سعد عبد الرحمن - العقاب الهرم و تداعياتها في الشعر العربي الحديث.. الجزء الخامس والأخير

يتبقى بعد نص آخر بديع هو " النسر الجريح " لفوزي العنتيل ، يتكون النص من ثلاثة مقاطع الأول و الثاني كل منهما من تسعة أبيات بينما المقطع الثالث و الأخير من عشرة أبيات ، لكل مقطع قافيته الخاصة .
يبدأ النص بهبوط النسر من عليائه حزينا مجروح القلب ، أغراه السفح بمظاهر البهجة التي تنعم بها الطيور الصغيرة في أحضان طبيعته الجميلة فهبط إليه و ليته ما هبط ، لقد علق مع الأسف بشرك صياد نصبه فأحكم نصبه ، حينئذ صار الصياد صيدا و راحت الطيور تتجرأ عليه و هو عالق في الشرك لا يستطيع خلاصا و لطالما تجرأ بغاث الطير و الناس على القوي الذي صار ضعيفا أو العزيز الذي ذل :
هبط النسر من رحاب فضائه .. مغلقا روحه على أرجائه
طاويا قلبه الكبير على الجرح مذيبا أحزانه في إبائه
غره السفح ترقص الطير فيه .. بين أعشابه و سحر روائه
غره الجدول المرنم تسري .. همسات الغصون في أحنائه
و العصافير حوم واثبات .. بين أضوائه و ورقة مائه
فانثنى خافق الجناحين يطوي .. شاطئ الأفق سابحا في رجائه
فاحتوته حبالة أحكم الصائد إرسالها على أرجائه
و الجناح الذي يصفق للنجم و يروي أشواقه من ضيائه
نقرته الطيور ، و الطير تغرى بالضعيف القوي في برحائه
و في المقطع الثاني الذي اختار له الشاعر قافية النون و هي تلائم حالة الحزن التي أحدقت بالنسر و يصور الشاعر تلك الحالة من خلال مجموعة من الصور الجزئية يغلب على تشكيلها الطابع الرومانسي ، وتذكرنا صورة النسر هنا بصورة النسر عند عمر أبي ريشة ، و لم تنفع النسر زعقاته الحزينة التي كان يطلقها و هو في حبالة الصياد مغلولا لكنه تحامل على ضعفه و سما فوق جرحه و قيده فخفق غاضبا بجناحه في وجه الريح ثم هوى خائر القوى صريعا ، لقد أثقل جناحه اليأس فتوقف قلبه الجريح عن الخفقان :
و أطل الصباح من كوة الأفق على شاطئ الزمان السجين
شاربا أدمع الزهور ، مريقا .. بسمات الطيور فوق الغصون
و مشى النسر في القيود فدوت .. زعقات المصفد المحزون
غزل الضوء فوق جفنيه حلما .. ظامئ الشوق مستهام الحنين
مد عينيه للسماء و ألقى ضعفه المستباح عبر الظنون
رفرفت روحه فشد جناحا .. يضرب الريح عاصفا في جنون
ناسيا جرحه العميق و قيدا .. ضم فكيه كانطباق المنون
فهوى النسر خائرا يتلوى .. فوق آلامه أسير الشجون
و الجناح الجبار أثقله اليأس فأودى بقلبه المطعون
و يختم العنتيل قصيدته بمقطع يرسم فيه للنسرعقب سقوطه المأساوي صورة زاخرة بمشاعر الأسى و الرثاء ، لكن ما حاول الشاعر أن يتعزى به عن مصرع النسر هو لياذه بالأوهام كما تدلنا عبارة " يا صباح الأوهام " ، لقد انعتق النسر من أحزانه حتى و إن كان ذلك في عالم الأوهام ( اوهام الشاعر الحزين على مصرع النسر ) فأصبح النسر حرا طليق الروح و غدا عظة خالدة عبر مختلف الأزمنة للعظمة المقهورة و عبرة لا تبلى للمكانة المضيعة و العظمة المقهورة مهما توالت العصور :
و مضى النسر قصة رددتها همسات الأمواج بين الصخور
في صباح يغشى الضباب حوافيه فيهتز بالسنا المقرور
حطمته الأقدار لم تشفق الريح على قلبه الأبي الكسير
لا و لم تعطف الطيور عليه روحها في صراعه المقهور
يا صباح الأوهام لملم رفات النسر و انضح جراحه بالعطور
رو أحلامه الجميلة و اسكب فوق أشواقه دموع الغدير
بأغاني الطيور أدفئ لياليه و عطر أجواءها بالزهور
إن يكن قد قضى فإن أمانيه و أحلام صمته المسحور
أطلقت روحه فأبحر في الأفق إلى شاطئ الوجود الكبير
بشراع منور مستهام دف في هدأة السكون المثير
ناشرا في الغروب ظل جناح شاعري يجوب ليل العصور
و القصيدة تعد من الشعر الرمزي فالنسر فيها معادل موضوعي للشاعر الذي تتماهى حالته النفسية في النص إلى حد كبير مع حالة النسر و لكن دون إفصاح كما فعل أبو ريشة في خاتمة نصه ، و أجواء القصيدة الزاخرة بالتهويمات الرومانسية و حضور الطبيعة و مظاهرها بقوة في النص ، و التدقيق في كثير من الجمل و الصور و المفردات يجعلنا نقول دو انتقاص من قيمة القصيدة أن نص عمر أبي ريشة كان حاضرا بقوة في ذهن العنتيل و هو يكتب نصه البديع هذا .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى