الرؤية الغائمة ؛ حياة مترعة بالخداع و المراوغة تأصل فيها الزيف و استحكم و هي بلا شك حياة لن يستطيع مثله احتمالها :
أليست عشاشك مــــهد الطمـوح .. ألست لهـــــــــا العاشـق المغرما ؟
ألم تــــك بالأمس أمس القريــب .. لديــــــها المعـــــــزز و المكرما ؟
فماذا جرى كيــــف شاء الزمان .. بأن تستبــــــــــــاح و أن تحرما ؟
و ماذا على الأرض غير النفاق .. و غيــــر الكذاب و غيـــر العمى ؟
خداع يــــــــراوغ في ذلـــــــــة .. و زيــــف تأصـــــل و استحكما
و يواصل هارون هاشم رشيد مناداة نسره الجريح أن يتحامل على نفسه و يحاول الطيران في الفضاء الرحب كما كان يفعل قبل ان تدهمه الكارثة لأن من العار عليه أن ينكص أو يحجم عن المحاولة ، و كي يستفزه و يستثير حميته يسأله عن نخوته أين ذهبت ؟ و يحذره من عار الذل و العبودية ، فمثله لا يليق به أن يموت كما يموت بغاث الطير على الأرض ، و يختم نصه كما بدأه حاثا إياه على التحليق و الطيران :
تحامل و طر في الفضاء الرحيـــب فإن مـــــن العــــــــار أن تحجما
إذا لم تطــــــر أنت مــــنذا يطيــــــــر و منذا يحـلق فــــــــوق الحمى ؟
أما فيـــك من نخــــــوة للوثــــو ب تهز بها النــــــــــــوم و النوما ؟
ألـــيس مـــن العــــــار أن تستذ ل و أن تستـــــــــرق و أن تهزما ؟
أليس مـــن العار مــــوت النســو ر على الأرض لا في عنان السما ؟
تحامــل و غلغل وراء الخطــــو ب و أطلـــق جناحيــــــــك اطلقهما
النص يشترك مع نص عبد العليم عيسى في أنه غير مقصور على الفكرة المحورية " المكانة المضيعة " فقد أضاف إليها الشاعر فكرة " ضرورة التحدي " و عدم الاستسلام لنتائج المكانة المضيعة المأساوية ، و لكن النص مع الأسف متوسط المستوى و بصفة خاصة من الناحية الفنية ، فالخطابية مسيطرة عليه ؛ و يكثر الشاعر فيه من تكرار أفكاره الجزئية و تعبيراته دون مبرر بلاغي قوي ، و الرؤية في النص غير مقنعة فالشاعر لم يستطع توظيف رمزه " بشكل جيد ، لذلك جاء توظيفه مجرد استبدال شكلي مكشوف للنسر الجريح بالواقع العربي المهزوم و هذا جعل الرمزية في النص فجة مفضوحة ، و ما دمنا في معظم أجزاء النص أمام الواقع العربي المهزوم الذي أخفق الشاعر تماما في تلبيسه برمز" النسر الجريح " فمن حقنا أن نسأل الشاعر : هل النداءات المتكررة للواقع العربي المهزوم كي ينهض كافية لحثه على أن يفعل ذلك ؛ أم أن أي فعل له مقوماته التي لا يتحقق بدونها ؟ .
أما سليمان العيسى فهو صاحب النص الخامس من تداعيات " العقاب الهرم " - و نصه الذي يحمل عنوان " قصة نسر " يقع في أربعة مقاطع كل منها ستة أبيات ما عدا المقطع الأخير فهو من بيتين فقط و تتنوع القافية في المقاطع الأربعة فلكل مقطع قافيته - و لم تتغير الفكرة المحورية في نصه فقد ظلت هي " المكانة المضيعة " كما في النصوص السابقة ، و لكنها لم تتجل في نص العيسى من خلال فقدان النسر لقواه مرضا أو شيخوخة و إنما من خلال التحول المأساوي في مصيره من صياد إلى صيد و من مفترس إلى فريسة.
قصة النسر يرويها الشاعر الذي تقمص دور الراوي الماثل أمامنا في النص و تبدأ بأن صاحبه خرج في جماعة للصيد فرأى النسر باسطا جناحيه ينظر من فوق صخرة شاهقة الارتفاع إلى الهاوية السحيقة تحته مستهزئا ، و كان النسر يشحذ منقاره استعدادا للصيد عندما صوب صاحب الشاعر نحوه بندقيته و أطلق عليه رصاصة أصابته في مقتل فطوى النسر جناحيه و مال بعنقه الدامي على الصخر عندما أغلق الموت مقلتيه :
رآه عــــــلى صخـــــــــــرة باسطا .. جناحيــــــــــه يسخـــــر بالهاوية
يحــــــــدد منقـــــــــاره فالفضـــاء .. فريـــــــــسة نظــــــــــرته العاتية
و لعلعت النـــــــار مـــــن مكمـــن .. قريــــــب عـــلى كتـــــف الرابية
و شك الرصاصـــــــــة في عنقــه .. فلـــم يلتفــــــــت و امحـــــت ثانية
و مال على الصخر يسقي الهــواء .. رذاذا مـــــــن الطعنـــــــــة الدامية
و لم الجناحيـــــــــن في رعشـــــة .. و أغلــــــــق مقلتــــــــــه الضارية
في المقطع الثاني نجد الراوي الماثل أمامنا في النص يواصل من خلال الراوي المتواري ( صاحب الشاعر ) وصف النسر بعد إصابته القاتلة و قبل أن يسلم الروح ، فيخبرنا الشاعر على لسان صاحبه صائد النسر بأن الطائر المهيب لم يبد أية مقاومة حين راحوا يشدون وثاقه و هو مضرج في دمائه ، ظل يدير لحاظه فقط فيمن حوله مستسلما بالرغم من أنه قبل ذلك كان يتأبى مستكبرا على الألم و الموت ، و بالرغم من أن النسر غدا جثة هامدة في النهاية إلا أنه كان يملأ بالرهبة نفوس كل المحدقين فيه ، و إنه لأمر يدعو إلى الزهو الظفر بطائر كالنسر صيدا:
و تابع قصتــــــــــــه صاحبي .. لقد أسلم الريـــش حــــامي الذرى
لقد كان شيئا رهيـــــــــــبا يحوم على جرحه و هــــو يسقي الثرى
شددناه لــــم ينتفض للوثــــــــاق و لا لــــــم رجليــــــــــه مستنكرا
يديــــــر بنا لحـــــظ مستسلم ، على المـــــــوت و الألـــــم استكبرا
و قدنــــــــاه تمـــــــلأنا رهبة و شيء مـــن الزهـــــــــو أن نظفرا
أبو القمم الشم مـــن صيــــدنا أبو القمم البيــــــض حــــامي الذرى
و في المقطع الثالث يعيد الشاعر وصف النسر الصريع و هو مقيد القدمين و كيف هوى مضرجا في دماه حين أصيب برصاصة الصياد ، و كيف ودع كبره و تخلى عن سلطانه ، لقد مات على السفح من ظل طوال عمره لا يسكن إلا القمم و لا يعيش إلا في الذرى ، و قد أجال النسر الصريع قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة نظرة حادة كالقضاء في وجوه الصيادين و حوم منتفضا و هو يهوي إلى أسفل فترك على الريح رشة من دمائه المسفوحة :
و في خيـــــمة شدها الصائدون .. على الصخر عنـــــد ظلال الجبل
هــــــوى ابن الذرى عنقا داميا .. و حبلا عـــــلى الساقتيــــــن انفتل
لقــــــد ودع الكبـــــــر سلطانه .. و مات على السفح زهـــــــو القلل
و في شهقة البرق بيـــن السحا .. ب و في لمحة دون ومــض الأجل
