المشهد الأول:
-- (إنهم يا سيدي يمتلكون البئر الأغزر مياها في الصحاري كلها، ولن يدَعوا ماشيتنا تشرب منه قطرة ماء أبدا..!) هكذا قال له الجندي الدهمائي وهو رافع يده اليمنى بتحية فاترة، قبل أن يتراجع للوراء قليلا، منحنيا للأمام باحتراس، ويجلس القرفصاء بتواضع شديد على بساط من الحرير الإفريقي التقليدي المزركش أمام "البيضاوي"، الذي يجلس على كرسي خشبي مزخرف بألوان سائلة مختلفة، ويحك ذقنه الحليق، محدقا في غانية تجرجر فستانا ورديا شفافا بفتحات تمتد من ساقيها البيضاوين إلى منبت بطنها الرقيقة، وهي تتمايل على أنغام الإمزاد أمامه، وفي يدها اليمنى كأس يتلألؤ فيه نبيذ رقيق تذوب معه في نشوة.. لم يجبه البيضاوي الذي بدا ثملاً بعض الشيء، بل اقتصر على التحديق في ساقي الجارية وكأنه يقيس مدى تناسب حركات ساقيها المنتظمة مع انبعاثات رنين الإمزاد، أو أنه يتغزل بمؤخرتها في صمت، ويتمنى أن يفرغ فيها نزوته، فلما لم يجب أضاف الجندي بصوت خفيض حتى لا يكاد يسمع: -- (ماشيتنا كثيرة، ولا يكفيها ما لدينا من الآبار يا سيدي، وعلينا أن نطلب من "بني الهواء" أن يعطونا حصة في بئرهم ولو بمقابل، فهو يكفينا كلنا، وإلا هلكت الماشية).. لم يجبه البيضاوي مرة أخرى، بل واصل يبحلق بنشوة في مؤخرة الجارية المزهوة بحركاتها الخفيفة المتسقة وكأنها طاووس رشيق.. تمايل يمينا على الكرسي الخشبي قليلا ثم أرسل وسط الخيمة الجلدية الكبيرة بخار حشيش الهيروين، مشيرا بعينه في صمت للعجوز الدرداء، التي تقرع الإمزاد أن تتوقف، ثم ساد الصمت قليلا، فاختفت العجوز مع الجارية كظلال أرواح الموتى.. أطبقت لحظة صمت قليلا قبل أن يفتتها البيضاوي بصوته المبحوح من شدة التدخين متسائلا دون أن يعلق بشكل مباشر على كلام الضابط المخلص "اَنِيرَمْ" : - (هل ترى في نفسك أهلية لأن تترأس وفدا إلى زعيم بني الهواء "اَمِيهَغْ" لتبلغه رغبتنا في أن ينزل شرف ضيف على مضاربنا هنا في قرية "ضَارَتْ آمَانْ"؟)..
بدا الانفتاح على أسارير الجندي وهو ينظر إلى ببغاء تقف على قفص خشبي مصغر بجوار البيضاوي وهي تغالب رياحا طفيفة تدفعها من مؤخرتها كي تسقطها على وجهها قبل أن تتراجع.. بعد لحظة صمت رد انيرم متسائلا:
-- ولكن، ماذا لو رفض قبول الدعوة يا سيدي؟ أنت تعرف أن هؤلاء القوم يمتنعون عن إقامة العلاقات مع غيرهم إن لم تكن على غير مقاساتهم هم، وبشروطهم هم..
-- خذ معك ما يكفي من الجند للحماية وامشي، وكفاك تساؤلا..
المشهد الثاني:
بقامته الطويلة المهيبة رغم طعنه في السن، تربع اميهغ على الفراش الحريري وسط خيمة البيضاوي، وعلى رأسه عمامتان؛ إحداهما بيضاء صغيرة الحجم، تلفها أخرى سوداء أكبر منها حجما، وقد امتقعت عيناه حتى احمرت بسبب امتصاص بشرة وجهه للّون السائل للعمامة السوداء.. في يده اليمنى سهم طويل ثبّته في الأرض وسط الفراش، وأسند عليه ترسا أبيض من جلد ظبي، مثلث الأعلى والأسفل، وفي وسط صدره تنبثق مجموعة هائلة من التمائم المغلفة في جلد مصبوغ بلون أحمر، ومشدودة بواسطة حبل طويل في عنقه، لحمايته من شر كل خناس يوسوس فيه إنسان فيكفر بضميره.. خلف الزعيم اميهغ اصطف أولاده الخمسة الذين يحرسونه..
بصوت رفيع ينِمُّ عن أُحجية غير مكشوفة قال البيضاوي الذي نزل عن كرسيه إكبارا للنزيل، وجلس القرفصاء أمامه وجها لوجه: (يسعدنا جدا أن يكون سليل الهواء اميهغ ضيف شرف على مضاربنا، سيكون هذا يوما لن ينساه تاريخ قُرانا أبدا، وسيحفر في ذاكرة الأجيال مدى الأبد)..
تنحنح اميهغ وسعل قبل أن يرد باقتضاب على المضيف: (إنه شرف لنا نحن أيضا).. بكت الريح في الخارج حتى تمايلت لها أغصان الأشجار، ولفظت الشمس أنفاس الحريق على رؤوس الجنود الذين يصطفون تحتها مشهِرين سيوفهم بحماقة الخنازير، فليس ثمة أحمق من الجندي سوى الماشية(الشعب) كما يقول أنيرم في الليالي التي يتعبه فيها غباء الحراسة.. بعد لحظةٍ تثاءبَ البيضاوي دون أن يغلق فمه بيده ففتح الموضوع: (أنتم على علم بأننا نملك ماشية كثيرة، ولا نملك من الآبار ما يكفي لأن نشرب منه نحن ويبقى للغنم شيء تشربه بعد ذلك.. إما أن نشرب نحن فتموت الماشية التي نعيش على كثافتها، وإما أن تشرب الماشية فنموت نحن وهذا حماقة)، ثم خرس قليلا محدقا في اللثام السفلي لضيفه، وكأنه ينتظر منه إكمال فكرته، لكنه لقي تساؤلا جافا: (لكن ألا تكفى الآبار لشربكم كلكم إذا لم تشبعوا حد التخمة؟ أفلا يمكن أيضا التناوب، كأن تشربوا يوما، ويشرب الجند يوما، وتشرب الماشية يوما؟ هذا ما نفعله نحن رغم أننا لا نعيش على مياه بئرنا أصلا، فهو رغم غزارته إلا أنه عميق جدا وليس لدينا جياد تستطيع أن تنزع منه الدِّلاء المملوءة بالماء، ليس لنا سوى الماعز والماعز لا تصلح لهذه المهمة)
حدجه البيضاوي بنظرة سريعة قبل أن يبتسم ويعلق بتأكيد: (نعم الماعز فعلا لا تصلح لمهمة كهذه، لهذا فإنني سأقترح عليك حلا بسيطا لهذه المشكلة هو أن توفر لنا يوما واحدا في بئركم كل أسبوع، مقابل أن أهبكم ثلاثة خنازير مدربة بشكل جيد على نزع الدلاء المليئة بالمياه من الآبار العميقة، ومدربة بشكل جيد أيضا على تنقيح المياه الوسخة كذلك حتى تحصلوا عليها وهي خالصة سائغة للشاربين)
بدت علامات الرفض على وجه اميهغ الذي يفك ورقا بلاستيكيا ملفوفا على حشيش التبغ ليمضغ منه القليل، فيمزجه في فمه برماد أسود، ثم يبصق من خارج الفراش لُعابا طويلا من الخليط الكريه لمزيج التبغ والحشيش، ثم انتهى إلى التساؤل باستغراب: (خنازير؟ وهل هناك ما يمكن أن تتدرب عليه الخنازير بالله عليك؟ ثم إن... ثم إنها محرمة لدينا عرفيا لأنها خبيثة وقبيحة جدا يا صاحب السمو.. لا تنس أننا...) قاطعه البيضاوي بضحكة خفيفة ماكرة قبل أن يرد وهو يلتفت إلى الابن الطويل الذي يقف كوثَن من الحجر خلف ضيفه: (إنها فعلا كذلك، جرِّبْ فلن تندم، إن عجزتْ عن أداء دورها فهذا يعني أنه لا يوم لنا في البئر، وإن أدّت الواجب كان كما أردنا)
(لكن ماذا عن عرفنا الذي يمنعها) قال له اميهغ باحتجاج..
غير البيضاوي من جلسته فجلس على قدمه اليسرى قبل أن يتهكم: (أعرااف؟ الأعراف هذه مجرد قيود وهمية صنعناها لنحد بها من انفلات مواشينا ليس إلا، فهل أنت أيضا تؤمن بهذه الترهات يا إلهي؟)
لم يجبه.. اقتصر على الإيماء برأسه، فتم توقيع الاتفاقية..
المشهد الأخير
عندما وصلوا إلى حيث بدأت كثبان آضاغ تنحدر ساجدة بتواضع شديد لجبروت جبال آسْكَرِمْ وهم يصطحبون خنازيرهم الثلاث، ويتمايلون هم الستة على ظهور جمالهم، والخنازير على ظهر حمار واحد والوثيقة مع كبيرهم، وبدأت الكهوف السوداء تخنق انثياب الرمل بأخاديد وعرة غير منتظمة في مسيرتها المؤدية إلى مدخل أخدود حجري يفصل بين كهفين كئيبين ظلَّا يقاومان أشعة الجحيم الأبدية التي تصبها الشمس على قممهما منذ بدأ الخليقة رشقتهم مجموعة متفلتة من أتباع اميهغ نفسه بنبال مشتعلة لهبا لكنها كلها سقطت على منحدر الكثيب الراكع خلفهم في بداية امتداد الصخر..
صرخ اميهغ لابنه الكبير: (احمي الخنازير أنت في النفق أمامك، أما أنتم البقية الأربعة فليذهب اثنان منكم لمدخل الجبل الشمالي وينبطحوا في مغارته، والاثنان الآخران يتسللان عبر الأخدود الحجري هذا إلى مغارات الجبل الجنوبي ويختبؤا فيه إلى أن نتمكن من هؤلاء الشياطين، لكن لا تنسوا: لا تتقاربوا جدا بحيث يمكن القضاء عليكم بضربة واحدة، ولا تتباعدوا أيضا بحيث لا يستطيع أي منكم إنجاد الآخر لدى الضرورة، احفظوا هذه الوصية دائما وأبداً في كل حرب) وما إن أكمل نصيحته وبدأ ينيخ جمله شاهرا سيفه حتى اخترقه سهم في وسط حنجرته فبدأ يتخبط في الأرض.. هرع إليه ابنه الكبير فسدد له شبح عارٍ يستر عورته البشعة بقطعة من ليفٍ تتدلدل من أسفلها خصيتاه الكريهتان برمية سهم خلّفتْ أزيزا في الهواء من شدة القوة، فتصدى لها بترسه فانزلقت عليه أسنان الرمح الطائش فانحرفت مسيرته إلى جزع شجرة على يساره فانغرس فيها السهم.. صرخ الابن الكبير الذي شاهد الشيطان خلف الصخرة على يمينه: (ستدفع الثمن غاليا أيها الإبليس اللعين) ثم استل سيفه بعد أن رفع لثامه العلوي إلى ما فوق الحاجبين قليلا فجرى إليه بجنون.. رماه بسهم آخر فتصدى له بترسه مجددا.. ظل يرميه بالسهام التي ينجح الآخر في التصدي لها دائما إلى أن ضربه بترسه الجلدي الصلب على جبهته فاستلقى على ظهره.. رفع سيفه ليشطره نصفين فجاءه الوعيد: (إن قتلته فإننا سنذبح إخوتك جميعا كما قتلنا أباك الأحمق) التفت خلفه فشاهد إخوته جميعا قيد الأسر، مكبلين بالأصفاد فترك سيفه الصقيل يتهاوى على الأرض قرب وجه السفاح الملعون، وتهاوى عليه هو الآخر، وهو يشاهد بحزن عميق وجه أبيه المقتول جنبه على مدخل الأخدود الذي تتدلى فيه رجلاه، رغم أن صدره ظل خارج الأخدود وهو مبتسم نحو السماء ابتسامة الموتى المريعة..
***
(لا تحارب الضعفاء أبدا حتى لا تلوث سمعتك دون مبرر، استأجر ضعفاء آخرين غرباء عنك واجعلهم يقومون لك بالمهمة، سيصعب جدا حينها أن يتنبأ أحد أنك أنت الفاعل) هكذا قال البيضاوي المنتشي بقنينة نبيذ إيطالية لجاسوسه المخضرم أنيرم الذي يقهقه بخبث أمامه جالسا على مروج خضراء، قبل أن يطرح عليه سؤال الانتشاء: (انتصرنا عليهم إذن؟ هها هاا)
-- (هه هه.. نعم انتصرنا.. اميهغ قُتل على يد أتباعه، وأولادُه تم نفي كل واحد منهم إلى بعض الممالك المجاورة على أيدي أتباع والدهم أيضا.. الآن ستوفر لنا خنازيرنا المياه بالمقدار الذي نطلبه، والأجمل أن اسمنا سيظل نظيفا لأننا الأذكى، والبقاء دائما للأذكى) وحدَّق وهو منتش بشدة في عيني ضابطه التي لمع له فيها نذير شؤم الطمع والانقلاب..!
-- (إنهم يا سيدي يمتلكون البئر الأغزر مياها في الصحاري كلها، ولن يدَعوا ماشيتنا تشرب منه قطرة ماء أبدا..!) هكذا قال له الجندي الدهمائي وهو رافع يده اليمنى بتحية فاترة، قبل أن يتراجع للوراء قليلا، منحنيا للأمام باحتراس، ويجلس القرفصاء بتواضع شديد على بساط من الحرير الإفريقي التقليدي المزركش أمام "البيضاوي"، الذي يجلس على كرسي خشبي مزخرف بألوان سائلة مختلفة، ويحك ذقنه الحليق، محدقا في غانية تجرجر فستانا ورديا شفافا بفتحات تمتد من ساقيها البيضاوين إلى منبت بطنها الرقيقة، وهي تتمايل على أنغام الإمزاد أمامه، وفي يدها اليمنى كأس يتلألؤ فيه نبيذ رقيق تذوب معه في نشوة.. لم يجبه البيضاوي الذي بدا ثملاً بعض الشيء، بل اقتصر على التحديق في ساقي الجارية وكأنه يقيس مدى تناسب حركات ساقيها المنتظمة مع انبعاثات رنين الإمزاد، أو أنه يتغزل بمؤخرتها في صمت، ويتمنى أن يفرغ فيها نزوته، فلما لم يجب أضاف الجندي بصوت خفيض حتى لا يكاد يسمع: -- (ماشيتنا كثيرة، ولا يكفيها ما لدينا من الآبار يا سيدي، وعلينا أن نطلب من "بني الهواء" أن يعطونا حصة في بئرهم ولو بمقابل، فهو يكفينا كلنا، وإلا هلكت الماشية).. لم يجبه البيضاوي مرة أخرى، بل واصل يبحلق بنشوة في مؤخرة الجارية المزهوة بحركاتها الخفيفة المتسقة وكأنها طاووس رشيق.. تمايل يمينا على الكرسي الخشبي قليلا ثم أرسل وسط الخيمة الجلدية الكبيرة بخار حشيش الهيروين، مشيرا بعينه في صمت للعجوز الدرداء، التي تقرع الإمزاد أن تتوقف، ثم ساد الصمت قليلا، فاختفت العجوز مع الجارية كظلال أرواح الموتى.. أطبقت لحظة صمت قليلا قبل أن يفتتها البيضاوي بصوته المبحوح من شدة التدخين متسائلا دون أن يعلق بشكل مباشر على كلام الضابط المخلص "اَنِيرَمْ" : - (هل ترى في نفسك أهلية لأن تترأس وفدا إلى زعيم بني الهواء "اَمِيهَغْ" لتبلغه رغبتنا في أن ينزل شرف ضيف على مضاربنا هنا في قرية "ضَارَتْ آمَانْ"؟)..
بدا الانفتاح على أسارير الجندي وهو ينظر إلى ببغاء تقف على قفص خشبي مصغر بجوار البيضاوي وهي تغالب رياحا طفيفة تدفعها من مؤخرتها كي تسقطها على وجهها قبل أن تتراجع.. بعد لحظة صمت رد انيرم متسائلا:
-- ولكن، ماذا لو رفض قبول الدعوة يا سيدي؟ أنت تعرف أن هؤلاء القوم يمتنعون عن إقامة العلاقات مع غيرهم إن لم تكن على غير مقاساتهم هم، وبشروطهم هم..
-- خذ معك ما يكفي من الجند للحماية وامشي، وكفاك تساؤلا..
المشهد الثاني:
بقامته الطويلة المهيبة رغم طعنه في السن، تربع اميهغ على الفراش الحريري وسط خيمة البيضاوي، وعلى رأسه عمامتان؛ إحداهما بيضاء صغيرة الحجم، تلفها أخرى سوداء أكبر منها حجما، وقد امتقعت عيناه حتى احمرت بسبب امتصاص بشرة وجهه للّون السائل للعمامة السوداء.. في يده اليمنى سهم طويل ثبّته في الأرض وسط الفراش، وأسند عليه ترسا أبيض من جلد ظبي، مثلث الأعلى والأسفل، وفي وسط صدره تنبثق مجموعة هائلة من التمائم المغلفة في جلد مصبوغ بلون أحمر، ومشدودة بواسطة حبل طويل في عنقه، لحمايته من شر كل خناس يوسوس فيه إنسان فيكفر بضميره.. خلف الزعيم اميهغ اصطف أولاده الخمسة الذين يحرسونه..
بصوت رفيع ينِمُّ عن أُحجية غير مكشوفة قال البيضاوي الذي نزل عن كرسيه إكبارا للنزيل، وجلس القرفصاء أمامه وجها لوجه: (يسعدنا جدا أن يكون سليل الهواء اميهغ ضيف شرف على مضاربنا، سيكون هذا يوما لن ينساه تاريخ قُرانا أبدا، وسيحفر في ذاكرة الأجيال مدى الأبد)..
تنحنح اميهغ وسعل قبل أن يرد باقتضاب على المضيف: (إنه شرف لنا نحن أيضا).. بكت الريح في الخارج حتى تمايلت لها أغصان الأشجار، ولفظت الشمس أنفاس الحريق على رؤوس الجنود الذين يصطفون تحتها مشهِرين سيوفهم بحماقة الخنازير، فليس ثمة أحمق من الجندي سوى الماشية(الشعب) كما يقول أنيرم في الليالي التي يتعبه فيها غباء الحراسة.. بعد لحظةٍ تثاءبَ البيضاوي دون أن يغلق فمه بيده ففتح الموضوع: (أنتم على علم بأننا نملك ماشية كثيرة، ولا نملك من الآبار ما يكفي لأن نشرب منه نحن ويبقى للغنم شيء تشربه بعد ذلك.. إما أن نشرب نحن فتموت الماشية التي نعيش على كثافتها، وإما أن تشرب الماشية فنموت نحن وهذا حماقة)، ثم خرس قليلا محدقا في اللثام السفلي لضيفه، وكأنه ينتظر منه إكمال فكرته، لكنه لقي تساؤلا جافا: (لكن ألا تكفى الآبار لشربكم كلكم إذا لم تشبعوا حد التخمة؟ أفلا يمكن أيضا التناوب، كأن تشربوا يوما، ويشرب الجند يوما، وتشرب الماشية يوما؟ هذا ما نفعله نحن رغم أننا لا نعيش على مياه بئرنا أصلا، فهو رغم غزارته إلا أنه عميق جدا وليس لدينا جياد تستطيع أن تنزع منه الدِّلاء المملوءة بالماء، ليس لنا سوى الماعز والماعز لا تصلح لهذه المهمة)
حدجه البيضاوي بنظرة سريعة قبل أن يبتسم ويعلق بتأكيد: (نعم الماعز فعلا لا تصلح لمهمة كهذه، لهذا فإنني سأقترح عليك حلا بسيطا لهذه المشكلة هو أن توفر لنا يوما واحدا في بئركم كل أسبوع، مقابل أن أهبكم ثلاثة خنازير مدربة بشكل جيد على نزع الدلاء المليئة بالمياه من الآبار العميقة، ومدربة بشكل جيد أيضا على تنقيح المياه الوسخة كذلك حتى تحصلوا عليها وهي خالصة سائغة للشاربين)
بدت علامات الرفض على وجه اميهغ الذي يفك ورقا بلاستيكيا ملفوفا على حشيش التبغ ليمضغ منه القليل، فيمزجه في فمه برماد أسود، ثم يبصق من خارج الفراش لُعابا طويلا من الخليط الكريه لمزيج التبغ والحشيش، ثم انتهى إلى التساؤل باستغراب: (خنازير؟ وهل هناك ما يمكن أن تتدرب عليه الخنازير بالله عليك؟ ثم إن... ثم إنها محرمة لدينا عرفيا لأنها خبيثة وقبيحة جدا يا صاحب السمو.. لا تنس أننا...) قاطعه البيضاوي بضحكة خفيفة ماكرة قبل أن يرد وهو يلتفت إلى الابن الطويل الذي يقف كوثَن من الحجر خلف ضيفه: (إنها فعلا كذلك، جرِّبْ فلن تندم، إن عجزتْ عن أداء دورها فهذا يعني أنه لا يوم لنا في البئر، وإن أدّت الواجب كان كما أردنا)
(لكن ماذا عن عرفنا الذي يمنعها) قال له اميهغ باحتجاج..
غير البيضاوي من جلسته فجلس على قدمه اليسرى قبل أن يتهكم: (أعرااف؟ الأعراف هذه مجرد قيود وهمية صنعناها لنحد بها من انفلات مواشينا ليس إلا، فهل أنت أيضا تؤمن بهذه الترهات يا إلهي؟)
لم يجبه.. اقتصر على الإيماء برأسه، فتم توقيع الاتفاقية..
المشهد الأخير
عندما وصلوا إلى حيث بدأت كثبان آضاغ تنحدر ساجدة بتواضع شديد لجبروت جبال آسْكَرِمْ وهم يصطحبون خنازيرهم الثلاث، ويتمايلون هم الستة على ظهور جمالهم، والخنازير على ظهر حمار واحد والوثيقة مع كبيرهم، وبدأت الكهوف السوداء تخنق انثياب الرمل بأخاديد وعرة غير منتظمة في مسيرتها المؤدية إلى مدخل أخدود حجري يفصل بين كهفين كئيبين ظلَّا يقاومان أشعة الجحيم الأبدية التي تصبها الشمس على قممهما منذ بدأ الخليقة رشقتهم مجموعة متفلتة من أتباع اميهغ نفسه بنبال مشتعلة لهبا لكنها كلها سقطت على منحدر الكثيب الراكع خلفهم في بداية امتداد الصخر..
صرخ اميهغ لابنه الكبير: (احمي الخنازير أنت في النفق أمامك، أما أنتم البقية الأربعة فليذهب اثنان منكم لمدخل الجبل الشمالي وينبطحوا في مغارته، والاثنان الآخران يتسللان عبر الأخدود الحجري هذا إلى مغارات الجبل الجنوبي ويختبؤا فيه إلى أن نتمكن من هؤلاء الشياطين، لكن لا تنسوا: لا تتقاربوا جدا بحيث يمكن القضاء عليكم بضربة واحدة، ولا تتباعدوا أيضا بحيث لا يستطيع أي منكم إنجاد الآخر لدى الضرورة، احفظوا هذه الوصية دائما وأبداً في كل حرب) وما إن أكمل نصيحته وبدأ ينيخ جمله شاهرا سيفه حتى اخترقه سهم في وسط حنجرته فبدأ يتخبط في الأرض.. هرع إليه ابنه الكبير فسدد له شبح عارٍ يستر عورته البشعة بقطعة من ليفٍ تتدلدل من أسفلها خصيتاه الكريهتان برمية سهم خلّفتْ أزيزا في الهواء من شدة القوة، فتصدى لها بترسه فانزلقت عليه أسنان الرمح الطائش فانحرفت مسيرته إلى جزع شجرة على يساره فانغرس فيها السهم.. صرخ الابن الكبير الذي شاهد الشيطان خلف الصخرة على يمينه: (ستدفع الثمن غاليا أيها الإبليس اللعين) ثم استل سيفه بعد أن رفع لثامه العلوي إلى ما فوق الحاجبين قليلا فجرى إليه بجنون.. رماه بسهم آخر فتصدى له بترسه مجددا.. ظل يرميه بالسهام التي ينجح الآخر في التصدي لها دائما إلى أن ضربه بترسه الجلدي الصلب على جبهته فاستلقى على ظهره.. رفع سيفه ليشطره نصفين فجاءه الوعيد: (إن قتلته فإننا سنذبح إخوتك جميعا كما قتلنا أباك الأحمق) التفت خلفه فشاهد إخوته جميعا قيد الأسر، مكبلين بالأصفاد فترك سيفه الصقيل يتهاوى على الأرض قرب وجه السفاح الملعون، وتهاوى عليه هو الآخر، وهو يشاهد بحزن عميق وجه أبيه المقتول جنبه على مدخل الأخدود الذي تتدلى فيه رجلاه، رغم أن صدره ظل خارج الأخدود وهو مبتسم نحو السماء ابتسامة الموتى المريعة..
***
(لا تحارب الضعفاء أبدا حتى لا تلوث سمعتك دون مبرر، استأجر ضعفاء آخرين غرباء عنك واجعلهم يقومون لك بالمهمة، سيصعب جدا حينها أن يتنبأ أحد أنك أنت الفاعل) هكذا قال البيضاوي المنتشي بقنينة نبيذ إيطالية لجاسوسه المخضرم أنيرم الذي يقهقه بخبث أمامه جالسا على مروج خضراء، قبل أن يطرح عليه سؤال الانتشاء: (انتصرنا عليهم إذن؟ هها هاا)
-- (هه هه.. نعم انتصرنا.. اميهغ قُتل على يد أتباعه، وأولادُه تم نفي كل واحد منهم إلى بعض الممالك المجاورة على أيدي أتباع والدهم أيضا.. الآن ستوفر لنا خنازيرنا المياه بالمقدار الذي نطلبه، والأجمل أن اسمنا سيظل نظيفا لأننا الأذكى، والبقاء دائما للأذكى) وحدَّق وهو منتش بشدة في عيني ضابطه التي لمع له فيها نذير شؤم الطمع والانقلاب..!