أجال بنــــــا نظــــــرة كالقضا .. ء و حــــــــوم منتفضــــــا كالأجل
على الريــــــــح من دمه رشة .. عن الريــــــح عــــــن دمـه لا تسل
و يأتي المقطع الأخير من النص و هو من بيتين فقط كتعليق من الشاعر على قصة الطائر الذي كان صيادا فصار صيدا ؛ قصة النسر الذي تعود الافتراس فغدا هو الفريسة و يختم الشاعر نصه الذي اكتمل بخطاب وجهه إلى أولئك الذين يصيدون متسترين بالظلام أماني وطنه و أحلامه محذرا إياهم من رضا البلاد بالقيود و استسلامها لسكينة الذبح و البيتان :
إلى مــن يصيدون خلف الظلا .. م أمــــــاني بــــــلادي و أحلامها
حذار .. إذا استسلـــــمت للوثا .. ق و غضــــــت لسكيــــنكم هامها
و من وجهة نظري فإن البيتين السابقين يشبهان البيت الأخير في قصيدة عمر أبي ريشة ( زائدة دودية ) من حيث أنه كان يمكن الاستغناء عنهما دون أدنى تأثير سلبي على النص الذي اكتمل بناء و دلالة قبلهما ، هذا فضلا عن تقريريتهما و إن حملا فكرة جزئية إضافية لكنها فكرة فضحت الرمز في النص و ضيقت من نطاق دلالته .
و نص سليمان العيسى في عمومه مع الأسف كنص هارون هاشم رشيد متوسط في مستواه الفني و زاخر بالتكرارات غير البلاغية دون أية نقلة إلى الأمام لا فنيا و لا فكريا ، فتفاصيل مشهد احتضار النسر تكاد تكون متكررة في كل المقاطع عدا المقطع الأخير بل إن التكرار كان على مستوى التعبيرات إلى درجة استخدام نفس المفردات كتكرار تعبير " حامي الذرى " في نهاية البيت الأول و نهاية البيت الأخير من المقطع الثاني .
و يأتي البيتان اللذان يتكون منهما المقطع الأخير في النص و كأنهما أضيفا إلى النص بعد الانتهاء من كتابته كمحاولة من الشاعر لجعل النص يخرج من حيز الفكرة العامة إلى الفكرة ذات الخصوصية من خلال ربط دلالته بالقضية الوطنية ، و لكن البيتين كما بينا فضحا الرمز في النص و ضيقا من نطاق دلالته الرحب ، أراد الشاعر من خلال بيتيه التحذير من أن يكون مصير الوطن في ضياع مكانته الرفيعة كمصير النسر الذي تحول من صياد إلى صيد ، و لكن لنا أن نتساءل لماذا بنى الشاعر فكرة نصه " المكانة المضيعة " على واقعة اصطياد صاحبه للنسر ؟ لقد أقامها على أساس غير مقنع ، فلماذا يصطاد الصياد النسر و هو من الطيور التي لا يؤكل لحمها و لا ينتفع بريشها إلا أن يكون في الأمر رمز و لكن الرمز غير واضح لأن الرؤية مرتبكة و مضطربة ، فمن الغريب و المحير مثلا أن يوجه الشاعر تحذيره من اغتيال أماني الوطن و أحلامه إلى من يصفهم بقوله " يصيدون خلف الظلام " و هؤلاء بلا شك أعداء الوطن لا أبناؤه أو أحباؤه ، و مما يثير الغرابة و الحيرة أكثر أن الشاعر في المقطع القصير الأخير لا يحذر هؤلاء الأعداء من رفض الوطن الاستسلام لسكينهم و إنما يحذرهم من استسلامه للذبح ، لذلك لا نكون مبالغين إذا قلنا أن الرؤية الشعرية في النص مرتبكة و مضطربة بشكل ملحوظ .





  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى